أي شيء في العيد أهدي إليك؟
أي شيء في العيد أهدي إليك؟
بقلم: زياد ابوشاويش
بدأنا صباح عيد الأضحى المبارك بزيارة مقبرة الشهداء القديمة بمخيم اليرموك في دمشق كعادتنا في كل عيد، وما إن وطأت قدماي أرض باحة النصب التذكاري الضيقة حتى شعرت بنسائم عطر زكي تفوح روائحه فتملأ المكان عبقاً لا يضاهيه المسك وقد ازدانت جوانبها بباقات الورد الكبيرة من منظمات وفصائل وشخصيات ومؤسسات العمل الوطني الفلسطينية على اختلاف برامجها واهتماماتها، وبديهي أن يلتقي الجميع ويتوحدوا حول الشهداء.
قرأت الفاتحة على أرواح شهداء لم ينالوا حظوة المكان لكنهم نالوا حظوة الشهادة وكرم الله عز وجل ونتذكرهم اليوم بكل الحب والتقدير باحثين عن جثامينهم وأماكن رقودهم الأبدي لنقدم لهم فروض المحبة والتقدير. المرور يبدأ بمثاوي الشهداء الأقرب وهي لقادة كبار من أبناء الشعب مضوا إلى سبيل ربهم من أجل حرية شعبهم واستعادة وطنهم السليب فاستحقوا مكانتهم المرموقة. هنا يرقد أبو جهاد وإلى جانبه زهير محسن وبعدهما وخلفهما ثلة من الكبار، محمد عباس “ابوالعباس” وطلعت يعقوب وصبري صيدم وغيرهم ممن بعثوا روح الأمل بعودة الأرض وعودة اللاجئين إليها.
تشاهد وأنت تنظر إلى المقبرة ككل غطاءاً بألوان العلم الفلسطيني، إنها فعلاً أعلام فلسطين وضعت على شواهد القبور جميعها بالإضافة لإكليل الورد وسعفة الآس. تنهي الجولة وأنت تغذ الخطى للحاق بزملاء بدأوا بمقبرة الشهداء الجديدة في نهاية شارع اليرموك وتصادف بعضهم فتقرئهم السلام وتصافحهم على عجل وتلج لدوحة أخرى تبدأ بمثوى أؤلئك الذين اضطرت إسرائيل لتسليمهم في التبادل الأخير مع حزب الله وتشم أيضاً رائحة المسك وأزكى وعيناك تصافح أسماء هؤلاء العظام الذين كتبوا هناك على ربوع فلسطين أسماءهم وفيهم من دول عربية متعددة.
وهنا أيضاً نمر على شواهد رجال كبار قدموا النموذج للحب والوفاء لشعبهم لأتوقف طويلاً وكعادتي في كل عيد عند قبر الشهيد فتحي الشقاقي الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي وصاحب الفكر الثاقب في مزج الإلتزام الروحي والديني مع القناعة والالتزام الوطني وتسبيقه الوطن بعد الله على ما عداه والذي كان دائماً يقول أنه لا دين إلا من خلال الوفاء بدين الوطن…رحمه الله وكل الشهداء. وبعد
عدت فأمضيت اليوم وأنا أفكر في أمر وحيد هو ” أم الشهيد “. كيف تقضي وقتها في العيد؟ كيف تستقبل يومها وكيف تودعه؟ من يواسيها في مثل هذا اليوم وبماذا؟ كيف كانت تفاصيل الساعات أو اللحظات الأخيرة قبل وداعها لفلذة كبدها وغيابه الأبدي عن عينها؟ والأهم كيف نجعل العيد لها دائماً؟
أتذكر تلك الأم من مخيم النصيرات وكان ولدها الشهيد ابراهيم الشطلي قد سقط في معركة مع قوات الاحتلال الصهيوني شمال غرب المخيم وهي تمشي بخطى ثابتة في شوارع المخيم وتزغرد والصبية والشباب خلفها ومن حولها يهتفون: ” يا ام الشهيد وزغردي كل الشباب ولاديكي “، وحين أتذكر تلك الصورة الجليلة والحزينة يتساقط الدمع من عيناي رغم كل الاستعدادات التي أقوم بها لمنع ذلك حتى استطيع إكمال ما أكتب. لأم ابراهيم وابنها العظيم الشهيد ابراهيم الشطلي حبنا ووفاؤنا ولكل الأمهات والشهداء سنبقى على العهد وفلسطين تستحق ذلك.
أتذكر ولو بالخيال تلك الأم من الشجاعية ودعت ابنها وهي توصيه أن لا يعود إلا شهيداً ونظراتها تفيض حباً وحناناً وهي تحتضنه مبتسمة كما لو كانت تحسده على الخاتمة التي سعى إليها فكتبت له، فهل هناك أعظم من هكذا أم؟ وأتذكر أخريات كان جوابها حين تلقت خبر رحيل إبنها الذي قد يكون وحيداً ” إنا لله وإنا إليه راجعون “. وأخرى قائلةً: ” ابني وكمان أنا فدى فلسطين الحبيبة “. وآلاف الأمثلة يمكن أن تقال في هذا المقام عن أمهات شهدائنا، ولن نخوض في سيرة ما قبل الاستشهاد أو أثناء الأسر لمن تذوق طعمه قبل الشهادة. اليوم وفي العيد أتذكر والدتي بحبها الكبير وعظمة تضحيتها من أجل أبنائها بعد رحيل والدهم فأعرف بعمق أكبر ما أتحدث عنه تجاه أمهات الشهداء وعائلاتهم، ويبقى السؤال الذي لا يبرح عقلي وقلبي ووجداني، السؤال الذي لابد يخطر في بال الجميع وهم يستقبلون عيد الأضحى بمعانيه الكبيرة وقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع ولده يوم الفداء العظيم وهو سؤال يجب أن نعطيه حقه من الإجابة والتنوع بهدف واحد هو أن توضع أم الشهيد كأولوية في التكريم وترسيم النموذج الطيب والعظيم للفداء والحب والوفاء.
سؤال نشرعه في قلوبنا قبل أن نسطره حبراً على أوراقنا وأمام أعين المسؤولين والقادة، سؤال نوجهه لكل أم مع باقة حب وإجلال: ” أي شيء في العيد أهدي إليك؟ ” يا أمنا، يا أعظم الأمهات؟ كل عام وكل عيد وانتن بخير….نقبل أيديكم وأقدامكم.
زياد ابوشاويش
27 / 11 / 2009