أرشيف - غير مصنف
النزوح عن القاع
القاصة: عدلة الكوز
غدا المكان غير محتمل .. فالتزاحم الشديد يجعل من استمرارية البقاء فيه قدرة خارقة تمتد يده في جيبه اليسرى فلا تقبض إلا على الهواء .. تعود لتغوص في جيبه اليمنى فلا تقبض إلا على بضعة دنانير مهترئة .. يضغط عليها ويدسها في جيبه .. ويعود ليتابع ذلك الصوت القوي الذي يعلن عن آخر ما دفع في المعروض في هذا المزاد الكبير .
تنصب نظراته على طاولة تتوسط هذا الجمع الغفير وقد عرض عليها عرض من نوع جديد .. تمكن منه هذا الاعتقاد بأن هذا العرض غير عادي ، بل لم يشهد مثله من قبل .. يعلم جيدا أن المزادات تعرض قطع الأثاث والأدوات الكهربائية .. أما أن يكون هناك مزاد لجناح طائرة مسقطة وسلاح لأحد الشهداء فهذا ما يثير في داخله إحساسا مميزا بالمكان وبتلك الوجود التي ترتسم عليها تعابير تشير إلى تطلع خطيرا وحدث جلل.
تسقط الأرقام في أذنيه .. لكنه لا يوليها أدنى اهتمام .. فهو لا يملك غير دنانيره المهترئة ولا طاقة له بالمشاركة في هذا المزاد .. تتمكن فيه قوة غير عاديه تشده إلى التحديق في هاتين القطعتين اللتين تدفع فيهما الآلاف من الدنانير.
((جناح طائرة أمريكية .. أسقطها النشامى العراقيون))
تتعاقب هذه العبارة الكبيرة من الإصرار في مسامعه .. تصدر عن المروج في المزاد (أسقطها العراقيون) طائرة تسقط من الجو .. يحس بحقد شديد نحو القطعة الجامدة على الطاولة … يصنع لها جسدا ويضيف إليها جناحا آخر .. ها هي طائرة كاملة تطير في سماء بغداد .. ترشق قلبها بأطنان من المتفجرات …
قتلت جاسم وعلي وربما أحرقت بيت حسين قبطانها الأصفر لا بد أنه قد انتشى كثيرا وضحك كثيرا كلما أصاب الهدف .. لهب صاعد إلى السماء يقتنص الطائرة المعتدية … تنبسط أساريره .. بيته كان أحد هؤلاء الذين رموها باللهب الحارق .. أشلاء متفحمة لقبطانها الأصفر تتصدر كل المرئيات من حوله .
تتصاعد الرغبة في داخله للانقضاض على هذا الجناح ليقضمه بأسنانه وينهي وجوده إلى الأبد … تختلط الأصوات … وتزاحم الأجساد في تزايد مستمر .. يبتلع ريقه وستغرب هذا الإقبال الشديد على هذه المزايدة على هاتين القطعتين.
تندهش أعماقه الراضية .. لعل مبعث الدهشة لا يعود للعدد الكبير من الحضور .. ربما لأنه اكتشف إنه ما يزال في زمنه اليابس ثغرة تنفذ منها مواقف جديدة .. روح أخرى قديمة كانت لا تزال في اللاوعي لهؤلاء المتجمهرين .
تكشف هذه الضجة الكبيرة المحيطة به عن صفحة بلورية من نفسه .. يحس بارتياح كبير .. تخترق يده جيبه اليسرى فلا تقبض إلا على الهواء .. تعود لتسقط على اليمنى فلا تقبض إلا على دنانيره المهترئة .. ليته يملك المشاركة في هذا المزاد .. تهدأ حركاته هذه ويعود للتحديق في ما يعرض على الطاولة الكبيرة من جديد ..
يشكل جسدا لجناح الطائرة .. ها هي تطير في سماء بغداد .. ولكن لماذا يفترض أنها أصابت أهدافا حقيقية ؟ لعل قبطانها الأصفر قد أصابته حالة هستيرية أفقدته السيطرة على الطائرة … لا بد وأنه جبان .. وإلا لماذا أسقطت وتحطمت .. نعم إنه جبان .. ترتسم على وجهه ابتسامة واسعة بينما تمتد الأيدي لتحمل جناح الطائرة … يبدو أن أحدهم قد فاز به بدل آلافه الكثيرة .
وتعبر ذاكرته أبيات شعر كان قد تغنى بها شاعر عراقي .. أبيات ما زالت تسكنه وتشجيه ..:-
لن يجرحوا منك يا بغداد أنملة
ما دام ثديك راضعوه ما نذلوا
بغداد أهلوك رغم الجرح صيرهموا
صبر الكريم وان جاعوا وان ثكلوا
قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم
لكنهم من قدور الغير ما أكلوا
بقي ذلك السلاح الشامخ .. يقبله بعينيه بينما رعشة قوية تهزه هذه المرة .. يحس أن جوارحه تقيم عرسا تزف فيه إلى روحه هذا الزهو الذي يتوزع النفوس حتى على المكان والزمان .. يدرك هذا جيدا .. فهذه العيون المحدقة فيه لها بريق يجتاح كيانه .. بل يغربل رؤياه وقناعاته المتعلقة بالواقع المعاش .. هل يمكن أن ترتقي بهم اللحظة إلى المعنى المستحيل .. ما أروع زمن الشهداء .. يقتنع أن دماءهم أصبحت هذه الجرعات المنعشة التي أنعشت روحا عربية لا تقبل الضيم .. زغردي يا أم …
تنفر الدماء في عروق يده .. يجفل الدمع في مآقيه …
صوت النسوة الذي يرشح من قلبه في أذنيه مدويا ..:-
سبل عيونه ومد أيده يحنونه ..
زيتونك يمى استوى والأرض ما تخونه ..
يمى يا الشهيد قوم يمى يا علي ..
صوت الحق بأرض عراقنا علي ..
كثافة ساخنة من الأهازيج تشرب وعيه .. أنت يا أنا .. أيها الفلسطيني الموعود بالجرح وكومة الملح .. توسد هذا الدبق الحلو من الفرح الذي يرشق عيون هؤلاء المتجمهرين …
افرح .. انفجر .. أو تنحى جانبا ولذ بالصمت .. هذا وقت جديد يحمل في مسامه سما يرشح في حلوق الأعداء .. هذا الوقت العربي ذو النكهة الفراتية …
يحاور ذاته بجسارة .. ينشد ..:-
بالأحمر كفناه ..
بالأخضر كفناه ..
بالأبيض كفناه ..
ينتقض بينما زحف الوجوه المحناة بالدم تحاصره .. بقعة كبيرة من الضوء تغشى المكان .. سنابك خيلهم تدك الأرض من تحته .. من هذه البقعة من عمان يمم وجهه نحو الجنوب .. نحو مؤته في جنوب الأردن .. مؤته الذاكرة النشطة التي تحكي دائما عن شهدائها .. جعفر الطيار ..
سنابك الخيول العربية تزيد في طرادها يتخللها هدير قوي للدبابات العراقية .. تتلاحم صور بمسارعة .. تحتل بقعة الضوء …الراية ذات الراية ..
( لا اله إلا الله ، الله أكبر )
صاحب الراية يسقط عن جواده بينما ذلك الجندي العراقي يتحفز في موقعه .. يتحسس جيب سترته الداخلية .. خشخشة لغلاف قطعة من البسكويت .. هدية ابنته الصغيرة التي وعدت بانتظاره حتى يعود إليها مظفرا : يزيد ذلك من تحفزه .. الدماء تغطي مساحة البقعة الضوئية تماما …
تتسارع نبضات قلبه وهو يرقب الأيدي التي تحمل السلاح .. لا يدري عدد الآلاف التي دفعت والتي سوف ترصد للشعب المحاصر المثخن بالجراح ..وهو الآن لا يستطيع أن يحصي عدد هؤلاء الذين يزفونه بهتافات لوقعها مذاق الويل..يمشي في الركب .. يمشي الهوينى .. يلتفت وراءه .. يرى بوضوح أكبر شعار هذا المزاد وقد كتب على اللافتة الكبيرة ..(عراق يا حبيبي) ..
يردد بثقة ( عراق يا حبيبي ) .. يمد يده في جيبه اليسرى فلا يقبض إلا على الهواء..تعود لتغوص في جيبه اليمنى فلا يقبض إلا على دنانيره المهترئة .
(1) للشاعر العراقي
عبد الرازق عبد الواحد
(2) من الفلكلور الفلسطيني