يؤلمني واقع المسلمين اليوم لاسيما العرب وهم يعيشون حالة من الوثنية في ممارسة فريضة الحج التي أبعدوها عن ماهيتها المفترضة وحولوها إلى مجرد أعمال تقليدية أبعدتها عن سموها وغايتها فحينما أجد الحجاج يلبون لبيك اللهم لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك أنظر إلى حالهم وأتعجب متسائلا أين التوجه إلى الله وهم يلبون نداء السلطة ويحمدون يد الرئيس ويسدون النعمة لصاحب العمل ويشركون فيما يقومون به ولي الأمر وصدقاتهم إلى جمعيات طويل العمر وسعادة البيه وحضرة الباشا ومؤسساتهم الخاصة .
وثنية عصرية لا تختلف عن أختها الجاهلية الأولى إذ كانت كل قبيلة تلبي وتطوف عند البناء المكعب لبيوت أرباب الجاهلية ويعيرون عندها ويقدمون طقوسهم للرب ويخلعون ما عليهم من ثياب عصوا فيها ربهم ثم ترجع كل قبيلة إلى مشارفها واهمين أنفسهم بالرضا والنقاء ثم ماذا غير القتل والثأر فيما بينها تماما كما نحن عليه اليوم فترانا مجتمعين خالعين ثيابنا ولابسين إحرامنا ويرانا العالم الآخر أننا متحدون تجمعنا شريعة إسلامية واحدة وصلاة واحدة وبيت واحد لكننا في الواقع أمة إسلامية متناحرة كل دولة تقض مضجع الدولة الأخرى تفرقنا في بداية رمضان واختلفنا في نهايته وها نحن اليوم يقف في عرفات جمع منا ويقف الآخر مجبرا بالقرب منه مكرها فعنده اليوم الثامن من ذي الحجة وليس التاسع وتناظر كل مجموعة الأخرى ويعرف كل شخص من سحنته أنه مخالف له ولا أجانب الحقيقة إن قلت إن كل مجموعة تزدري الأخرى ولا غرابة إن سمعت أحدهم وهو في صعيد عرفات يدعو ويقول : اللهم عليك بالرافضة / اللهم عليك بالمبتدعة / اللهم عليك بالأحباش / اللهم عليك بالإسماعلية / اللهم عليك بالمتصوفة …..إلخ ويرى هذا الدعاء نصرة للدين وتقربا إلى الله في شهر الحج .
مخجل حقا أن نقرأ قوله تعالى :(( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ )) وتتحول تلك المنافع سرقات واحتيال عند أصحاب الحملات والفنادق والشقق بأسعار مضاعفة عما كانت عليه قبل الحج وكأن هذه الأيام المعدودة تعويضا لهم عن باقي أيام السنة ولإعلانات الحملات وذكر أصحابها والقائمين عليها لا لذكر الله وكل ذلك تحت مسمى خدمة ضيوف الرحمن والواقع أنه خدمة للمكاسب التجارية وتعبئة الجيوب وإشباع البطون في شهر الحج ولو سألت أحدهم عن أهم الحوادث التي حدثت في هذا الشهر أكاد أجزم أنه لا يعرف غير مقر حملته ومكاتبها أما دخول الرسول صلوات الله عليه وسلامه مكة لحجة الوداع وزواج ابنته السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في هذا الشهر وغيرها من الحوادث فلا تمثل له شيئا غير تاريخ واندثر مع وفاة الرسول ولم يبق منه غير بناء الكعبة ومحيطها وجبل عرفات .
فلسفة غريبة لفريضة الحج يظنها بعضهم أنها عبادية ويتقرب بها إلى الله لكنها في الحقيقية محيرة وتبعث على التعجب ففي الوقت الذي نرى فيه الحجاج يتسابقون لتقبيل الحجر الأسود أسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واقتداءًا بسنته أراهم في الجانب الآخر يغفلون عن تقبيل الرسول لولديه ويترضون عن قتلة أولاده ويوادون أعداء بيته ويكرمون مبغضيهم ولا أعرف هل الاقتداء بالرسول في تقبيل الحجر الأسود ونسيان العترة المحمدية أم المسألة ترجع لوثنية الفكر والعقل التي تُظهر لنا جانبا وتخفي جوانب أخرى أكثر أهمية وروحانية إرضاء لصنمية الجبت والطاغوت في نفوسنا وتقديسا للمؤسسة الدينية في بلداننا ورجال الله فيها .
للأسف أقول إن تحويل الحج لأعمال روتينية دون التعمق في جوانبه الروحية ساهم في تعزيز وثنية النفوس والرجوع بها إلى نقطة الصفر وتلاشت معها العقيدة الصافية التي من قيمها قوله تعالى ((وَأَذَانٌمِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِيَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَالْمُشْرِكِينَوَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِنتَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِالَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) براءة من الشيطان في كل عصر ومكان نقولها ونحن مجتمعين متوحدين ولكن أنى يكون ذلك ونحن نرمي الجمرات والدنيا في نفوسنا متعلقين بها تعلق الرضيع بثدي أمه ولسان حالنا يقول ( غصبا عني يا شيطان ) فأنت مالك السيارات والطائرات والأحذية الراقية والمنتجعات البحرية والوجبات السريعة ولست متبرئا منك ولا تاركا لك فبعد سويعات ينقضي الحج ونرجع كما كنا لا تفرقنا حصاة ولا تبعدنا أشواط ولا يؤخرنا سعي صفا ولا مروة .
مرارة تطفو على نفسي وأشعر معها بالألم وأنا أكتب هذه السطور وأستحضر تلك الصور الممجوجة ويزداد الأسى حينما أبصر الحجاج يأتون مكة ويستقبلهم أحد المذيعين ليسألهم عن أحوالهم وشعورهم بالحج والخدمات المقدمة والفنادق المؤجرة والخيام المنصوبة وهم يجهلون وقفة الرسول في (غدير خم ) وما فيها من إشارات عظيمة أقل ما فيها استشعار وجود الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وهو يرسم خط الدولة الإسلامية بسياستها وأخلاقها الصافية ولأصبح ذلك المكان موقفا لجميع المسلمين يتبادلون فيه التهاني وينضم لفرحتهم بعيد الأضحى ولكن هيهات يحصل هذا ومعظم الحجاج لم يقرأ في حياته عن تلك الوقفة ولا كلمتين هما ( غدير خم ) التي أقسم لو كانت هذه الوقفة لأحد الأنبياء في الديانات الأخرى وهم قريبو عهد بها لأقاموا قصرا فيها للمؤتمرات السياسية والاجتماعية يستحضرون فيها معاني تلك الوقفة وتجلياتها لكنها الوثنية الغارقة في الجهل التي تسأل عن الفندق والخيمة وأكل الفول والكبسة وتترك القيم والقدسية وتجلي الأرواح .
للأسف هذه هي فريضة الحج عند بعض المسلمين وهذا هو حالهم فيه أخذوا من الحج ظاهره واكتفوا راجعين إلى ديارهم حاملين معهم المسابيح والمزامير وماء زمزم وحب الفصفص ولم ينالوا منه غير المشقة والتعب تماما كما الوثنية الأولى .