الكاتبة القاصة : عدلة الكوز
يمتد على شتاتهم سقف إسمنتي كبير …
الأعناق تشرئب نحو عرش فراغي … تضج القاعة الكبيرة بأصواتهم …هذا الفيلق المسالم من الكلمات التي تعجن في رؤوسهم …ينطلق ليرود حدوده ومواقعه.
حضور كبير
روائح عطرية تتمازج .. ربطات عنق .. وأحذية سوداء لامعة .. طافحة صدورهم بالأمل .. في هذا المكان تتصدى كلماتهم لغفلة الزمن عنهم واستهتاره بوجودهم التراكمي …
صوت يرش أصداءه المستهلكة منذ زمن في آذان قد صمت تلقائيا … شاعر قيل عنه أنه كبير وموهوب في رصد الخيبات -:
– عدنا وعادت حالنا الراكده
– يسألنا التاريخ ما الفائدة
– خضنا شؤونا جمة فلنقم
– نفحصها واحدة واحدة
يؤلب دونما تمهل جمعهم على الحال الراكدة .. يهيب بهم إلى اجتياح التورط في بقعة الجمود .. تلتوي أعناق .. وتتحشرج أنفاس لا ترى بعدها غير خيوط الدخان الملتويه التي تصدر عن سجائرهم الفاخرة ….
وجه غاضب وكف تحمل ورقه مرتعشه..يفح بكلمات لها لذعة السم …
– ليغن غيري للسلام
– وهناك .. خلف حواجز الأسلاك
– في قلب الظلام
– جثمت مدائن من خيام
– سكانها ..
– مستوطنات الحزن والحمى وسل الذكريات
– وهناك تنطفئ الحياة
اقتحام الرؤى السوداوية على المكان ينسج غلالة من الوجوم على وجوه مفكري القوم وجهابذة شعرائهم …
تبيض في أعشاشهم غربان الخراب .. قصائد الخراب تتوالى وكأنما اجتثت من قلب واحد .. نبضها متسارع مقهور .. وأشياء الحزن تبدو صامدة في لغوهم وحواراتهم …
وإلى أين …؟!
يتوقف الصحفي المبتدئ عن تسجيل انطباعاته ومشاهداته في هذا المؤتمر الأدبي .. يأخذ نفسا عميقا .. يتفحص أوراقه .. ثمة كلمات نبتت كالطحالب على أوراقه البيضاء … بخط نزق .. نزق ..
استوى قليلا في جلسته وعاود القلم بين أصابعه الكر والفر على الورق … تمتد من جديد الأعناق نحو عرش يحلم به الجميع .. هناك كبير لقوم يرصدون الخيبات ويبررون الانهزامات بكلام يأخذ صفة الإفراز أو التعبير..كلام كثير..ويناقشون باهتمام كبير قلة عدد القراء وعزوفهم عن القراءة …
هنا في هذا المكان الذي يشد الأحزان من ذيولها لتتراجع إلى الوراء رئيس يرسم شكل المبهم الغامض العصي على الهضم .. سريع هذا التيار في رؤوسهم .. تراه من يكون ..؟!
تندى يده الممسكة بالقلم ..يضعه جانبا وبمنديل ورقي يجفف راحة يده .. يتكئ قليلا على حافة المقعد .. تصل أذنيه وشوشات قريبه .. لكنها ساخنة ..-:
x– هل شهدت الحفل الكبير الذي تسلم فيه الجائزة ..
x– كلا .. لأنه لا يستحقها .
x– فعلا أنه تافه .. ولكن هناك من يتوسط له ..
x– أخفض صوتك ..
تلاشت الأصوات تماما..تعبث أصابعه في الأوراق المشوهة بالطحالب .. ويعود يتابع من جديد …
ثمة لقاءات إذاعية وتلفزيونية تتوالى .. تلتقط العين المدركة لأبعاد المكان أحدهم ينزوي ليصلح من شأنه .. من ربطة عنقه أو مفرق الشعر .. لعله يظهر على الشاشة التي يتمركز أمامها بلهاء القوم .
مؤتمر..مؤتمر ..
يأتمرون على أمر طال بحثه ..وتكرر إدراكه .. قصصهم وكلماتهم تعد السكنات على سنوات عجاف تكرر عنها أشكال جديدة ومبتكرة للجوع والمرض والغربة ..
وتحل محاكاة المعضل محل الوقاية منه .. هكذا تفشى سنواتهم المنزوعة بكارتها على أوراقهم التي يكتسحها حبر داكن أزرق وأسود .. ومقياس النبوغ هو في صياغة الخيبات والهزائم بشكل جديد ..
صار الصراع فيما بينهم في تصوير خيباتهم بشكل أفضل وأقوى .. وكتبت الحلول لأحلى الكلمات وأسلمها في اللغة .. والتطلع دوما إلى نجاح التصوير والصياغة متجاهلين بذلك حجم المشكل .
تناقض يحملهم على ارتداء أجمل بذلاتهم وأغلاها سعرا .. وقد يتحملون مشقة السفر من بلد لآخر لإثبات وجودهم الآتي على خارطة الانتصار والحضور الكلامي .
في عالم لا يعترف إل بحدث الساعة .. لكن محور هذا الصراع الآن يدور حول اختيار الكبير الذي يترأس جمعهم .. تراه من يكون ..؟! اقتراعهم كان ساخنا ..
حسم الأمر .. وكان هناك كبير .. كان هناك رئيس يرسل طلائع كلماته ليختم اللقاء بحضور كلامي مبهر .. ويجزم بنجاح هذا المؤتمر ..
تفرق الجميع وأصابعهم تفك ربطات العنق الطويلة .. وفي أذهانهم صياغة جديدة لخيبة كبيرة .
الأشعار الواردةفي القصة هي :
1) للشاعر العراقي (علي الشرقي).
2) للشاعر الفلسطيني (سميح القاسم).