منذ سنوات أصبح موقع برجي مركز التجارة العالمي رمزاً عالمياً للعنف الإسلامي. لكن في بناء نصف مدمر في منطقة مانهاتن السفلى، أقيم حديثاً مصلى يتردد عليه المسلمون. يأمل مؤسسو هذا المصلى بأن يساهم الأخير في شفاء جراح اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول)، التي وقعت على مقربة منه.
عند مدخل المصلى مجموعة صغيرة من الأحذية المصفوفة بترتيب على رفوف بيضاء. وما هي إلا فترة قصيرة حتى تمتلئ هذه الرفوف وتتكدس الأحذية على الأرض، أحذية من كل نوع ولون: رسمية، رياضية، نسائية، عالية الكعب، أحذية عمال البناء والكثير غيرها. حتى أن عددها قد يصل إلى مئة زوج.
في الداخل، تعمل ثلاث سخانات كهربائية صغيرة موصولة بمقابس في الجدران على تدفئة المكان، إلا أن حرارتها تبدو واهنة أمام البرد القارس المتسلل من الشارع. يجثو الرجال على سجاد يغطي كامل الأرضية، متحصنين داخل معاطفهم فيما خلعوا أحذيتهم في الخارج ولم يُبقوا إلا على الجوارب. في إحدى الزوايا، تتحلّق النساء، وقد ارتدى بعضهن حجاباً طويلاً. كان الجميع يديرون وجوههم في الاتجاه نفسهم: نحو الشرق.
ترى الإمام واقفاً، وفي يديه مجموعة من الأوراق وعلى طية معطفه ميكروفون صغير. كان الرجال والنساء ينهضون، يرفعون أيديهم إلى الأعلى، يتمتمون {الله أكبر}، ثم يحنون رؤوسهم ويجثون ثانيةً.
هكذا تبدأ دوماً الصلاة يوم الجمعة التي يقيمها المسلمون في مختلف أنحاء العالم، حتى في مانهاتن. ففي قلب هذه المدينة، مساجد غير مخبأة وراء واجهات محال عادية.
على بعد أمتار
تمتاز غرفة الصلاة البدائية هذه بموقعها الفريد. فقد فتحت أبوابها قبل أسابيع، وهي تبعد بضعة أمتار عن موقع برجي مركز التجارة العالمي. كان الأخير يقع عند طرف الشارع على بعد خطوات قليلة. لكنه تحول راهناً إلى موقع بناء تضج فيه ذكريات أليمة. ففي هذا المكان، قتل الإسلاميون المتطرفون في 11 سبتمبر عام 2001 نحو 2751 شخصاً باسم مفهومهم الخاص عن الله.
قبل بضع سنوات، ما كان أحد ليجرؤ على التفكير في إنشاء مسجد، ولو بدائي، على بعد أمتار قليلة من موقع البرجين. لكن بدأ المسلمون يجتمعون في هذا المكان خلال استراحة الغداء قبيل نهاية شهر رمضان. وتشكل السجادة المخططة بالأخضر والرمادي والهاتف العمومي القديم المعلق عند المدخل بعض مخلفات المستأجر السابق، متجر بورلينغتون للمعاطف Burlington Coat Factory. ولا يزال الباب الزجاجي يحمل ملصقات تُظهر بطاقات اعتماد كان هذا المتجر يقبل بها: أميركان إكسبرس، ماستركارد، فيزا، وديسكوفر.
اخبرت ديزي خان، المديرة التنفيذية للجمعية الأميركية لتقدّم المسلمين، SPIEGEL ONLINE: {هذا ممكن في مدينة نيويورك وحدها}. استأجرت الجمعية دار العبادة هذا في شارع بارك بلايس. وزوج خان، الإمام فيصل عبد الرؤوف، كاتب ورجل دين وناشط بارز، فضلاً عن أنه الزعيم الروحي لمجموعة من المتصوفين يقع مسجدها الرئيس بالقرب من منطقة تريبيكا}.
مركز المصالحة
يعمد البعض إلى حظر بناء المآذن وارتداء الحجاب، لكن الوضع مختلف في مانهاتن التي هزها الإرهاب. إذ يحاول المسلمون والمسيحيون هنا التوصل إلى سبيل للتعايش. يتوسط هذا المصلى في وسط المدينة (تابع لمسجد تريبيكا المكتظ ويشكل أساس ما قد يتحوّل إلى مركز إسلامي للمصالحة) ملهى أيرلندي ومتجر لطائفة الآمش. وفي جواره نرى متحف التراث اليهودي، الذي يحيي ذكرى ضحايا المحرقة. وعند ناصية الشارع ترتفع كنيسة القديس بطرس، إحدى أقدم دور العبادة الكاثوليكية في نيويورك.
يضع الإمام حول عنقه وشاحاً ويرتدي تحت معطفه بزة داكنة اللون، وتسمعه يردد خلال صلاة الجمعة: {سبحان الله الذي وسعت رحمته كل شيء} فيما يعبر قطار الأنفاق المتجه إلى وول ستريت تحت المبنى حيث المسجد، فتهتز جدرانه. وفي الخارج، يهرول المشاة هاربين من برد منتصف النهار.
يد الله
يرتبط تاريخ هذا المبنى المؤلف من خمسة طوابق في 45 بارك بلايس ارتباطاً وثيقاً بأحداث 11 سبتمبر عام 2001. ففي ذلك اليوم، ارتطمت تجهيزات الهبوط في إحدى الطائرتين، اللتين اصطدمتا بالبرجين، بسطحه وبطابقين مخصصين لاستقبال الزبائن في متجر بورلينغتون للمعاطف (شُيّد عام 1923). لم يكن الأخير قد فتح أبوابه بعد، لذلك لم يُصَب أحد بأذى. على رغم ذلك، ترك المبنى، فبقي فارغاً منذ ذلك الحين.
في النهاية، باع المالكون، ورثة عائلة New York Pomerantz، المبنى في شهر يوليو (حزيران) مقابل مبلغ زهيد نسبياً، 4.85 ملايين دولار. فاشترته شركة Soho Properties للعقارات، التي يديرها مسلمون. وكان أحد المستثمرين في هذه الشركة الإمام فيصل، الذي سعى إلى تأمين مكان عبادة في وسط المدينة كي تتسنى للعاملين في المنطقة المالية الصلاة خلال استراحة الغداء القصيرة.
رؤية أكبر
شكلت هذه الفكرة نواة رؤية أكبر. إذ يخطط الإمام فيصل راهناً لتحويل المبنى إلى مركز ثقافي إسلامي متكامل، يضم مسجداً ومتحفاً ومتاجر متخصصة وصالة محاضرات هدفها المصالحة بين الأديان، مواجهة رد الفعل السلبي الذي يعانيه المسلمون عموماً، و{مدّ اليد} إلى الغير، بحسب زوجة فيصل ديزي خان: {بدا جلياً أن مشروعاً مماثلاً يجب أن يولد من تحت رماد 11 سبتمبر. فنحن نلمس يد الله في ما نقوم به. حتى أننا شعرنا أن الله شاء التدخل في هذا المشروع}.
تضم نيويورك أكثر المجتمعات الإسلامية تنوعاً في العالم بعد مكة. وعلى رغم أن المسلمين واجهوا في بعض أجزاء العالم الغربي التمييز والأحكام المسبقة والحركات المناهضة للإسلام منذ11 سبتمبر، إلا أن المضايقات التي تعرضوا لها في مانهاتن خبت بسرعة نسبياً. فهم في النهاية جزء من عالم نيويورك وأحد العناصر التي تدير عجلة هذه المدينة. ذكرت خان: {نحن موظفو مصارف وسائقو سيارات وبائعون في الشوارع}.
تقوية الروابط
لقي هذا المشروع الدعم من مسؤولي المدينة. علّقت فاطمة شمة (مسلمة)، مديرة مكتب العمدة لشؤون المهاجرين، في حديث لها مع صحيفة {نيويورك تايمز}: {نحن كمسلمين نعيش في نيويورك ملزمون بالمساهمة في إعادة بناء هذه المنطقة، شأننا شأن أي مواطن آخر}. أما لين رازيك، متحدثة باسم 9/11 Memorial، فأوضحت: {لا شك في أن فكرة إنشاء مركز ثقافي يقوي الروابط بين المسلمين والناس من سائر الأديان والخلفيات فكرة إيجابية}.
يشتهر الإمام فيصل، المولود في مصر، بموقفه المعتدل. فقد نادى بالتسامح والحرية الدينية وانتقد التعصب والعنصرية، حتى أن المجتمعات اليهودية ترحب به. في هذا المجال قال الحاخام آرثر شناير، رئيس مجمع إيست بارك، للتايمز: {لنعش ولندع الآخرين يعيشون}.
لا يزال هذا المبنى في بارك بلايس في حالة يُرثى لها. فمن الخارج، لا يخطر على بال أحد أن ثمة مسلمين يصلون إلى الله خلف مصاريع الحديد هذه الملطخة بالكتابات والرسوم. وعلى الواجهة تكثر بقع الصدأ. كذلك بدأ الطلاء يفارق الجدران. فوق المدخل ما زالت تتدلى لافتة تحمل شعار متجر، فيما تحمل لافتة أخرى إعلان {متجر للإيجار}.
في الداخل، تضيء لامبات فلورية (نيون) غرفة الصلاة بجدرانها العارية، التي يتجمع فيها الغبار في كل مكان. لكن سرعان ما تكتظ هذه الغرفة بالمصلين، الشبان منهم والمسنون، العرب والآسيويون والهنود والأميركيون المتحدرون من أصل أفريقي. يرتدي بعضهم بزات رسمية، والبعض الآخر الجينز. ويتدفأ البعض بمعاطف صوفية، فيما يفضل البعض الآخر سترات الشتاء المنتفخة. ويبدو أن بعضهم يعمل في وول ستريت بينما البعض الآخر فقير معدم.
مجتمع نموذجي
ذكر ناطور عبَرَ موقع البرجين قادماً من المركز المالي العالمي: {من المفرح التمتع بهذا الخيار. فبفضل هذا المسجد لا أفوت صلاة الجمعة}. بدوره، أوضح شريف الجمال، رئيس مجلس إدارة Soho Properties الشاب ومديرها التنفيذي الذي قدِم للصلاة: {نسعى إلى إنشاء مجتمع متفوق نموذجي. قد ترمز هذه الصالة إلى أن ما حدث في 11 سبتمبر لا علاقة له بالمسلمين عموماً}.
أمّ صلاة ذلك اليوم فايز خان، طبيب من لونغ أيلند حل مكان الإمام فيصل المسافر. قال بلهجة المتعجب: {لهذا المشروع قدرات كبيرة. ربما تصبح نيويورك مكان شفاء}. وفي خطبته، تحدث عن الغفران والتوبة ومخاطر التعصب الديني. كذلك حذر من المعصية التي تسببها أعمال الأذية والكبرياء والغرور والأنانية وغيرها من النقائص البشرية. وأضاف: {ما من اقتتال باسم الدين. نحترم البشر كلهم، يهوداً كانوا أو مسيحيين أو مسلمين}.