في وداع أنيس صايغ .. نرثي رجلاً قضى العمر كداعية للتحرير

بقلم : أوس داوود يعقوب*
 Aws1948@gmail.com
*كاتب وباحث فلسطيني
 كم هو مؤلم هذا العام الذي أصر أن لا يودعنا إلا بعد أن يختطف من بيننا رجلاً من خيرة رجالنا ، رجلاً كرس حياته ونضاله، وبذل عمره كاملاً من مطالع شبابه وحتى الرمق الأخير من حياته الزاخرة بالعطاء والنضال في سبيل فلسطين ومن أجل شعبها ، وكان دوماً معول بناء وتشييد، ورمزاً للاستقامة والنقاء الثوري .
ولكم يعتصر القلب ألماً عندما نفارق شخصية فذة ونادرة في حياتنا المعاصرة، مثل الدكتور أنيس صايغ.
أنيس عبدالله صايغ ، نسباً، هو السوري، المولود في 3 تشرين ثاني/نوفمبر 1931 في طبريا، وهويةً، هو الفلسطيني العربي الذي يجمع في زخمه الثوري دمشق وبيروت وعمان وباقي عواصمنا العربية .. وقد عاش ملامح الوطن المغتصب بكل جوارحه ، وعاشت ملامح الوطن الثائر في ثنايا وجهه وذاكرته وعقله.
ترجل الفارس ولواء التحرير مازال يرفرف
يوم الجمعة 25 كانون الأول/ديسمبر 2009 ترجل الفارس الذي قضى العمر مناضلاً عربياً .. كداعية للتحرير بالمقاومة المسلحة والفكرية والوعي والمعرفة. ولقد أعطى الفقيد القضية الفلسطينية المستوى الفكري الذي تستحق ، وصاغ عصارة فكره في مجموعة كبيرة من المقالات والبحوث والدراسات التي حملت هموم وطموحات جيل بأكمله، وأثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والترجمات.
وقد كان أكثر من غيره اهتماماً بالمستقبل وبالتخطيط المسبق، ويرى أنه ربما كان في البلاد ما يكفي من المقاتلين، لكن المؤكد أنها بحاجة ماسة إلى آلاف المتعلمين وأصحاب الاختصاص.
والصايغ هو من الرعيل الأول الذي رفع لواء تحرير الوطن، وأكد على حق شعبه في العودة إلى فلسطين، التي يكمن سرها في أنها أكبر من كل من حاول ويحاول سرقتها.
وقد عاصر الدكتور أنيس صايغ مراحل الوجود الفلسطيني في لبنان منذ العام 1948 وحتى تاريخ رحيله قبل أيام ، وكان شاهداً على الاجتياح الصهيوني لبيروت وعلى خروج قوى المقاومة الفلسطينية منها العام 1982 ، ولقد تغلب على مصاعب كثيرة، وواجه آلامه بشجاعة مشهودة، ونجا من الاغتيال مراراً ، بعد أن حاول العدو الصهيوني اغتياله أكثر من مرة ، أبرزها كانت الرسالة المفخخة التي بترت أصابع يده وأفقدته بعض الحواس، السمع والبصر والشم ، كأن العدو أراد أن يفقده القدرة على ممارسة هوايته المفضلة القراءة ومهنته الكتابة، ولكنه وجد في زوجته الدكتورة هيلدا شعبان ومساعديه ومحبيه العوض فيقرأون له ويملي عليهم عصارة أفكاره، فتمكن من قهر العدو الصهيوني، الذي استهدف أيضاً مركز الأبحاث بعدة اعتداءات إرهابية كان آخرها سرقة أرشيف ومكتبة المركز في بيروت عام 1982 ولكن لم يثنيه ذلك عن متابعة نضاله القومي حتى الرمق الأخير.
 وفي خضم هذه الأحداث كلها كان الصايغ مناضلاً صلباً وعنيداً، وكاتباً مرموقاً أوقف قلمه على النضال في سبيل انتصار مبادئه، وانتصار الحق على الظلم ، وكان يُحسن اختيار الكلمات والعبارات لعلمه المسبق بفعل وتأثير الكلمة إنسانياً وتاريخياً.
يقول الدكتور أنيس: (واصلنا تحدي العدو. وكان الصمود ومتابعة المسيرة هو الرد الأقوى على المحاولات الإرهابية. ولو لم يكن عملنا يخيف العدو ويؤذيه مباشرة لما كان حرصه على إلغائنا نحن أكثر من سائر الدوائر والمؤسسات والهيئات الفلسطينية، التي أعلنت الحرب على (إسرائيل)، بمجرد قيامها وبقائها. وهكذا كنا، في المركز، ننظر إلى الاعتداءات كأوسمة شرف وكاعتراف من العدو بأننا نهدد وجوده. كنا نؤمن بأن المعركة الثقافية مع العدو هي من صميم الحرب، وهي من أمضى الأسلحة لأنها هي التي ترشد الأسلحة الأخرى وتعزز قوتها).
عام (2009) الأكثر دموية للفلسطينيين
يأتي رحيل المفكر الدكتور أنيس صايغ، بعد شهور قليلة من رحيل سنديانة فلسطين اليافاوي اللبناني، المفرط في فلسطينيته، المعلم والقائد شفيق الحوت، ولكم هو مؤلم أن نودع مثل هؤلاء الرجال.. لكنه القدر الذي لا مفر منه .
يقول الدكتور عزمي بشارة عنهما : ( لمن لا يعرفهما، شفيق الحوت وأنيس الصايغ شخصان مختلفان إلى أقصى درجة يمكن أن تتصور. شفيق الحوت ابن يافا، رجل الساحل السوري، ابن فلسطين وسليل لبنان، حاد حاضر البديهة منطلق جهوري واثق، كأنه ولد لكي يكون قائداً، كاريزما تمشي على رجلين. وأنيس الصايغ مثقف ورجل صلب لكنه خافت هادئ مؤدب إلى درجة الاعتذار.
لكنْ كلاهما يختلف بدرجة أكبر عمّن مثل الفهلوية السياسية والفساد والإفساد وبهدلة المؤسسات في القيادة الفلسطينية. الجمع بين التنور والبحث عن العدالة للشعب الفلسطيني، بين المناقبية والعقلانية، بين بناء المؤسسات والنضال يجمع شفيق وأنيس… إنهما رمز جيل يجسد ليس بالحجة المبرمة ولا بالشعار الثوري، بل بالسيرة الشخصية والعقل والروح والنفس والخلق وحدة سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن، وبطْلان سايكس بيكو. وطنيان فلسطينيان لم يتخلّيا عن القومية العربية . ممثلاً جيل يستطيع بسيرته الصادقة أن يفهم جيلًا وُلد في ظل الحدود أنه لا يجوز تصديق ما صنعه الاستعمار، فضلاً عن التعصب لما صنعه. كم يجسد الرجلان ما كان يمكن أن تكون بلادنا عليه).
يتشابه الرجلان إذن في الثبات على الحق الفلسطيني ، بعد أن قضيا العمر بعيداً عن أرض الوطن، مدافعين عن فلسطين، رافضين لكل محاولات التنازل عن الحقوق الوطنية لشعبنا وقضيته. وقد شاء الله عز وجل أن يرحلا عنا في نفس العام ، لتغص النفس بحسرة ومرارة  تكاد لا توصف من كثرة الموت الفلسطيني اليومي ، ففي هذا العام  حرصت آلة القتل الصهيونية على القتل بالجملة ليكون عام (2009) الأكثر دموية للفلسطينيين في العقدين الأخيرين من الصراع مع العدو الصهيوني ، حيث سقط أكثر من 1400 فلسطيني جراء العدوان الصهيوني الغاشم على قطاع غزة المحاصر صهيونياً ومصرياً بمباركة من زمرة المقاطعة السوداء في رام الله المحتلة.
وفي هذا العام أيضاً ودعنا القياديان الحمساويان الشهيدان سعيد صيام والشيخ نزار ريان، وكذلك الدكتور سمير غوشة ، أمين عام جبهة النضال الشعبي الفلسطيني وعضو تنفيذية منظمة التحرير ، والقيادي الفتحاوي صخر حبش (أبو نزار) .
وأمام هذا المشهد الدموي الدامي أُقر أن قاموس المراثي قد فرغ ، وأن الكلمات فقدت معناها من كثرة تكرارها ، فماذا عسانا نقول في حق علم من أعلام النضال القومي ضد العدو الصهيوني، عبر مشاركته مشاركة فعالة في الجبهة الفكرية والثقافية التقدمية الفلسطينية العربية، وعبر كل ما كتبه كقائد رأي ومفكر وباحث ظل حتى أيامه الأخيرة ، في كتاباته ،على نباهة مَن لم يوهن طاقته ثقل المعرفة .
ولمن لا يعلم فإن الدكتور أنيس صايغ ، ومنذ اللحظة الأولى لتوقيع اتفاقيات أوسلو المذلة المشؤومة ، أعلن رفضه لها ولم يتراجع أبداً عن موقفه الرافض لكل اتفاقيات الاستسلام والعار، وما جرته من ويلات على مصير القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين تحت الاحتلال وفي الشتات، وكان يجاهر بنقد الخطأ في القيادة ، حتى لو كلفك ذلك ما كلف. وقد وجه انتقادات لاذعة للرئيس الراحل ياسر عرفات و لنهجه وللقيادة الفلسطينية السائرة في ركب أوسلو ، لأنها قدمت التنازلات المجحفة في حق شعبنا الفلسطيني في صراعها مع العدو وآلته القمعية، مما أدى إلى نسف مسيرة النضال الفلسطيني والتفريط بكل الحقوق الوطنية الفلسطينية .
ولقد كانت معارضة الصايغ للعملية السلمية تستند إلى إيمانه بضرورة السير في طريق آخر غير الاستسلام. وظل يردد دوماً (أنا فلسطيني يؤمن بتحرير فلسطين من بحرها إلى نهرها وعربي يؤمن بوحدة الأمة عبر نضال مشترك).
سيرة شعب وقضية وثورة
«أنيس صايغ عن أنيس صايغ» سيرة ذاتية ـ صادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر، في بيروت، في أيار /مايو 2006، في (534) صفحة قطعاً كبيراً ، وهي تضم تسع محطات رئيسة في حياة المؤلف. المحطة الأولى بعنوان، «في المنبت»  والمحطة الأخيرة عنونها « في التقاعد » ـ وفي سيرته الذاتية هذه ـ  يكتب الدكتور أنيس عن طفولته في طبريا وعن أشقاءه فايز ويوسف وتوفيق، ويكتب عن البيت والمكتبة ومحورية الثقافة في بيت القس ، ويشرح بدقة دون كلل كأنه ما زال يحاول أن يوضح لبيروقراطيين في جهاز المنظمة من أين تأتي أناقته وجديته ودقة مواعيده واهتمامه بالمستوى الأكاديمي للمادة التي يقوّمها في مركز الأبحاث، كأنها كانت بأعينهم تهم تحتاج إلى تبرير.
وفي سيرته ينتقل الصايغ إلى الحديث مطولاً في فصل عنونه: (في العلاقة مع السيد ياسر عرفات…)، وفيه يسهب لتبرير العلاقة المتوترة مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان يضع العصي في دولاب عمله، مع أن ياسر عرفات كان بشكل أو بآخر رئيسه المباشر حيث أن مركز الأبحاث كان أحد روافد منظمة التحرير الفلسطينية، يقول الدكتور أنيس في هذا الخصوص: (أما أن يُعتب علي بأني أنبش صفحات من الذاكرة عن عرفات بعد رحيله فأمر مردود ومرفوض، لأن هذه الصفحات جزء أساسي من تاريخ شعب وقضية وثورة. وإن تجارب المرء الشخصية حق من حقوق الأمة وتراثها الثقافي والسياسي والنضالي وليست ملكاً لفرد يستأثر بها ويتستر عليها، رحم الله ياسر عرفات).
ويكشف الصايغ صفحات من تلك الأيام: ( بعد تعاظم سمعة المركز فلسطينياً وعربياً وعالمياً، راح عرفات يُبدي اعتراضه على استقلالية المركز، ويحاول السيطرة عليه بالتهديد والتحريض والضغط. في النهاية، نجح في قتل المركز والمجلة. وفي أوسلو سقط القناع نهائياً عن وجه عرفات وعن وجوه معاونيه وحاشيته. كان لا بدّ من شطب النضال الثقافي لتحقيق الاستسلام السياسي).
تقول له إنّ كثيرين لم يحبِّذوا أن يوثِّق تجاوزات أبو عمار في فصل كامل من مذكراته. يجيب: (أنا لم أوثِّق بل كتبت ما كان يحدث. الذين احتكّوا بعرفات يعرفون قصصاً أسوأ مما حدث لي. المؤسف والخطير أنّ هؤلاء حوّلوا ذلك إلى نوادر ودعابات).
ويضيف : (كان عرفات يريد أن يكون المركز ومنشوراته وباحثوه رجال إفتاء يجيزون الأفكار والآراء والأحكام التي يريدها حسب مزاجه وفهمه للأمور). وهو يقول: (لم يكن لعرفات مآخذ واضحة وصريحة ومباشرة على إدارتي لمركز الأبحاث).
وفي المقابل، كان العدو من موقعه المتقدم في الجنوب اللبناني يرصد تحركات أنيس صايغ وكتاباته !!
ويختم الدكتور أنيس صايغ سيرته الذاتية قائلاً: (في طبريا وعلى الطريق إلى طبريا، ومن أجل طبريا، يطيب الموت، لأن المرء يموت واقفاً، وكأنه لا يموت. هناك يتساوى الموت مع الحياة حلاوة. ودون ذلك تتساوى الحياة مع الموت مرارة).
في شقته التي لا تزال بالإيجار، تأتيه أحلام متكرّرة يحوم فيها حول بيت العائلة القديم في طبريا ولا يدخله. يخبركَ بأنّ مستوطناً يهودياً جاء من الصين وحوّل بيتهم مطعماً للسمك. ثم يضيف بأسى: (التقيت بمطران القدس للبروتستانت في بيروت قبل أيام، فأخبرني أنه تغدّى في بيتنا قبل فترة ووعدني بإحضار صور له).
أحلام العودة تُذكِّره بأمكنته الأولى، وبحلم إنجاز كتاب العمر عن طبريا. يتنهَّد ويقول: (لا أظن أن حق العودة سيتحقق في الأيام الباقية لي. أما الكتاب فلن يرى النور لأن عينيَّ لن تساعداني على عمل كبير كهذا).
ويروي المرحوم الأستاذ شفيق الحوت المقتلع من يافا أنّ ابنته سألته: لماذا يتحدّث عمّو أنيس كثيراً عن جمال طبريا؟ فأجابها: لأنه لم يرَ يافا). الحوت قال ذلك على سبيل الدعابة، لكن الشجن الغائر تحت هذه الدعابة يوحي بأنّ لكل فلسطيني حكاية مع مسقط رأسه. وهذه هي حال أنيس صايغ مع طبريا التي وصفها في مذكراته بـ «سيّدة المدائن».
رحلة عمر حافلة بالعطاء والتضحيات
بعد إنهاء دراسته الثانوية ، أراد الدكتور صايغ أن يدرس التاريخ، لكن الجو السياسي والحزبي المحموم في الجامعة الأميركية، وتزامن ذلك مع نكبة فلسطين، أوقعه في فخّ السياسة. غير أنه جمع لاحقاً بين شغفه بالتاريخ وتخصّصه في السياسة من خلال عمله مديراً لمركز الأبحاث الفلسطيني وإشرافه على الموسوعة الفلسطينية. قبل ذلك، سينشر، طالباً، مقالاته التاريخية الأولى في جريدة «الحياة»: (كنتُ أذهب مع هشام أبو ظهر إلى مكاتب «الحياة» في «الخندق الغميق»، وننتظر خروج صاحبها كامل مروّة. ندخل ونسأل عنه فيقول لنا البواب إنه غير موجود، فنترك المقال على مكتبه. كنتُ أخاف أن يكتشف أني لا أزال طالباً صغير السن، يكتب في موضوعات أكبر منه. مرة أُعجب بمقالاتي وأضاف لقب «الدكتور» إلى اسمي. وحين أوضحتُ له في مقالة لاحقة أني ليس دكتوراً، استمر بمنحي اللقب ظانّاً أنّي أتواضع، إلى أن هاتفه أستاذي نقولا زيادة غاضباً ومستنكراً، فعاد اسمي من دون اللقب الفخري).
بعد التخرج من الجامعة الأميركية ببيروت عام 1953 حتى التحاقه بجامعة «كامبردج» عام 1959 كتب في جريدة  «النهار» و«الأسبوع العربي». في تلك الفترة، أصدر كتابه الأول: «لبنان الطائفي». ثم ابتعد عن القوميين وصار ناصرياً. نشر كتباً أخرى وعمل في تحرير عدد من الموسوعات والقواميس، قبل أن يبدأ مشروع حياته.
وفي عام 1966، وصلته ـ وهو في لندن ـ برقية من شقيقه الدكتور فايز الذي كان قد أسس مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية أوائل عام 1965، يطلب منه الاجتماع مع الأستاذ أحمد الشقيري، رئيس المنظمة آنذاك، للبحث في مشروع سبق أن تحدث معه بشأنه وهو إصدار موسوعة فلسطينية. قدم فايز استقالته، وكُلِّف أنيس برئاسة المركز والعمل على إنجاز الموسوعة معاً. طوال عشر سنوات، استأثر المركز بكل طاقته ووقته ووجدانه ، كان مركز الأبحاث أهم إنجاز ثقافي فلسطيني، هناك عمل وتدرّب عشرات الصحفيين والكتاب والمثقفين الذين يعتبرون مرورهم بالمركز لحظة تاريخية ومفصلية في مسيرتهم الثورية والإبداعية الشخصية.
وقد حقق الدكتور أنيس صايغ انجازات هامة وكبيرة من خلال عمله في العديد من المواقع منها : مدير عام مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية (1966-1976) ، مؤسس ورئيس تحرير مجلة شؤون فلسطينية (1971-1976) ، رئيس تحرير اليوميات الفلسطينية (1966-1976) ، المشرف على سلسلة دراسات خاصة (1970-1976) ، ممثل فلسطين في اللجنة الدائمة للإعلام العربي (1969-1970) ، مستشار الأمين العام لجامعة الدول العربية (1977-1987) ، رئيس وحدة الدراسات في الجامعة (1980-1982) ، مشرف على لجنة الترجمة والتعريب في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم(الألكسو) (1981) ، عضو لجان إستراتيجية الثقافة العربية وتعديل ميثاق الجامعة العربية (1981-1985) .
وهو مؤسس ورئيس تحرير كل من المستقبل العربي وشؤون عربية وقضايا عربية – السلسلة الجديدة (1978-1982) ، وله الفضل الكبير في اطلاق مشروع الموسوعة الفلسطينية منذ 1966 ومستشار المشروع منذ 1978 ورئيس التحرير منذ 1982 ورئيس مجلس الإدارة منذ 1988 ، كما كان مستشار مشروعي الموسوعة العربية في دمشق وبغداد والموسوعة الفلسطينية الميسرة في عمان .
وكان عضو المجلس الوطني الفلسطيني ونائب رئيس المؤتمر الوطني الفلسطيني والناطق باسمه ، وعضو لجنته وممثله في لبنان ، ومؤسس اللقاء الثقافي الفلسطيني في بيروت ومنسقه العام منذ 1992 .
وقد تابع بدأب من خلال الدراسات الموثقة أكاديمياً قضايا العدو إلى جانب المؤلفات التي تتناول موضوعات القضية الفلسطينية.
الصياغ الأربعة .. قناديل «سيّدة المدائن»
في نهاية المطاف نقول بألم شديد : نعم لقد غيب الموت مفكراً وقائداً كبيراً في وقت عصيب يعيشه شعبنا وقضيتنا . بعد أن انتهى المطاف بالثورة إلى سلطة فاسدة متأمرة تقوم بوظيفة شرطة الاحتلال .
ترجل الفارس الكبير بعد مسيرة كفاح طويلة قضاها مدافعاً عن القضية الفلسطينية، ويا للأسف مدافعاً عنها من بعض أبناءها الذين ضلوا الطريق وساروا في ركاب دايتون وحاملي جوائز نوبل للسلام ( الإرهابي إسحاق رابين ومؤخراً الرئيس الأمريكي باراك اوباما)
ولكن روح الرجل ومآثره باقية، وسيظل اسمه باقياً في سجل الخالدين.. سجل الوطنية الفلسطينية ، وهو لن يبارح ـ كأي رمز من رموز فلسطين الأرض والتراث والهوية ـ وجداننا ، فقد كان ينضح فكراً منتمياً لفلسطين. وسيبقى جزءاً من الذاكرة الفلسطينية الوطنية، التي تستعصي على النسيان ..
وهنا أتذكر كلمات المعلم الراحل شفيق الحوت في رثاء المفكر الدكتور فايز صايغ (1922- 1980)، شقيق أنيس الذي يكبره بتسع سنوات، حيث قال:(يكتشف المرء أنه ليس كل من عاش عاش، وليس كل من مات مات … لا يموت إلا من عاش لذاته، ولكن من عاش لغيره، للناس، للمثل العليا، لقيم الخير والحق، فإنه يرحل، يغيب، ولكنه لا يموت … قضيته كانت قنديل مشواره في هذه الدنيا، يستعين به بحثاً عن طريق، عن عقيدة، عن حزب، عن قائد، عن فكرة، عن أي خشبة خلاص تضع حداً لمأساة شعبه … مأساة عمره).
هذه الكلمات الصادقة التي قالها الحوت في حق فايز الصايغ تليق أيضاً بأنيس وبشقيقهما الأكبر الاقتصادي الدكتور يوسف (1916 ـ 2004) ، وكذلك شقيقهم الرابع الشاعر توفيق (1923-1971) ، ذلك أن أربعتهم قدموا الكثير لفلسطين ، كلٌ في مجاله ومن موقعه المؤثر، ولا أجد ضيراً في هذه المناسبة الأليمة من أن أعرف القراء بالصياغ الثلاثة ( يوسف وتوفيق وفايز) ، تغمدهم الله بواسع رحمته ، تقديراً لما قدموه ، وحتى يتسنى لنا معرفة المناخ المعرفي والثقافي والنضالي الذي عاش في رحابه الراحل الكبير أنيس صايغ ، أي «المنبت» ، العائلة الكبيرة ـ سبعة أولاد وبنت واحدة ماري ـ وكان أنيس آخر حبة في عنقودها، أما الوالدان فهما القسيس الإنجيلي عبدالله الذي ولد في قرية خربا الحورانية، وعفيفة من البصة على الشاطىء الفلسطيني ، وقد ولد أنيس وبعض من إخوانه في طبريا على شاطىء بحر الجليل. وبعد نزوح صايغ الأب مع العائلة إلى لبنان اثر النكبة، استعاد جنسيته اللبنانية عام 1958 ثم جنسيته السورية عام 1973. الانتماءات الثلاثة جعلت الإخوة قوميين سوريين بالولادة. يوسف وفايز كانا عضوين في الحزب القومي السوري. أما أنيس فكان واحداً منهم من دون عضوية رسمية. ولم يكتفِ أنيس بهوياته الثلاث، فزادها بزواجه من أردنية. يضحك حين يقول له الأصدقاء إنّه جمع مجد الحزب من أطرافه.
يوسف صايغ  (1916 ـ 2004) :
ولد يوسف سنة 1916 ، في قرية خربا بمحافظة السويداء السورية ، وانتقل والده القس عبدالله صايغ مع عائلته إلى قرية البصة شمالي فلسطين ثم إلى طبريا سنة 1930، وبقي والده قسيساً لمدينة طبريا حتى نكبة 1948، فالتجأت عائلته إلى بيروت.
نال شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، عمل أستاذاً للاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت (1954 ـ 1974) وأستاذا مشاركا زائرا في جامعتي «هارفرد» (1959 ـ 1960) و«برنستون» (1960 ـ 1961)، وعمل منذ عام 1974 مستشاراً غير متفرغ لمجلس التخطيط في الكويت، ولمنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، وللصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، ولجامعة الدول العربية. وشغل في منظمة التحرير الفلسطينية منصب رئيس مركز التخطيط، ثم عضو اللجنة التنفيذية، ورئيس الصندوق القومي الفلسطيني (1968 ـ 1974) كما كان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني منذ إنشائه عام 1964.  وعضو المؤتمر القومي العربي ، وله العديد من المؤلفات .
والدكتور يوسف هو الوحيد ، من بين أشقاءه ، الذي حظيت بشرف التعرف عليه ، فقد التقيته مرات عديدة ، في مؤسسة «صامد»، في مقرها الرئيس في العاصمة التونسية . كان رجلاً دمثاً ، دافئاً ومتحدثاً لبقاً ، يأسرك بأحاديثه عن الوطن والمنفى  والترحال ، وزخم سنوات النضال في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وقد توفى الدكتور يوسف بتاريخ 12/5/2004.
توفيق صايغ (1923- 1973) :
ولد توفيق سنة 1923 في قرية خربا ، تلقى دروسه الابتدائية في طبريا والثانوية في الكلية العربية في القدس، ثم في الجامعة الأميركية في بيروت وتخرج منها سنة 1945.
عمل أستاذا في مدرسة الروضة في القدس، ثم موظفاً في دائرة الترجمة التابعة لحكومة فلسطين، فمدرساً للأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، فأميناً لمكتبة المركز الثقافي الأميركي في بيروت (1948 – 1950) وكان في الفترة نفسها محرراً لمجلة «صوت المرأة».
وعمل من عام (1954– 1959) محاضراً في الدائرة العربية بجامعة «كمبردج»،  ثم محاضراً في جامعة لندن من (1964 –1959) ، ثم عاد إلى بيروت وأصدر مجلة «حوار» التي طبعت الستينيات. وحين اكتشف طبيعة تمويل المجلة من المخابرات الأميركية، أعلن توفيق استقالته من رئاسة التحرير، وعمل بعدها أستاذاً زائراً في دائرتي الأدب المقارن ولغات الشرق الأدنى بجامعة «بيركلي» في أمريكا التي عمل بها من (1969 إلى1971). وفي 3 كانون الثاني/يناير 1971، توفي بطريقة درامية في مصعد الجامعة ، ودفن في كاليفورنيا.
وقد تعمق توفيق في الآداب الغربية، وتأثر بالكتاب المقدس. كتب شعرا ذا صبغة دينية صوفية وجد فيه النقاد أصداء من الشاعرين الانكليزيين جورج هوبرت ورتشارد كراشو، وملامح من بليك أحد الممهدين لرومانسية القرن التاسع عشر، وقرنوا بين فكرة النفي في شعره وإحساسه بأنه فلسطيني منفي يحمل معاناته.
وفي كانون الثاني/ يناير 1990 منح اسمه وسام القدس للثقافة والفنون من منظمة التحرير الفلسطينية.
فايز صايغ (1922- 1980) :
ولد فايز عام 1922 في قرية خربا ،  ثم رحل مع أسرته إلى طبريا ، وهو سياسي ودبلوماسي، وأكاديمي، ومفكر. درس في صفد ثم في الجامعة الأميركية في بيروت حتى حصوله على  الماجستير عام 1945. عمل في التدريس لمادة الفلسفة عام 1950، انتسب في شبابه إلى الحزب السوري القومي بلبنان، وتسلم مسؤوليات مهمة فيه، وكان من أبرز دعاته ومفكريه.، وتولى موقع عميد الإذاعة فيه.
عين مستشاراً للوفد اليمني في بعثة الأمم المتحدة (1955 – 1957).
وفي عام 1959 كان رئيساً للمؤتمر العربي الفلسطيني في بيروت، وشغل منصب أستاذ زائر في جامعة «ستانفور» في الولايات المتحدة من (1960- 1962)، وفي جامعة «اكسفورد» (1962-1964)، ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت من (1964- 1967). اختير عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية (1965-1966).
وقام بتأسيس مركز الأبحاث التابع للمنظمة عام 1965 وصار رئيساً له ، وكان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني حتى وفاته .
أصدر نحو عشرين مؤلفاً، وقد ترجم بعض هذه الكتب إلى لغات أوروبية. واشتهرت مناظراته التلفزيونية والإذاعية والجامعية مع الصهاينة ومؤيديهم. وقد كان وراء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 (الدورة 30) الذي يدين الصهيونية على أنها شكل من أشكال العنصرية، وهو الذي صاغه.
توفى في نيويورك في 15/12/1980.
تحية لفارس الفكر الفلسطيني
أخيراً أقول : أنيس صايغ، أيها الرجل الذي أحببت وتعلمت منه الكثير ، دون أن أحظى بشرف اللقاء ، وإنما من خلال آثاره القلمية ، لك أقول بعد أن غادرتنا دون استئذان ، ستبقى علامة فارقة في تاريخ الفكر الفلسطيني العربي المعاصر. وواحداً من المناضلين الرواد الذين ثبتوا على مواقفهم ولم تزعزع الأيام عزائمهم وإصرارهم على متابعة النضال حتى النصر الحاسم. لأنك من الذين بقوا مع الثورة حتى النصر، والنصر لا يكون إلا بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، فنم قرير العين، والعهد أن ننقل رفاتك ذات يوم إلى طبريا..«سيّدة المدائن».
وفي الختام أشير إلى أن آخر ما قرأت لراحلنا الكبير الدكتور أنيس صايغ، هو مقالة له بعنوان «الثوريون لا يموتون أبدا» ، نشرت في جريدة «القدس العربي»، بتاريخ (26/10/2009) ، وهي بمثابة مقدمة لكتاب عن حكيم الثورة الفلسطينية القائد الراحل جورج حبش ، الذي يصدر قريباً عن دار الساقي ، وقد آثرت أن أنشرها في ختام مقالي هذا ، كتحية لفارس الفكر الفلسطيني المعاصر، الغائب الذي سيبقى حاضراً بيننا طويلاً .

Exit mobile version