هل في هذا الشرِّ كلِّه من خير؟
معتز شكري فيصل
كل العالم العربي البائس من المحيط إلى الخليج يتابع أنباء الحرب المستعرة بين مصر والجزائر، والتي اشتعلت حتى قبل بدء المباريتين الأخيرتين بأسابيع، والتي صار لها ضحايا وشهداء وجرحى ومعتقلون، وربما سيصبح لها عيد رسمي يدخل في تاريخ الأمة العربية البائسة، مثل ذكرى وعد بلفور، وذكرى شهداء تموز، وذكرى النكبة، وذكرى النكسة إلى كل ما هنالك من ذكريات وطنية تحكي أمجاد قوم اعتادوا الذل واستمرأوا الهوان.
حاولت ألا أقرأ شيئاً مما كُتب عن الموضوع، وألا اشاهد شيئاً عُرض على شاشات التلفاز، لا قبل المباريات ولا بعدها، حتى الرسائل الإلكترونية التي كانت تصلني حول الموضوع كنت أقوم بمسحها قبل قراءتها حتى لو كان بعضها من كتاب محترمين وعلماء أافاضل أكُن لهم كل الاحترام والتقدير، فقد كانت كل الأخبار والرسائل ذات رائحة مميزة: رائحة العفونة، رائحة زكيبة دواب، رائحة استحمار، تريد كلها أن تجرك إلى موقف لا ينبغي لك أن تقف فيه لا موافقا ولا معارضا، كل الرسائل والبرامج والمقالات كانت تحمل صورة خلفية واحدة هي صورة جندي إسرائيلي يقف مبتسما أمام سلاحه ويضع على صدره نجمة سداسية.
قد يكذب من يقول إنه لم يهتم بأمر هذه المباريات وما أثير حولها، ولم يجد نفسه مضطراً لمتابعة الأحداث، ومعرفة ماذا يجري؟ ولماذا يجري؟ وكيف يجري؟ ولا أعتقد أن في هذا خطأ، بل هو مهمة كل عاقل في هذه الأمة أن يرى هذا ويعرف لماذا حصل هذا وكيف وصل هذا إلى ما وصل إليه؟
أول ما يتبادر إلى ذهن من بقي في رأسه عقل أن هذا كله لا يعدو كونه ممارسة سياسية أو لعبة سياسية قذرة في ملعب كرة قدم، حيث لا مكان للسياسة عادة. ولكن في بلادنا يمكن أن يحصل أي شيء في أي مكان، ولا يوجد في بلادنا مستحيلات خاصة أمام قادتنا الأشاوس.
ما حصل باعتقادي شر كله (مع استثناء بسيط سيأتي بيانه) من أوله إلى آخره، المسؤول عنه سياسي في مصر وآخر في الجزائر (ليس شرطا أن يكون واحداً وليس شرطاً أن يستحق لقب سياسي)، وكل المشاركين الباقين هم وقود لنار أشعلت.
الذين كتبوا ودبجوا المقالات من الأدباء والكتاب والصحفيين والمصلحين من العلماء والمشايخ المعروفين والذين خاطبوا الجماهير لتهييجها والذين خاطبوا الجماهير لتهدئتها، اللاعبون الكرويون واللاعبون السياسيون، الكل بلا استثناء عدا الفاعلين الأساسيين هم حصب هذه النار الموقدة شاؤوا أم أبوا.
الذي ظن أنه بآية أو بحديث سيخمد الفتنة، أو الذي كتب استجداء أو بيانا ووقع عليه وأرسله لمئات المثقفين ليوقعوا عليه ظنا منه أنه هكذا ستخمد الفتنة، والذي نزل من برجه العاجي في الجامعة العربية ليتكلم بأي كلام يريد أن يُسجل نقاطاً هنا وهناك، والذي عرض وساطته من فوق عرشه، والذي ظن أنه يثأر لكرامته المفقودة، والذي اكتشف أخيرا أن كرامته سُرقت منذ أجيال، الذي قاد مظاهرة عنيفة والذي قاد مظاهرة سلمية والذي رفع علماً والذي أحرق علماً، كل هؤلاء في الهم سواء، كلهم أحجار تحركت بردود أفعال محسوبة أريد لها أن تتحرك بمثل هذه الردود.
لكننا نعود إلى السؤال العنوان: هل في هذا كله خير؟
من وسط كل هذا السواد والظلام بدا لي بصيص ضوء في نهاية النفق العاشر بعد المائة، فأنا من الذين يقولون ويعتقدون أن الأمة ماتت وأن الشعوب العربية استكملت عبوديتها تماماً في مزارع العبيد، لا تجرؤ على الثورة ولا تجرؤ على قيام. ولكنني ألمح في هذا الحدث أنفاساً تتحرك في صدر هذه الأمة، لا أدري، هل هي أمة تلفظ أنفاسها الأخيرة أم أنها أنفاس ميت بدأت تعود إليه الروح؟
إذا أخذنا بمقولة حرمة اليأس فيجب علينا أن نعتقد أنها أنفاس جثة تعود الروح إليها مرة أخرى.
هذه الشعوب وهذه الجماهير التي تحركت بهذا الشكل، تعطيك الدليل على أن هذه الأمة لم تمت ( بغض النظر عن سفالة الدافع وحقارة الهدف وسوء التخطيط والتوجه) تعطيك الدليل على أن في هذه الأمة من لا يزال مستعداً رغم ذُله وفقره وعجزه وضعفه، أن يموت في سبيل هدف ما (مرة أخرى بغض النظر عن سمو أو انحطاط الهدف)، تعطيك الدليل على أن هذا الإنسان العربي مستعد أن يَقتُل وأن يُقتل بأبخس الأثمان فحياته لا قيمة لها عنده، يعطيك الدليل على أن هذه الشعوب لا تخاف إلا من حاكمها وأنها بمجرد شعورها أن حاكمها وصاحب نعمتها لن يعاقبها فإنها مستعدة للتضحية بكل شيء (ربما لأنها أصلاً لم تعد تملك شيئاً).
شعوب لم تتحرك بهذا العنف من أجل الأقصى ولا من أجل القدس لأن الحاكم كان سيعاقبها لو تحركت
شعوب لم تتحرك بهذا العنف من أجل رسولها صلى الله عليه وسلم لأن الحاكم كان سيعاقبها لو تحركت
شعوب لم تتحرك بهذا العنف من أجل طعامها ورزقها ومأواهالأن الحاكم كان سيعاقبها لو تحركت
شعوب لم تتحرك بهذا العنف من أجل دينها وإسلامها لأن الحاكم كان سيعاقبها لو تحركت
شعوب لم تتحرك بهذا العنف من أجل شعب غزة الذي يقتل ببطء لأن الحاكم كان سيعاقبها لو تحركت
شعوب لم تتحرك بهذا العنف من أجل الأقصى ولا من أجل القدس لأن الحاكم كان سيعاقبها لو تحركت
هنا يشع ضوء ضعيف من الطرف الآخر، هل يمكن دفع هذه الشعوب لعمل شيء ما؟ ومن الذي يستطيع تحريكها غير الحاكم الذي حركها هذه المرة؟ ومن الذي يستطيع أن يزيل خوفها من الحاكم؟ ومن الذي يستطيع أن يدفعها باتجاه التحرر من هذا الحاكم المستعبِد؟
لقد كنا نُحمّل الحكام مسؤولية كل ذل هذه الأمة، وكل هوان هذه الأمة، وكل عجز وضعف هذه الأمة، وكانوا يقولون إن الحكام غير مسؤولين. لكن الصورة اليوم اتضحت بشكل لا يقبل اللبس، أليس ما حصل دليل جديد على أن الحكام هم المسؤولون وهم الذين بيدهم القدرة على تحريك هذه الشعوب، وأنهم هم الحاجز الوحيد في وجهها لتحقيق أي هدف مفيد للأمة؟ وأنهم هم الذين أماتوا الشعوب وأقبروها وخدروها بكل وسائلهم الإعلامية والمادية وبكل أبواقهم ومستَأجَريهم من النخب والأعوان والمنتفعين؟ وأنهم هم الذين بيدهم أن يوقظوا النائم ويحركوا الميت ويعطوا العبيد جرعة صغيرة من الكرامة ليثوروا من أجلها أو حتى ليظنوا أنهم ثاروا من أجلها؟
أخيراً هل هناك من أمل أن ينقلب السحر على الساحر وأن تكون جرعة الكرامة التي أعطاها الحاكم صاحب المزرعة لعبيده أكبر من اللازم وأن يستمر مفعول هذه الجرعة حتى يثور العبيد من أجل حريتهم كما ثاروا من أجل كر(ام)تهم؟
معتز شكري فيصل
ألمانيا 1.12.2009