قبل حتى أن "تشفط" المياه الآسنة و تبدأ جدة "المنكوبة" بتضميد جراحها، تصاعدت أصوات عشرات الكتاب وعدد لا يحصى من القراء، منادين بمحاسبة المتسببين في "كارثة الأربعاء"، و مطالبين بفتح ملف الفساد المالي و الإداري وحالة الإهمال واللامبالاة المتفشية في بعض الدوائر الحكومية، بسبب انعدام الرقابة ومحاسبة "الهوامير" والمقصرين.
من المتسبب ؟ المطر؟ القضاء والقدر؟ أو "هوامير" البشر؟
ذهب بعضهم إلى رفض اعتبار أن الخسائر الكبيرة في الأرواح والممتلكات التي نجمت عن الأمطار الغزيرة التي هطلت على جدة صباح الأربعاء وما سببته السيول الجارفة من دمار، هي مجرد كارثة طبيعية أو مسألة قضاء و قدر.
ورغم أن أغلب الكتاب والقراء لم يقللوا من دور الأمطار والسيول في الكارثة، و لم يعترضوا على قضاء الله وقدره، إلا أن مجمل الاتهامات كانت موجهة إلى المتنفذين من البشر، أو "الهوامير" (وهو مصطلح متداول في الخليج منذ الطفرة الاقتصادية الأولى ويعني كبار المستثمرين المتحكمين في سوق الأسهم).
و في مقال ساخر بعنوان "جِدّة الشّيْخ والمَسؤول!" ("المدينة")، يسأل عبدالله منور الجميلي شيخه الافتراضي : "مَن المسؤول عن أرواح أزْهِقت وممتلكات غَرقت و أموال عامة أُهْدِرَت؟ هل هي مصلحة الأرصاد، التي لم تنبّه المواطنين لما هو آتٍ؟ هل المسؤول هو دفاع مدني لا يملك العدد ( يعني عدد المنقذين)، ولا الإمكانات، ولا القدرات؟ هل المسؤول أمانةُ وبلديات سمحت بإقامة الأحياء في بطون الأودية والمنخفضات، وأهدرت المليارات من الريالات دون أن تعالج مشاكل تصريف المياه مِن سنوات؟".
ويرد الشيخ قائلا: "ألسَت مؤمنًا يا رجل؟ إنه قَضاء وقَدر". و يعلق الكاتب: "مِسكين أيُّها القدر، نقَدّمك دائمًا ذريعة للمسؤول لتبرير قصوره الإداري، وغياب ضميره الوطني! إننا لا نريد دروسًا في القدر، فتلك مُسَلّمات شربناها مع حليب أمهاتنا! ما نريده محاسبة المسؤول ومساءلته!".
جريمة مع سبق الإصرار والترصد
ورغم أن بعض المسؤولين، كوزير النقل، أكدوا أن "عروس البحر" غرقت لأن بعض الأحياء المنكوبة قَامَت على مجرى السيول والأودية، ورفضوا تحميل المسؤولية لجهة ما، إلا أن هناك اتفاقً بين الغالبية العظمى من الكتاب والقرّاء على وجوب فتح ملف مشاريع أمانة المحافظة والتحقيق فيها، خاصة، كما يشير الدكتور عبد العزيز الصويغ في صحيفة "المدينة" أن "الأضرار الكارثية شملت مشاريع جديدة تم إنجازها حديثًا، مثل جسر ونفق الملك عبدالله الذي غمرته الأمطار بالكامل".
ويذهب زميله عبدالعزيز السويد في "الحياة" للحديث عما يشبه العمل المدبر، إذ يقول: "هناك إنشاءات جديدة فاخرة لم تُفتح أبوابها إلا منذ أشهر قليلة تضررت … ونحن هنا أمام منشآت كلفت كثيراً، على أحدث المواصفات العالمية كما قيل عنها، وعملت عليها أكبر شركات الإنشاءات في البلاد".
ويضيف: "وإذا استمر الوضع كما كان، أي من دون محاسبة معلنة وشفافية حقيقية، فمن المتوقع أن تتكرر المأساة، بل قد تكون مثل هذه المآسي «فرصة» لأشغال ومقاولات جديدة، وإعلان حاجات جديدة. بلايين لا تتضح فوائدها للسكان البسطاء".
و لتفنيد "المزاعم" بأن سبب الكارثة هي "المباني العشوائية" في الأودية و مجاري السيول، نشر موقع "الساحة" عدة صور لجامعة الملك عبدالله بعد الكارثة، وتساءل: "هل يعقل بأن هذه هي الجامعة التي كلفت المليارات ولا يوجد بها تصريف لمياه الأمطار ؟".
جاء وقت الحساب
ومن بين أشد المطالبات بفتح هذا الملف، ما جاء على لسان المحامي والناشط الحقوقي السعودي عبد الرحمن اللاحم، في مقال بعنوان "جدة والقطط السمان"، إذ قال: " الكارثة لابد أن تكون نقطة تحول نحو فتح ملف الفساد الكبير من خلال خلق بيئة تشريعية تمكن (الناس) من ملاحقة المفسدين والفاسدين عبر جمعيات أهلية مستقلة"، مضيفا أن " الأبرياء الذين أزهقت أرواحهم يجب ألا تذهب دمائهم سدى ، فهم قتلى الفساد".
واختتم قائلا: "أتمنى أن تدفع تلك الكارثة مجموعة من الغيورين على الوطن وعلى مستقبله ومستقبل أبناءه بأن يتقدموا بطلب لإنشاء جمعية لمكافحة الفساد لوزارة الشئون الاجتماعية (…) فجمعية من هذا النوع هدفها ملاحقة لصوص المال العام".
ويشاطره الرأي العديد من الكتاب، على غرار صالح محمد الشيحي الذي يشدد في "الوطن" على أن "المسؤولية متراكمة عبر السنين (…) فإن كنا جادين وصادقين يجب أن نبحث عن جذور المشكلة"، مناديا: "ابحثوا عن الذين دشنوا المأساة وحاسبوهم.. افتحوا ملفات الشركات التي ما تزال ترتدي عباءة الوطنية، تلك التي ابتلعت المليارات مقابل حجر أساس غمرته سحابة عابرة.. أعطونا كشف حساب بالمشاريع التي تمت ترسيتها طيلة السنوات الماضية.. أعطونا بيان بأسماء رجال الأعمال الذين تصدت شركاتهم ومؤسساتهم للمليارات ولم تتصد للبناء".
جدة … غير
وبنبرة تهكمية، يكتب عبدالله منور الجميلي في "المدينة": "وحتى لا تُسجّلُ القضية ضِد مجهول، دعونا نبحث عن المسؤول (…) فقد يكون المواطن، لأنه صلّى صلاة الاستسقاء ورفع يديه للسماء طلبًا للماء! (…) وقد يكون الفَاعِل جَدة نفسها، لأنها تريد أن تكون "غير"، فهي تغرق في شِبْر ماء!".
"فعلا .. جدة غييييييير". يرددها الدكتور حمود أبو طالب في صحيفة "عكاظ"، معللا ذلك بأن "ما صرف عليها غير ما صرف على مدن أخرى مشابهة لها في الظروف والاتساع والبيئة.. مليارات لا حصر لها تتدفق في ميزانيات أجهزتها منذ زمن طويل وهي إلى الأسوأ دائما".
ويخلص إلى القول بأن "المشكلة ليست في المال ولكن في سوء إدارة المال، وعدم محاسبة المقصرين كما يجب (…) جدة يا إخواننا وأخواتنا ليست سوى صورة مكبرة لنتائج الفساد المزمن الذي لا يسأل عنه أحد".
"عجوز البحر"
ويتفق الجميع على أن "عروس البحر" الأحمر قد شاخت و أصيب بالشلل نتيجة الإهمال.
"فالعروس «جدة»، تلك التي كانت تبحث عن قطرة ماء، غَرِقَت في أول لقاء حقيقي مع من كانت تبحث عنه"، كما يقول على القاسمي في مقال بعنوان "بكاء «العروس» في يوم العيد".
ويتساءل خميس السعدي، نائب مسؤول تحرير صحيفة "الاقتصادية"، "من خان العروس؟".
"إنني أتساءل؟.. هل الفساد الإداري المطبق على أنفاس أمانة جدة ورائحته النتنة الكريهة التي تملأ الأنفاق والمرادم وبحيرة المسك والغابة الشرقية وكوبري الستين وحلقة الأغنام والخضار وغيرها، هو السبب في كارثة جدة ؟ إنها كارثة فعلاً إن لم تكن مجزرة متعمدة بغير قصد".
كل "فاسد" صغير.. يحميه "فاسد" كبير"
أما محمد الرطيان، فيقول في "الوطن": "علينا أن نمتلك الشجاعة ونعترف أن ما حدث في جدة هو كارثة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى (…) و السبب الوحيد الذي يطل برأسه وبشكل مخيف هو: الفساد!".
و يطرح الرطيان سلسلة من "الأسئلة الجارحة" في مقال قصير و معبر بعنوان "ويُرمى هذا المقال في سلة المهملات!"
"من الذي سمح لهؤلاء "الهوامير" بأن يكونوا جزءاً من هذه المشكلة؟ هل كان "القانون" – لحظة ارتكابهم لهذه المشكلة – نائماً؟… أم متواطئا؟ أليس بينهم من هو واجهة لشخصية نافذة؟ من الذي امتلك هذه "المخططات"؟.. وكيف تم توزيعها؟.. ومن الذي أصدر صكوكها؟.. وكيف وصلتها الخدمات، وتحولت إلى أحياء، وهي غير قانونية بالأساس؟.. أين "النظام" لحظتها؟ ألا يوجد "فاسد" واحد في هذا البلد يستحق أن يُشهر به ويحاكم علانية نظير ما فعله بالبلاد والعباد؟".
وينتهي إلى الخلاصة: "يُقال إنه قيل لأحدهم: أنت متهم باختلاس مئات الملايين؟ قال: أنا لم آخذ من الجمل سوى "أذنه"! ولم يخبرنا من الذي أخذ بقية "الجمل" بما حمل! كل "فاسد" صغير.. يحميه "فاسد" كبير".