أرشيف - غير مصنف

عصفورة “نورمبرج ” وعصفورة ” تونى بلير “

وفاء إسماعيل
 
* في صحيفة القدس العربي نشر يوم الأحد 29/11/2009م خبر بعنوان : (رسالة سرية تكشف أن بلير كذب بشأن شرعية الحرب على العراق ) نقلا عن صحيفة (ميل أون صندي ) وكشفت الصحيفة أن المدعي العام البريطاني السابق اللورد غولد سميث وجّه رسالة سرية إلى بلير في يوليو/ تموز 2002، أي قبل ثمانية أشهر من غزو العراق، لتحذيره من أن الإطاحة بنظام صدام حسين ستكون خرقاً صارخاً للقانون الدولي، مشيرة إلى أن لجنة التحقيق حول حرب العراق ستقوم باستجواب بلير مطلع العام المقبل بشأن هذه الرسالة… وطوال فترة الأسابيع الماضية قد سبق ظهور تلك الرسالة اعترافات لقادة عسكريين غربيين ، ووثائق أمريكية تؤكد أن بوش وبلير خططا للحرب حتى قبل 11 سبتمبر بعام على الأقل .. كل ما ظهر من وثائق ( وما خفي كان أعظم ) وتناولتها كبرى الصحف العالمية فى هذا الوقت بالذات ربما له مغزى وهدف ودلالة لا يخطئها العقل ، فدعونا نفكر بطريقة الغرب المعروفة عنه ، ونكون على نفس الدرجة من الخبث ، ونتساءل ما الجديد الذي أتت به تلك الوثائق ؟ وهل كان أصحاب العقول بحاجة لأدلة مادية تدين شياطين الغرب بجرمهم بحق العراق ؟
* حملة التهليل والتطبيل لتلك الوثائق التي خرجت للعالم تباعا على الرغم من أهميتها إلا أنها لم تثبت حقائق كانت مجهولة بالنسبة لأحرار العالم ..فرسالة اللورد غولد سميث التي أكدت لتونى بلير أن الإطاحة بنظام صدام هو انتهاك صارخ للقانون الدولي .. لم تأت تلك الرسالة بجديد أو بحقيقة كانت خافية على احد لان القانون الدولي بالفعل ينص على عدم جواز احتلال اى دولة بالقوة والإطاحة بنظامها ، بل وتحريم الحرب وعدم استخدام القوة في العلاقات الدولية ، فالمواد 42-51 من الميثاق هي المواد الوحيدة التي تتعامل مع الاستخدام الفعلي للقوة، ولا يوجد في ميثاق الأمم المتحدة أية مادة تخول أي عضو من أعضائها استخدام القوة من جانب واحد، عدا الحالة المحددة والمقيدة والتي نصت عليها المادة 51 وهو الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم، إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء ’’ الأمم المتحدة’’ وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي ، والعراق لم يعتدي لا على بريطانيا ولا على أمريكا ، إذن رسالة غولد سميث هي فقط مجرد رسالة رجل قانوني يدلى بدلوه لبلير تذكيرا له بنصوص القانون الدولي ، وليست شجاعة منه أو بطولة تحسب له ، فكل رجال القانون الدولي في العالم قالوا ما قاله سميث ( ولا أدرى هل كان هناك ثمة فرق بين ما قاله سميث وبين ما قاله جهابذة القانون في العالم ؟ ) ، وأما عن كارت الإرهاب الذي استخدمه بلير ضد سميث فهو لان بلير اعتقد أن الشعوب كلها في العالم تجهل مواد ونصوص القانون الدولي ، واعتقد بغبائه أن إخفاء تقرير جولد سميث هو إخفاء لنور الشمس التي تسطع نهارا في الشرق الأوسط … أو ربما عز عليه أن يخرج من بنى جلدته من يشكك في مصداقية بلير أمام العالم خاصة من شخصية بوزن المدعى العام ، مع أن وزير الخارجية السابق روبن كوك استقال في مارس/ آذار 2003م من منصبه كوزيرا للعلاقات مع البرلمان بسبب معارضته المشاركة البريطانية في الحرب على العراق بدون تفويض من الأمم المتحدة. وكانت استقالة كوك الذي كان بمثابة "ضمير" للحكومة من أقسى الضربات التي تلقاها بلير منذ توليه رئاسة الوزراء ، وأيضا وزيرة التنمية ( كلير شورت ) استقالت من حكومة بلير اعتراضا على عدم مشروعية الحرب على العراق وهاجمت حكومة رئيس الوزراء توني بلير, قائلة إنها تساعد الولايات المتحدة على ترهيب الأمم المتحدة في قضية العراق. وقالت شورت في سياق عرضها لمجلس العموم البريطاني دوافع استقالتها إن رئيس الحكومة "يزداد هوسا بمكانته في التاريخ"… إذن رسالة المدعى العام (سميث ) لم تأتى لنا بجديد وكان من المفترض محاكمة تونى بلير منذ اليوم الأول لغزو العراق ، قبل تدمير العراق وإبادة مليون ونصف عراقي ، وقبل إعدام صدام .   
* بداية يجب علينا ألا نعول كثيرا على نتائج تلك التحقيقات التي ستجرى مع بلير ، فالغرب عودنا على تحقيقاته الهزلية التي لا تصلح ما أفسده يداه ، ولا تعوض بلداننا عما ارتكبه من انتهاكات صارخة للقانون الدولي الذي يطالبنا الغرب باحترامه والخضوع لقراراته ، فالقانون الدولي هم أول من داسوه بأقدامهم ، وليست هذه المرة الأولى التي تجرى فيها تحقيقات ومحاكمات أشبه بالمسرحية الهزلية ، ولنتذكر 31 أغسطس من عام 1946 عندما بدأت محاكمات " نورمبرج الشهيرة " و التي جرى من خلالها محاكمة القادة الألمان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على محرقة اليهود (الهولى كوست ) ، أرادت كلا من أمريكا وبريطانيا من خلال تلك المحاكمة صرف الأنظار عن جريمة أمريكا في نجازاكى وهيروشيما التي أسفرت عن قتل نصف مليون من شعب اليابان تبخروا في لحظات ، وعن جريمة أمريكا وبريطانيا في مذبحة "دريسدن" الرهيبة في فبراير 1945م .. فبعد انهيار الجيش الالمانى وانسحابه من الجبهة الشرقية شنت أكثر من 800 طائرة من سلاحي الجو الامريكى والبريطاني غاراتهما على مدينة دريسدن الألمانية ، واستخدما في ذلك قنابل فسفورية شديدة الانفجار والاحتراق أبادت 250 ألف من سكان دريسدن الألمانية وأصابت 600 ألف من السكان بتشوهات وسميت تلك الجريمة ب(مذبحة دريسدن ) التي طمست معالمها وتم محوها من صفحات التاريخ على حد وصف المؤرخين ، وكان من الطبيعي أن تسلط أمريكا وبريطانيا الضوء على محرقة اليهود على يد النازيين ، وتجرى محاكمة هزلية لإلهاء العالم عن جرائمهما في كلا من دريسدن ، ونجازاكى وهيروشيما ، فكانت محاكمة "" نورمبرج" .. وما أشبه اليوم بالبارحة مع اختلاف الأدوار والأشخاص نرى فجأة وبعد مذبحة غزة الأخيرة التي قام بها قادة العدو الصهيوني ضد سكان غزة المحاصرين ، وبعد صدور تقرير غولدستون الذي كان بمثابة صفعة على وجه إسرائيل ،والذي أكد على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب، وإسقاطه ذرائعها في هدم المساجد وقصفها بزعم استخدامها في المقاومة، وتسجيله تأكيدات واضحة أنها تعمدت قتل المدنيين ومهاجمة المستشفيات ومراكز الإغاثة، وتقديمه رصدا واضحا لكافة الأسلحة الإسرائيلية المحرمة دوليا… كما طالب التقرير مجلس الأمن والمحكمة الدولية الجنائية بمحاكمة المسئولين الإسرائيليين عن المذابح، ومطالبته بعقوبات دولية على إسرائيل بسبب تلك الحرب، مما أظهر حقيقة إسرائيل أمام دول العالم ووجهها القبيح ، نجد الإعلام خاصة الاوربى يسلط الأضواء على محاكمة تونى بلير ، وعلى الوثائق التي تدينه ، وكان هناك أيادي خفية هدفها من ذلك إلهاء الشعوب عن جرائم إسرائيل ومجازرها وحصارها لشعب غزة تماما كما فعلت كلا من بريطانيا وأمريكا في محاكمة " نورمبرج" ، وطمس معالم تقرير غولد ستون و محوه من ذاكرة الشعوب ، وأرادت بريطانيا من إظهار تلك الوثائق تبييض وجهها أمام العالم باعتبارها دولة خرقت كل القوانين الدولية وفقدت مصداقيتها أمام شعوب العالم عندما غزت دولة ذات سيادة دون اى سند قانوني .
* ربما الفائدة الوحيدة التي سنخرج منها نحن العرب من تلك التحقيقات في بريطانيا هي كشف زيف وكذب وتدليس الساسة في الغرب خاصة هذا المجرم بلير ، ودرس لكل المطبلين والمزمرين والمهللين للشيطانين (بلير وبوش ) يعلمهم جميعا أن كل من عارض تلك الحرب واتهم هؤلاء الشياطين بنفس الكذب والتضليل الذي تؤكده تلك الوثائق كانوا أشرف وأنزه من كل أتباع بلير وبوش ، وكان يجب أن نسمع لهم وألا نتهمهم بإخضاع أنفسهم لنظرية المؤامرة .. فهاهي المؤامرة كانت معدة ومرسوم لها إعدادا يعجز إبليس نفسه عن التخطيط لها فهؤلاء تفوقوا على إبليس نفسه في التخطيط والتدبير..هؤلاء يستحقون محاكمتهم كمجرمي حرب ، دمروا العراق وأبادوا أهله ، وأعادوه إلى القرون الوسطى .
* هذه الرسالة وغيرها من الوثائق التي برأت صدام حسين من تهمة امتلاك أسلحة دمار شامل ، وأدانت تونى بلير وبوش معا ليست حقائق تكشف كذب وتضليل الغرب فقط ، بل تكشف لنا مدى غباء كل من اتبعوا هؤلاء المضللون سواء كانوا عربا أو غير عرب .. أنهم أتباع مسيلمة الكذاب ، وكما أن تلك الوثائق تدين مسيلمة الكذاب فهى أيضا تدين أتباعه ، وكما بريطانيا تنادى بمحاكمة مسيلمة الكذاب فعلينا أن نطالب بمحاكمة أتباعه وأزلامه ، فلولاهم ما استطاع بوش وبلير أن ينفذا مخططاتهما التي كان هدفها تدمير العراق ونهب ثرواته ، وإشعال المنطقة بحروب طائفية تستنزف دماء العرب والمسلمين … ولكن السؤال هنا إذا كان الغزو باطل ، والإطاحة بنظام دولة انتهاك صارخ كما يقول المدعي العام البريطاني السابق في رسالته .. فما هو حكم كل ما بنى على باطل ؟ ألا يعتبر تواجد القوات الأمريكية والبريطانية في العراق باطل مبنى على باطل ؟ ألا يعتبر تواجد عملاء الاحتلال على رأس السلطة في العراق باطل مبنى على باطل ؟ ألا يحق لنا نحن العرب أن نطالب الغرب بإعادة بناء مادمروه في العراق والتعويض عن كل الدماء التي سالت على أرض العراق ؟ ألا يحق لنا كعرب أن نطالب بإعدام بوش وبلير كما قاموا بإعدام صدام ؟ ألا يحق لنا أن نصرخ بأعلى صوتنا (أيها الغرب الكاذب .. انظر ماذا فعل بنا كذبك وتضليلك ؟ لقد قتل أهلنا في العراق ودمره وأشاع الفوضى والفتنة في منطقتنا .. فمن يعوضنا عن كل هذا ؟ ) ألا يحق لنا نحن العرب والمسلمين أن نطالب بتحرير إرادتنا السياسية من هؤلاء الكذابون والمضللون وألا نتبع أهواء أفكارهم الشيطانية وألا نستقبلهم على أرضنا التي تتبرأ من نفاقهم وكذبهم ؟ فكيف يكون الكذاب وسيط سلام نزيه ؟ وكيف نضع مصير قضايانا ومستقبل مليار ونصف مسلم بيد كذاب ؟
* إن التحقيقات التي ستجريها بريطانيا مع تونى بلير مع بداية مطلع العام القادم لن تكون ذات مصداقية إلا إذا حوكم بلير كمجرم حرب ، ودفع الغرب كله ثمن جرائمه التي ارتكبها بحق العرب والمسلمين كما دفع من قبل     ( ومازال ) ثمن جرائم هتلر ضد اليهود ، وان يقدم اعتذارا للعراق وشعبه ويسحب كل قواته وقواعده منها ، ولن تكون ذات مصداقية إلا إذا تمت محاكمة كل من سهل الطريق لبلير وبوش لتنفيذ مخططهما ، أم أن الغرب سيكتفي بتوجيه اللوم لبلير وإبعاده عن حلبة السياسة ليثبت لنا الغرب نزاهته وشفافيته ؟ وفى هذه الحالة سنعتبر التحقيقات (فيلم هندي ) الهدف منه التغطية على جريمة اكبر قد تم ارتكابها ( مذبحة غزة ) أو جريمة أخطر يتم الإعداد لها وفى طريقها للتنفيذ ( هدم الأقصى ) أو ضرب إيران وإغراق المنطقة في أتون حرب لا تنتهي إلا بإبادة الجميع ؟ فانتبهوا.
* ( أكدت صحيفة ‘الديلي ميرور’ البريطانية واسعة الانتشار أن بلير ابلغ من قبل أجهزة استخباراته قبل عشرة أيام من بدء الحرب بان العراق لا يملك أسلحة دمار شامل مطلقا ) .. أجهزة المخابرات البريطانية التي تبعدعن العراق مئات الآلاف من الأميال كانت تعلم أن صدام لا يملك أسلحة دمار شامل ..ولكن كل أجهزة الاستخبارات العربية التي تبعد عن العراق عدة كيلومترات .. هل كانت تعلم تلك الحقيقة أيضا ؟ أم كانت تجهل تلك الحقيقة ؟ ربما كانت تعلم ولكنها تعمدت الصمت والسكوت رغبة في إرضاء أنظمة أرادت للعراق محوه من على الخريطة العربية..وتركت الإعلام العربي الرسمي المضلل للشعوب أن يبث سمومه ويضخم من حجم الخطر العراقي على جيرانه..أليس هذا أيضا كذب وتضليل يستحق فتح أبواب التحقيق فيه ومحاسبة كل من صمت وشارك في تلك الجريمة ؟ أليس هذا عار ما بعده عار في كلا الحالتين سواء كانت تلك الأجهزة على علم بتلك الحقيقة وصمتت عن الجهر بها ، أو سواء كانت لا تعلم وتلك خطيئة اكبر أن يكون لأجهزة الاستخبارات البريطانية السبق فى معرفتها بينما أجهزتنا لا يشغلها سوى عد أنفاس الشعوب وملاحقة كل من يعارض تلك الأنظمة الحاكمة ؟
* إن تاريخ الغرب وأرشيفهم ورسائلهم ووثائقهم كلها تفضح مؤامراتهم ، وتكشف لنا مدى غباء أتباعهم ، وتعلمنا أن عصافيرهم كثيرة التي يوجهون أبصارنا إليها رافعين رؤوسنا حتى يتسنى لهم قطع رقابنا دون أن نشعر فما محكمة " نورمبرج " إلا مجرد عصفورة لفتوا أنظار العالم إليها لينسى جرائمهم في اليابان وفى دريسدن وفى العالم العربي والاسلامى وإفريقيا التي تاجروا بشعوبها في سوق العبيد.. واليوم أطلقوا عصفورتهم في بريطانيا ( محاكمة بلير ) لإلهائنا عن ماجرى في العراق وغزة ، ولننسى تقرير غولد ستون وصورة إسرائيل القبيحة ونصاب بالانبهار بشفافية ونزاهة وعدالة بريطانيا التي تحاكم قادتها ( بعد خراب مالطة ) دون التفكير حتى في تقديم اعتذار رسمي للشعب العراقي الذي تم محو مليون ونصف من أبنائه ، وتخريب وتلويث سمائه وأرضه باليورانيوم المخصب والفسفور الأبيض وكافة الأسلحة المحرمة دوليا جربوها في هذا البلد العريق ، فما أحوجنا لعقول وضمائر يقظة تنتبه لتلك الجرائم ولا تفصل بينها وتدعو إلى محاكمة الجميع دون استثناء لأحد.
وفاء إسماعيل

زر الذهاب إلى الأعلى