قراءة فى أوائل زيارات الدهشة

د.أحمد الصغير المراغي

" هوامش التكوين "
" كان قلبى معلقاً بين مخالب طائر جارح محموم بالسياحات فى الأعالى ، علوةُ فزع ورعب ، وانطلاقاته كارثة احتمالات ومناواشاته لعبٌ فوضوى بين الأمل والموت وكلما حط ليستريح نقَّرته الدهشة بزياراتها المباغتة ، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرة والغربة الفسيحة ". هكذا يقول الشاعر محمد عفيفى مطر عن نفسه وعن الدهشة الأولى فى حياته ، وقد تفتق عن هذه الهوامش ( هوامش التكوين) مشروع شعرى عظيم ، لأن عفيفى مطر شاعر عربى كبير قدَّم نفسه للحياة الأدبية فى منتصف الخمسينيات ولا يزال يطرح آراءه وأفكاره من خلال نصوصه الشعرية التى وصفها بعض النقاد بالنصوص الصامدة / الكبيرة التى تتجلى فيها روح الوجود والحياة ، فعندما صدرت الأعمال الكاملة لعفيفى مطر فى آواخر التسعينيات من القرن الماضى (   ) احتفى أتيليه القاهرة وقال ادوار الخراط فى هذا الاحتفال إن عفيفى مطر هو أعظم شاعر فى بر مصر ، إن ادوار الخراط على يقين بما يقول ، لأن عفيفى مطر هذا الكيان الشعرى الكبير الذى آثر أن يعيش – ولا يزال – فى قريته رملة الأنب بين أرضه ومحاصيله إنه يعشق الطين والطمى .
يطرح الشاعر عفيفى مطر فى أوائل زيارات الدهشة ( هوامش التكوين ) الملامح الأولى التى أسهمت فى تكونه هو – هذه الهوامش التى جعلته بعد ذلك يكتب المتون الشعرية على حد قوله . فقد أهدى هذه الهوامش إلى المتن الأول فى حياته وهى أمه فيقول : إلى جليلة الجليلات " سيدة أحمد أبو عمار " فيض البركة فى الزمن الصعب ، وبسالة الحنان الكريم فى عصف الشظف . أمى " .
قدَّم الشاعر عفيفى مطر فى أوائل زيارات الدهشة ( هوامش التكوين ) ثمانية وثلاثين هامشاً تكوينياً أسهم كل هامش من هذه الهوامش فى تكوينات عفيفى مطر ، فقد جاءت هذه الهوامش مرتبة ترتيباً لحظياً / زمانياً فهو يبدأ بالهامش الاول الذى جاء بعنوان أمومة الترتيل ( المعلمة الأولى ) وتأتى الهوامش / المشاهد تباعاً بعد ذلك مثل بيت جدى ، الولاء الأول ، ثلج الجيم المعطشة ، الشاعر ، مواجهة ، انشقاق القلب ، كائنات الخوف ، مشهد القيامة ، هروب القرموط ، دائرة الموت ، نخالة الكوليرا ، مشهد الطوفان ، ابن امرأتين ، عتبة المراهقة ، استئلاف قوافي الخشب و الماء ، شفافية الموت و المرح ، الجنون الجميل ، صباح الغضب ،ابتلاء ، افتتاحية الحمة المقدسة ، مهد القصيدة ، السيرة الذاتية لأنبياء المعدن المصطفى ، سفليات الغرائب ، غصة البدد ، العوامون ، جمرة لغسل الخطايا ، في معترك الامناء ، الغول .. إلي الأبد ، سلالة النور منازلات ، قرابات الغرباء ، موت السيدة الأولى ، شمس في سماء قلب ، الكنز المرصود ، احراق و احتراق ، و أخيراً العشاء الأخير .
تنتمى هذه الهوامش – فما أظن – إلي فن السيرة الذاتية الشعرية لان الشاعر عفيفي مطر ، يكتب هوامش المتون الشعرية بطريقة غير تقليدية ، لا يذكر مثلا أين ولد ، و متى و مواقفه السياسية أو الاجتماعية ، و أسفاره و رحلاته ، بقدر ما يذكر أحاديثه هو عن نفسه الداخلية ، و تقلباتها و ؟؟؟؟ الدرامية من حين لأخر ، تشم فيه الصدق ، مما تقرأ ، أو فيما تقرأ             أنه عفيفي مطر ذلك العالم الشعري المفتوح العابر للأجيال الذي ساهم في ترسيخ القصيدة العربية الحديثة فهو رائد جيل الستينيات الشعري بجوار أمل دنقل ، و محمد إبراهيم أبو سنه ، محمد مهران السيد فهم يمثلون – بحق – جيل العزائم و الانتصارات معاً ، يطرح عفيفي مطر الهامش الأول في حياته أمومة الترتيل فيقول " حينما كانت أمي تستعيد الاستماع إلي ما حفظت من قصار السور صعوداً إلي السور الطويلة ، و من جزء عمَّ إلي جزء تبارك ، و تصحح بصوتها الرخيم ، و وجهها المضئ بالفرح و عينيها المسبلتين المتبتلتين ما أخطئ فيه ، كان الايقاع الجليل بصفائه ، بشمل كل شئو كانت الدنيا تنتظم كأنها مسبحة أخاذة من الأصوات و الانسجام المحكم. " إن علاقة الشاعر الطفل عفيفي مطر بأمه علاقة داخلية تمتزح بالحب و الامن ، و المعرفة البريئة الطاهرة. إنها كينونة الأبدية فارتبط وجوده بوجودها و حياته بحياتها بعد ذلك . و يسرد عفيفي مطر التجربة العلمية و المعرفية الاولى عندما ذهب الي المكُتاب فيقول: " و في صبيحة الذهاب الي الكُتاب أول مرة ، كانت سحابة من الإيقاعات المتشابكة قد انعقدت من بعيد فوق بيت (سيدنا) يزداد علوها و تشابكها كلما اقتربت خطاى ، كان" الكُتَّاب" غرفة واسعة في بيت سيدنا حين أخذت مكانى علي الحصيرة بين جماعة المبتدئين ، انتبهتُ مفزوعاً مرتعباً على صوت " سيدنا " و هو يعنف امرأته و ابنته الشابة و هما وراء الباب ، ثم علا صوته الأجش الغليظ بآيات قصار السور . فقلت لنفسي: لابد أن القرآن امرأة ، و أن الآيات أمومة خالصة لا يعرفها الرجال ، و اكتشفت أن كل ما حفظته من قبل قد سقط من ذاكرتى .. فبكيت – فالبكاء اذن تميمة من تمائم النفس البشرية لدي عفيفي مطر هذا الشاعر المفتون ببكائه فقد جاءت نصوصه الشعرية والنثرية علي وجه الخصوص مفعمه تمام الافعام ببكائه الحاد المنزه الذي يتحد فيه مع ذاته المعذبة .
واظن ان عفيفي مطر كتب هذه الهوامش (هوامش التكوين ) بروح الشاعر , وقد تجلي ذلك عبر نصوصه الشعرية التي تمكن فى هذه العبارة تحمل دلالات متعددة وأفاق متفاوته تندرج بقاياها فى الذات الشاعره نفسها . ويعود عفيفي مطر فى الهامش الثاني بيت جده فيقول : ريح تعبر متباطئة ومندفعه , فترفرف اوراق البوص بصوت مسموع كتصفيق طفل أو فرفرة مغزل , وتلتف كثافة بقتامة ظلام تسرح فيه اخيلة الثعالب والثعابين والفئران , ومن ورائه تمتد الحقول المضيئة بالخضرة والشمس , وجدي فى وسط الدار يقتعد فروة بيضاء من ظرف الضحية , بيده زيل حصان أشقر يطوح يه ذات اليمين وذات الشمال , فيصر القامة ويجلس كالوتد , ومن بين أسنانة المفلجة يخرج حرف السين بصغير مرتو مرح . حكاياته كانت عن الاحياء والراحلين وهم يدخلون ويخرجون بين احتفالات العرس وزخرات الدمع , من هذه الابواب المعفرة بالتراب والدخان خرجت جدتي من باب الولادة الي حسرة الغياب فلم ترها أمي وإن ظلت تحلم بها حتي استجابت لندائها الاخير . من الملاحظ أن عفيفي مطر يسجل هذه المشاهد الحيا , الواقعية من خلال الذاكرة الشعرية التي امتلأت بالاحداث والوقائع , يغلب الطابع الدرامي على هذه الهوامش مما يحيلنا الي النزعة الدرامية فى الشعر العربي الحديث كما ذكر العلامة الدكتور عز الدين , اسماعيل , ان عفيفي يتميز أول ما يتميز به شعره الدراما , الغموض , التنوعات الكثيرة المملؤة بالقضايا الانسانية العالمية فى ان واحد . يحدث هذا فى الهامش الثالث الذي جاء بعنوان الولاء الاول , يذكر فيه الشاعر المارد ان جاز القول . شخصية مؤثرة فيه ولم يصرح باسمها فيقول عنها : للقرابة البعيدة بيننا خيط رقيق يربطني به زهوا وكبرياء اقتدار , ويربطه بي حان وهيمنة كبير العائلة : كنت أحوم حوله مقترباَ فى خشية من وادر غضبة أو نوبات اختلال عقله الخرف , أتأمل جسده القوي المنسوج من العضلات النافرة , وأراقب أصابعه الطويلة الغليظة المفتولة , وقد تكومت فوق مفاصلها عقد خشنة ذات أخاديد وحراشف وهو يطوي بيد به أعواد الحديد وقطع الصلب ……." وعلى الرغم من كل هذه القوة التي يتصف بها صاحب الشخصية الا انه عندما نادته زوجته بصوتها المشروخ الواهن أسرع , اليها وقد أشرقت عيناه اشراقة الطفولة والفرح وسار خلفها ذلولاَ هادئاَ مطأطئ الراس , قلت لنفس : مهما تكن قوتك وقدرتك فى قابل أيامك ومستقبل رجولتك , فلا تلق بقيادتك ولا تطأطئ بولاتك ا لاشد الاشياء هشاشة وضعفاَ: حشرة طنانة أو طحالب بركة أو بيضة طائر , أو رائحة عرق , أو دمعة مقهور .
يهيمن الغموض أيضاَ على هوامش التكوين عند عفيفي مطر كما يتجلي ذلك فى شعره أيضاَ , ونلاحظ ذلك فى الهامش الثالث عشر الذي وضعه تحت عنوان مشهد الطوفان , يحد شخصية أيضا كان يحبها حباً شديدا , وهي شخصية المدرس الي كان يعلمه فى المدرسة , فيقول عفيفي مطر واصفا هذه الشخصية : " وقف بيننا مفتوح القميص ذى الأكمام القصيرة بشعره الاسود الفاحم الحليق على الطريقة العسكرية ووجهه الاسمر المشرق وهعينين الواسعيتين الجاحظتين قليلا , وأسنانه المفلجة , وفتوته الشابه وهو يتلذذ ينطق الكلام الجميل وسرد
 المعلومات التاريخية بحزم وجاذبية .
لك يكبرنا الا بسنوات قليقة , فكأنه واحد منا ونحن نصغي بنشوة المعرفة الا دراستة عن عصر النهضة الاوروبية , ويفاجئنا بعرض مطبوعات ومسنسخات باهرة من فن دافش ورسوم مايكل أنجلو وروفائيل . وكانت المرة الاولي التي اري فيها عبقرية الفن والالوان والتصميمات , وموضوعات اللوحات والتماثيل , وارتباط كل ذلك بمفاهيم النهضة والنزعة الانسانية ونشاة الآداب والفنون باستعادة واستلهام العصور الكلاسيكية ومثلها الجمالية وانجازاتها الفكرية .
لا استطيع الان استرجاع حقيقة ما عصف بي من نشوة عليا جعلتني أرتعد وتسع الدموع من عيني , وأنا أتابع ما احتشدت به مقصورة الكتفين من لوحات الخلق والهبوط من الفردوس والطوفان وقصص الكتب المقدرسة حول الاشياء وصراع الخير الشر وعالم الملائكة والقديسين , وكدت اصرخ وأنا اتتبع تفاصيل الطوفان وقد تعلقت عيناي بامراة تحمل وليدها ويتشبث ولدها الصبي بساقها , وقد التفت اللوحة بالزعر والتطلع المرتعب وروح العاصفة المبلة وانفجار السماوات ولاارض بالماء …"
يبوح هذا المشهد الذي رحق فيه الشاعر تجرته الاولي أو زيارات الاولي على مدي تفتح وعية على الفنون والآداب ويرجع ذلك الي ميلة هو عشقة الي هذه الفنون ويرجع الي استاذة الى يعلم بعد ذلك أنه اخفيمن حياة الشاعر عندما تم نقلة بعيداَ عن المدينة ’ وفجأة راه فى ميدان رمسيس فيقول الشاعر عفيفي مطر :" بعد اكثر من ثلاثين عاماَ , وأنا اعبر ميدان رمسيس ومعى بعض الأهل رأيته مقبلا من بعيد ومعه أحد الناس يكلمة , انه هو لم يتغير منه شئ سوي بعض الشعرات البيضاء والسمنة الخفيفة ’ نفس أناقته وحضوره الفخم الموحى وأسنانة المفلحة التي لم تنقص ’ وعينية المفيئتين …… , وحينا ابتلت عيناي بالدموع , رأيت الميدان كأنه مشهد من لوحة الطوفان " كثيراَ ما يشير عفيفي مطر الي اساتتة ومعلميه لانهم شكلوا وعيه ومدوه بالمعارف وفتحوا له آفاقا مختلفة ومتعددة ’ ولهذا نجده يذكرهم كثيرا فى الهامش الثامن عشر يقول : شفافية الموت المرح " انكمش الصبى وانزوى ينفخ فى يديه ليستشعر بعض الدفء , ودخل شيخ لا يزيد عنه فى الطول الا بشبرا أو شبرين , عمامته تضيق بسمنته الظاهرة ’ بيده عصاه المعقوفة ووجهه البشوش يشع بالطيبة والمهابة وتلمع فيه شاجة سوداء صغيرة ". من الملاحظ أن عفيفي مطر تأثرا فى أسلوبه السردي عن الذات باسلوب طه حسين لانه طه حسين كان كثيرا ما يذكر الفتى , وعفيفي يذكر الصبى . يتحدث عن نفسه بضمير الغائب .
ويقدم صاحب الهوامش مهد القصيدة فى الهامش الثالث والعشرين مصوراَ حالة من حالات التفتق الشعرى والوكه الصوفي فيقول : انتفضت مرتعداَ أشد حرام الصوف على جسدى المتوقد بالحمى وعظامى تفتت فى قبضة وحش من الثلج , كانت الملاريا قد عصفت بى بين الهلوسة والافاقة المتقطعة , وحين قرأت بصوت عالٍ اسم الدواء الكريه " كينا لا ييس الحديدية " هز أى رأسه وقال : هذا ليس ابن دينا عوض على الله ’ أما أمى فقد اخرسها الهلع .
فى لحظة إفاقة عند خطفة الحمى سمعت أمى تغنى غناءها العذب الذي يقطر حنانا ودمعاَ , وهى تهدهدنى , وأدهشتنى أغنية تغنيها بطريقة عجيبة لم أسمعها من قبل ,
                      إذا كشف ال /زمان لك ال /قناعا
                      ومد إلي /ك صرف الدهر /باعا
                      فلا تخش ال /منية واق /تحمها
                      ولا تخش الم /رابع وال /يفاعا
                      وسيفى كا /ن دلال الى /منايا
                       وخاض غما /رها وشرى  /وباعا ….. إلخ .
حين دخلت حجرة الدراسة بعد انقطاعى بسبب الحمى , انتهزت لحظة سكون ورفعت صوتى عاليا بما حفظت من الاغنية , أتلوها غناءً وبنفس طريقة أمى فأسرع الي مدرسان يستطلعان الأمر , وقد وقفا صامتين حتى انتهيت وسألانى " من حفظك هذا ؟ قلت : أمى فأخذانى الي ناظر المدرسة وبقية المدرسين , أغنى وأعيد الغناء وهم فى غاية الدهشة وكلمما جاء زائرا أو مفتش كنت جزءا لا غنى عنه فى مشاهد الاستعراض والادهاش , وبالأخص بعد أن حفظتني أمي أغنيتين اخرين عرفت بعد ذلك أن إحداهما من شعر شوقى فى الحيوان والاخرى لباحثه البادية "ملك حفنى ناصف ".
تتجلى الدهشة فى شعر عفيفى مطر ونثره أيضاً لأنه صدق عندما كتب هذه النصوص النثرية والشعرية تحت عنوان كلى وهو أوائل زيارات الدهش , إن اللحظات المدهشة الدهشة على حد قوله هى اللحظات الاولى التى انبثقت من التجربة الشعرية لان الشعر عند عفيفي مطر هو الدهشة . النص الذى يحدث للمتلقى وفى المتلقى أيضا صدمة مدوية تصحبها دهشة موازية لها فى القوة وفى الارادة والفعل .
يخبرنا مطر فى أحاديث العذبة المدهشة عن علاقتة القوية بالالفاظ الشعرية فيقول : كنت لا أفهم أكثر الالفاظ , وكان ذلك منن عوامل السحر فى الغناء , كأننى أتلو موسيقى مجردة أو صوتيات خالصة امتلأت بالاحساس الجدى بالايقاع , بأنواع التقابلات والتوازيات والتوليفات المتوافقة فى كل شئ , حساً جسدياً يهز كيانى ويدفع الدموع الي عينى , ورحم الله زمن الصبا حين كان الدمع ينهمر بسماع صوت الشيخ رفعت أو أسمهان أو عبد الوهاب , مهما يكن مصمون ما أسمع , ومها يتراوح بين بهجة الوعد وغلظة الوعيد , وغبطة الحب وشجن الترجيع , وهذا الاحساس الجسدى بالايقاع ونفاذ الصوت ورد الفعل بالدموع كانا يدفان بي أحيانا الي الرعب من بوقف القلب وتآكل الأحشاء حينما أسمع صوت الساكسفون وآلات النفخ والطبول ورعشة المعدن فى مع نظرات الرقوق والدفوف , وكم مسحت القرى على قدمى وراء ليالى الشاعر فتحى سليمان و عبد العاطى خمرة , وقد كنت أبرع من يضع الارغول والمزمار من البوص مع الملاحظة الدقيقة لرقة الريش فى البوص " والمسافات بين الثقوب ونعومة تشطيها , حاولت صناعة الدبابات بعلب الصفيح أو الطبول "المقشوطة" وجلود الأرانب وأوتار الشعر من ذيل الخيول .
ويبوح مطر بوحاَ شديدا واصفا من خلال هذا البوح علاقات متآلفة ومتشابكة كانت جزءاَ رئيساَ منه وأسهمت فى تشكيل وعية ووجدانه معا ً ونلاحظ ذلك فى قوله : كان كل ذلك يستقطب ويستصفى ويتقطر شيئاً فشيئاً ويعلو فى طبقات من التجريد . ليصل الي أعظم الموسيقات فى الجبر والهندسة اقليدس ومبادئ على الفلك وكان المايستروا الفذ "صلاح أبو علم " مدرس الرياضة فى منوف الثانوية تتنزل على شفتية التعريفات والمعطيات والبراهين , ويخط الرموز والأشكال والفروض , وهو بقامته الفارغة وفمه الواسع الملئ بالاسنان وصوته العميق , يكشف لمحات من الهارمونية العجيبة فى معزوفة العلاقات والتوافقات الرياضية المحكمة , ويقدم من كبار العازفين اقليدس وأبولونيوس وفيثاغورث والخوارزمي , وجاليليو والبتانى والحسن بن الهيثم وكيلر ….. وبقية العازفين الكبار , تتندى عيناي بالدمع , ويتشكل اليقين الراسخ بأن الكون معزوفة أو جملة مويسقية واحدة تحكم نغماتها صرامة الرياضيات العليا الشاملة . أوغل الايقاع بشتئ أنواعه داخل هذه النفس البشرية المدهشة نفس عفيفى مطر فصار ركنا ركينا ً وبعداً خلاقا يتحكم فى توجهات هذه النفس ومشار بها التى تبوح مرات عدة وما بين بوحها ونواحها تتخلق الكائنات الايقاعية النصوص الحية التى هى المتن الحقيقى للكائن البشرى (مطر).
وعلى الرغم من كل شئ وتبدو قصيدة الوطن النثرية التى خطتها براع عفيفي مطر جسداً عيش على قدمين انه الوطن الذى عشقه عفيفي مطر وناضل من أجله كثيرا ً ومن أجل فقرائه فى كل مكان, يخبرنا عفيفى مطر من خلال هوامش التكوين عن علاقته بالشعر والشعراء فيروى علاقته بالشاعر محمود حسن اسماعيل فيقول : كان الكتاب هو ديوان " أين المفر" للشاعر محمود حسن اسماعيل ومع أول سطر من مقدمته النثرية الاخاة , ومع أول بيت من أول قصيدة شب فى كياني حريق يطيح بكل ما قرأت وحفظت من أشعار الرومانسيين الآخرين , الشارى وعلى محمود طه وناجى , والهمشرى وبقية شعراء أبو للو والرسالة , وهيمنت على قرابة روحية عميقة واتسعت سطوة انتمائي للعائلة التى تضم الرافعى وجبران ومحمد إقبال والفردوس وابن المقفع والجاحظ وهو ميروس تلك العائلة التى انتشلتني وأنقذت انسانيتي ووحبتنى الاحساس المتوقد بكرامة انتمائى لعائلة ملكية لا يطاولها انتساب أو انتماء , وما هو محمود حسن اسماعيل يأخذ مكانه فى سلالة العائلة قرأت الديوان مسجوراً مستلب الحواس , تعصف بىّ موسيقاه وتزلزلنى سطوه أنظمة القوافى بالتكرار الرياضي المحسوب والتردد المتراوح المعقد والمفاجئ والصور النابعة من تراسل الحواس وقلب العلاقات بي المجرد والمحسوس فى الوصف والشبيه والمجازات والاستعارات المحركة للفكر , وعمق النقاذ النفس الي احوال الطبيعة وعلاقاتها بأحوال الوجد المشبوب والشك والقلق والتأمل وعنفوان الصخب الروحى والاجتماعى وبطولة التحديق فى العشق والموت وجبروت اعتراف الملك العاشق بالضعف والهوان , ويالهول ما عصف بى , كأن الصور والموسيقي تنبع من قلبي وتقطر بها أعضائى وحواس !!
وهكذا بدأت البحث عن كل حرف كتبه محمود حسن اسماعيل , وحين قال لي صديق وزميلى الشاعر محمد على الحضيرى ان أباه مشترك فى مجلة ينشر بها محمود حسن اسماعيل قصيدة فى كل عدد من أعدادها الشهرية كنت أذهب الي قريته (مونسة) بدراجة أقطع بها خمسة عشر كيلو متراً فى الذهاب والاياب لأنسخ هذه القصائد وأعود بها الي قريتى بعد وجبة المخروطة أو الكسكس المتوج باللحم , والحاج على يغرقنى بدفء أبوته وذخائر محفوظة من الشعر والحكم والامثال . حين علمت أن الشاعر يعمل بالاذاعة أرسلت إليه رسالة محبة وإعجاب أقول فيها :"لو كان أحد يعبد بعد الله لعبدتك ".
تتبدى روح الاخلاق والمحبة للشعر والشعراء عند محمد عفيفى مطر إنه صادق الوعد والقراءة والعشق تعلم من جيل الرواد فصار رائداً لجيله ويدعونا الشاعر عفيفى مطر فى الهامش الاخير الثامن والثلاثين إلى العشاء الأخير كما يحب أت يصف رحيله من قريته رمله الانجب الي محافظة كفر الشيخ ليعمل بها مدرساً ابتدائياً. فيقول : ليلة عجيبة من ليالي الروح والذاكرة فاصلة هى بين زمنين ووجودين , وفاتحة هى لأبواب هو صدة على قلق حى وبشرى متوترة وسؤال مفتوح , تسلطت علىّ فيها أجواء اضطراب وإشراق صوفى يبرق بالشجن وحس الانعتاق وفداحة الحرية , ولست أدري لم تكثفت فى رمزين يتجادلان ويستضئ كل منها بالاخر , فقد تذكرت ليلة العشاء الأخير فى لوحة ليوناردو دافنش , وتذكرت لحظة هجرة المستضعفين من مكة الي المدينة . إننى لم أعشق مكاناً فى الارض مثلما عشقت قريتى , كما لم أكره البقاء فى مكان مثلما كرهت البقاء فيها , هى حجر الأم الحاضنة وهى فى الأٍسر يختنق بجناتها الوليد الأٍسير فلاحلم له الا بالقرار والخلاص من مدي أحضانها المحدد بمدى الزنزانة الموحشة …وإن سنة أخرى من البقاء فيها لكفيلة بقتلي أو انتحارى ….
لقد كنت أعرف وأومن بأن الشعر سينقذ إنسانيتي من هذا المعبر ويفتح أمامي مسالك الرؤية والوعى من هذا الموت الذى بت أخشاه وأحلم بالفرار من عنكبوتيتة المرعبة , ولكننى كنت أرى أن بقائى بقريتى سيجعل الخلاص صعباً أو مستحيلا , وهكذا قضيت الصيف ضيق النفس بكل شئ. ويواصل مطر الحديث عن معارضة أبيه للسفر والعمل فى كفر الشيخ عندما وصل خطاب التعيين "قال أبى : سأكتب شكوي وتظلماً وأبحث عن واسطة تغير التعيين الي المنوفية ولكنه بهت حين قلت : لا …. دعنى أبدأ حياتى كما أشاء …. فى بلاد أخرى وبين بشر آخرين … فأنا لا أطيق البقاء هنا ولو يوما واحداً …فسكت وهو يتنحنح بطريقته الخاصة حين يكظم العيظ .
فى الليلة العجيبة التى تسبق السفر تحلق الجميع للعشاء معى قبل رحيلى فانفجر الزمزان الجليلان فى الذاكرة لوحة العشاء الأخيرة ولحظة الهجرة وأنظر الي العائلة وأتذكر قول المسيح عن الخبز والشراب وقد أصبحا جسدة ودمه الرمز بين اللذين يحل بهما فى أجساد وقلوب وأرواح هوارييه لينطلقوا بالبشرى تحرير الانسانية من أعنى وأحط أفكار اي شعب عن نفسه ,فكرة شعب الله المختار,وتحرير البشرية من دموية احتكار الرب :….وفى صبيحة اليوم السابع من اكتوبر 1956 كنت أقف على رصيف محطة القرية , وأدور برأسى فى الجهات الأربع , تغيم عيناى بالذكريات , وتتحسس يداى السلة الكبيرة التى أحمل فيها لحافا وقليلا من الملابس وبضعة أرغفة تحت عدد من الكتب : نسخة من القرآن , الكتاب المقدس وحى القلم للرافعى , أين المفر لمحمود حسن اسماعيل , ألف ليلة وليلة المترجمة الي الانحليزية بعنوان "الليالي العربية" محاورات أفلاطون , الذخيرة الذهبية مختار الصحاح , قاموس ميشيل ويست .
إن جل المؤلفات التى ذكرها عفيفى مطر مصطحباً إياها فى سفره هى فهى _ بحق_ أوائل زيارات الدهشة , هوامش التكوين كما يحب أن يطلق عليها عفيفي مطر , جاءت هذه الهوامش فى اسلوب نثري راقٍ لا يخلو من الشعر بل إن الشعر فىجوهرها يمكن داخلها .
كان الايجاز والتكثيف اللغوى والبلاغى هما ديون عفيفى مطر وهو يكتب هوامشه التى –فما أظن- أسمت اسهاماً مباشراً فى تكونه هو شعرياً وثقافياً وصارت نصوصه مستناً قوياً إبداعيا فى الثقافة العربية بعامة والمصرية بخاصة , إن عفيفى مطر آثر أن يقدم سيرته الذاتية بطريقته هو لا بالطريقة التقليدية التى نعرفها جميعاً , له الحق كل الحق فى أن يغيرا ملامح الثقافة ويغير وعى ووجدان هذه الأمة من خلال رؤيته الثقافية وانتاجيته النافذه العابرة للأجيال والأزمان .
احمد الصغير المراغي
Exit mobile version