أرشيف - غير مصنف
«من داخل المملكة»: قراءة في التشدد والعنف في المجتمع السعودي
خريف عام 2009 يذكر بمرور ثلاثين سنة على ثلاثة أحداث مهمة هزت الشرق الأوسط الكبير. فقد قام الاتحاد السوفيتي بغزو أفغانستان في كانون الأول عام 1979 وقبلها بشهر وقعت حادثة احتلال السفارة الأميركية في طهران واحتجاز موظفيها كرهائن، وفي الشهر نفسه – تشرين الثاني- من العام نفسه وقعت حادثة احتلال الحرم المكي من قبل متطرفين سعوديين. أخذ التطرف السياسي والديني شكله النهائي، فيما أصبح التدخل الأميركي في المنطقة أكثر عمقا.
واليوم ما زال صدى تلك الأحداث الفاصلة يتردد، بعد ثلاثين عاما، في أفغانستان، وباكستان، وإيران، والعربية السعودية. ومن هنا فإن توقيت كتاب روبرت لاسي، الذي ألفه تحت عنوان "من داخل المملكة" عن تأثير أحداث عام 79 على السعودية وعلى العالم، لم يكن بالإمكان أن يكون أفضل.
يبدأ لاسي كتابه من حادثة سيطرة جهيمان العتيبي وجماعته على الحرم المكي، مبيناً انها تمثل النمط السعودي في التطرف الديني العنيف الذي يطفو الى السطح مع كل جيل تقريبا. في الماضي كان القادة السعوديون يتمكنون من احتواء عناصر التطرف أو القضاء عليها. ففي عام 1929،على سبيل المثال، عندما هدد المحاربون السعوديون من البدو المتعصبين بمهاجمة شيعة العراق، رفض ذلك مؤسس المملكة السعودية الحديثة الملك عبد العزيز آل سعود، وهاجمهم وسحق قوتهم في معركة «سبلة».
جهيمان مثل النمط السعودي في التطرف الديني وفقا للمؤلفوفي أواسط الستينيات وافق الملك فيصل بن عبد العزيز على دخول التلفزيون الى المملكة، كما وافق على تعليم البنات في المدارس رغم المعارضة الدينية العنيفة من قبل بعض رعايا الدولة السعودية. ولكن المملكة لم تعد تقمع المتطرفين السعوديين بعد حادثة جهيمان العتيبي والحوادث الأخرى التي تلت السيطرة على الحرم المكي. بل أنها ذهبت أكثر من ذلك بتبنيها للعقائد الدينية المتزمتة لأغراض سياسية.
هذه السياسة سمحت للسعوديين بتجنيد المقاتلين للحرب ضد السوفيت في أفغانستان، وهي الحرب التي عرفها القادة السعوديون بانها قضية دينية. كما ساعدت هذه السياسية السعوديين على مواجهة التشيع الإيراني الذي بدأ يحقق شعبية في البلدان السنية. كذلك سمحت للقيادة السعودية بالإلتفاف على أنصار جهيمان العتيبي وإستيلائها على قضيتهم.
ومع حلول الثمانينيات صار رجال الدين السعوديون المتشددون يملون أجندتهم المحلية على نطاق واسع، بحيث لم يعد أي أمير يجرؤ على الوقوف والرد على ما يقوله أي رجل دين. ويرى لاسي أن هذا الوضع هو الذي أطلق المجال للعنف على مدى عقدين آخرين.
وجاءت أحداث أيلول 2001 وما أعقبها لتفرض على القيادة السعودية إلقاء نظرة على أكثر العناصر عنفا وتطرفا في مجتمعها. يقول لاسي أن أيلول 2001 أظهر ما الذي يمكن أن يحدث عندما يخرج الدين عن السيطرة.
واستمرت عملية التقييم وإعادة النظر مع تسنم الملك عبد الله بن عبد العزيز لعرش المملكة في 2005 الذي يوصف بأنه رجل شديد الورع ولا يتعاطف مع المفاهيم والتفسيرات الدينية الأشد تطرفاً وتزمتاً. وينقل لاسي عن الأمير محمد بن نايف، وهو أحد أبرز مسؤولي مكافحة التطرف في جهاز قيادة المملكة وكان هو شخصيا أحد أهداف عنف المتطرفين، قوله: "نحن نعمل على بناء توافق وطني ينادي بأن التطرف خطأ، والطرف الذي يفوز برضا المجتمع سوف يكون المنتصر في هذه الحرب”.
نجح لاسي في تغطية التاريخ المحلي السعودي على مدى السنين الثلاثين الأخيرة، غير إنه تجاهل السياق الدولي الذي سمح للعنف والتطرف بالإنتشار والإنتعاش. فالحرب الباردة بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، والصراعات الإقليمية بين الدول العربية، وأخيرا الحرب العراقية الإيرانية كلها صراعات جعلت التطرف الديني أمراً مفيدا للعديد من الأطراف وليس للقيادة السعودية وحدها، وهذه نقطة مهمة أغفلها كتاب التأريخ المحلي هذا.
فكتاب " من داخل المملكة": يتحدث عن قصة مهمة بيد أنها يمكن ان توجد في روايات أخرى، فلا جديد هنا إلا الشيء القليل. ولعل الأمر الأشد تخييباً للأمل هو أن لاسي، الذي يعترف بأن الناس في نهاية أي كتاب يبقون يتوقعون تكهنات وتقديرات بشأن المستقبل، فضل أن ينهي كتابه بقصة إنسانية تعمها الفوضى ويظهر فيها المزج ما بين التقاليد والتقدم التي تمثل قوام المملكة اليوم.
ليست هناك من المؤلفين سوى قلة ممن يتمتعون بالموقع الجيد الذي يتمتع به لاسي والقادرين على وضع التكهنات المستقبلية. فقد كان لاسي يتابع أحداث المملكة الصاخبة طيلة ثلاثين عاما، إلى أن أصبح مصدرا موثوقا. وكان بوسعه، بل كان ينبغي عليه، أن يكون أكثر جرأة في تقديم المشورة بشأن الكيفية التي ينبغي من خلالها فهم نهج المملكة اليوم.
ولكن الوقت ما زال مناسباً لتأمل أثر الأحداث الصغيرة والصراع الجيوسياسي الذي تطلقه. فالعالم مهتم بمتابعة نتائج الصراعات الداخلية في المملكة ويرغب أن يرى انتصار البراغماتيين على المتعصبين. وكتاب "من داخل المملكة" يقدم مساهمة قيمة من خلال لفت الإنتباه إلى هذا الجانب.