"فتح" 2010 و"فتح" 1965…ثمة فوارق جوهرية
بقلم: زياد ابوشاويش
في البداية نتوجه بالتحية والإكبار لشهداء فتح وقادتها الكبار ممن قدموا أرواحهم من أجل حرية وطنهم وشعبهم وفي طليعتهم القائد الكبير ياسر عرفات والتحية موصولة لأعضاء الحركة وكادراتها وقيادتها بمناسبة الذكرى الخامسة والأربعين لانطلاقتها.
إنطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" هي انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة ومشروعها الوطني الذي اهتم أولاً بإنهاء حالة التبديد للهوية الوطنية مترافقاً مع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية كمجسد لهذه الهوية ومن ثم تحولها إلى ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني والوطن المعنوي له في الوطن والشتات، بهذا المعنى كانت "فتح" الأداة الأكثر شرعية لتولي قيادة المنظمة وحمل برنامجها لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وقد تماهى البرنامج السياسي لحركة فتح مع الميثاق الوطني الفلسطيني الذي اعتمد بداية باسم الميثاق القومي الفلسطيني تجسيداً لفكرة القضية المركزية للأمة قبل تعديله ليتوافق مع بدء الثورة المسلحة لفصائل المقاومة الفلسطينية باعتبارها طليعة الأمة ورأس الحربة في معركة التحرير.
إن مشروع الهوية والدولة لا يتحقق إلا بزوال الدولة العبرية كلياً واستعادة الوطن الفلسطيني بما يعنيه ذلك من مجابهة لمعسكر خصم كبير وقوي وما يتطلبه ذلك من حشد وإعداد لم يكن متوفراً حين انطلق العمل المسلح ضد إسرائيل، الأمر الذي أكده البرنامج الثوري لحركة فتح والميثاق، وقد فهم قادة الحركة أن انتظار تجهيز الجيش العربي القادر على خوض معركة حاسمة مع الكيان الصهيوني قد يستغرق ألف سنة على ضوء تجربة حرب عام 48 ووقوع النكبة وعلى ضوء الواقع العربي الذي يقول بأن المعركة القومية مع إسرائيل غير ممكنة في وجود معسكر عربي رجعي حليف لأمريكا ويملك قدرات كبيرة.
إذن انطلقت حركة فتح وفي قناعة مؤسسيها أن اشتعال القتال وتطوره سيأتي بالنتيجة التي استهدفها هؤلاء من تحشيد ومساندة شعبية عربية والتفاف فلسطيني في الدرجة الأولى حولها قادر على خلق توازن يتطور مع الوقت لتفوق يجبر الكيان على القبول بالرؤية الفلسطينية للحل والمستندة لعروبة فلسطين وكونها جزء من الأمة العربية ولديمقراطية تعطي الفرصة المتكافئة لكل مواطنيها للعيش على قدم المساواة سواء كانوا يهوداً أو عرباً.
هذا التصور الواقعي للمعركة رغم التفوق الظاهر للعدو ارتكز على رؤية تاريخية صحيحة فيما يخص مآل ونتيجة المواجهة بين أصحاب الأرض الحقيقيين وبين مزاعم تستند إلى أسطورة دينية بددتها خيارات المؤتمر الأول للحركة الصهيونية في بال بسويسرا عام 1898 حين كان مطروحاً على بساط البحث أماكن أخرى بخلاف فلسطين لإنشاء وطن لليهود.
كما استند على فهم عميق لطبيعة الشعب الفلسطيني المرتبط بأرضه والمصمم على استعادتها في مقابل مستوطن وافد سيكون أقرب للهروب إذا ما تصاعدت وتيرة القتال وشعر بتهديد جدي لوجوده ناهيك عن رفاهيته التي جعلها مفكروا وقادة الكيان أحد الوسائل الدعائية الأكثر نجاعة لاجتذاب المستوطنين من كل أرجاء العالم وخاصة من دول المعسكر الاشتراكي سابقاً.
وباختصار شديد فقد استند البرنامج وتحديد الهدف برؤية استراتيجية لدى مؤسسي الحركة والذين كان معظمهم من جماعة الإخوان المسلمين قبل أن يتولوا إنشاء "فتح" ، هذه الرؤية الاستراتيجية تجعل إمكانية حل التناقض مع المشروع الصهيوني أمراً مستحيلاً، ولا تقدم للشعب الفلسطيني أية أوهام حول السلام معه أو البحث عن توافق، أو تسوية تاريخية تعطي فرصة لوجود دولة يهودية فوق أرض فلسطين.
وكما نلاحظ فقد كانت الرؤية واضحة لدى حركة فتح وكذلك لمشروعها الوطني المبني على واقع وتاريخ وحقائق وليس أوهام، ومن هنا كان الالتفاف الجماهيري الكبير حول الحركة والتدفق الهائل لمنتسبي الحركة على القتال بين صفوفها، هذا القتال الذي انتهج طريقاً مجرباً لحركات التحرر الوطني المبني على إدراك الخلل الكبير في ميزان القوى مع عدو متفوق على غير صعيد ومسنود من القوة الأعظم في العالم. كانت حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد كاستراتيجية للمواجهة ولتجاوز هذا الخلل قد اعتمدت ليس فقط في صفوف حركة فتح بل وفي معظم فصائل المقاومة وخاصة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي قدمت فهماً ناضجاً لهذه الحرب ومرتكزاتها الفكرية والاجتماعية.
لقد قدم هذا الفهم والممارسة عند حركة فتح نموذجاً ناجحاً وصحيحاً لمعارك التحرير الوطني وحقق في البداية إنجازات كبيرة مكنتها من تسلم منظمة التحرير الفلسطينية من بابها لمحرابها كما حقق أحد أهم إنجازات شعبنا بعد النكبة وهو الاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، المنظمة التي ضمت في صفوفها كل فصائل الكفاح المسلح والاتحادات والنقابات وعلى برنامج تحرير فلسطين، كل فلسطين.
وحين اعتمد البرنامج المرحلي بعد حرب أكتوبر73 كان ذلك على قاعدة البرنامج الاستراتيجي والميثاق الوطني باعتباره أداة لكسب الرأي العام الدولي وكآلية تمكننا من تحقيق هدف تكتيكي يمهد لاستكمال المهمة وإنجاز المشروع الوطني ولم يكن على قاعدة التسليم ب78% من الأرض الفلسطينية للدولة العبرية.
والآن وبهذا الاختصار ومع إدراك أن أغلبية قادة فتح اليوم كانوا في مرحلة اليفاعة حين انطلقت حركتهم، هل يمكن أن نقول أن حركة فتح اليوم هي ذات حركة فتح عام 1965؟
طبعاً ليس المقصود فتح ببنيتها وشخوصها وغير ذلك مما يستحيل استمراره والذي يتغير ليس في سنوات بل في أشهر وأيام أحياناً، بل نقصد حركة فتح بمرتكزاتها وأسسها الفكرية وبرنامجها الذي من المفترض أن يكون التغيير فيها طفيفاً ومستنداً لواقع مختلف ومتغير وهي تغييرات مفهومة ومطلوبة كذلك.
الجواب ببساطة: حركة فتح 2010 ليست حركة فتح 1965، ولا تشبهها من قريب أو من بعيد
والتغيير وقع في الجوهر وليس في المظهر أو القيادة والكادر وغيره.
حركة فتح اليوم لم تعد تحمل ذات المشروع الوطني، لأنه ببساطة لا مشروع يمكن أن يكون وطني إلا مشروع تحرير فلسطين كلها وبغير هذا يكون المشروع أي شيء آخر، وهذه قضية فكرية متجذرة في الوعي الجماعي للأمة وللشعب الفلسطيني ولا مجال هنا لمجادلة فكرية لإثبات ذلك، والوقائع والسياقات التي مرت بها قضية السلام المزعوم مع العدو تثبت ذلك كما تثبته حقائق التاريخ والجغرافيا. إن هذا التغيير لم تسلم منه باقي الفصائل الرئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية بكل أسف ولكننا هنا نعالج موضوع الحركة الأم في ذكرى انطلاقتها.
التفاصيل كثيرة وكبيرة وأشد وضوحاً من أي شرح فيما يخص التحول الذي طرأ على حركة فتح ولن تنفع كل أغاني وأهازيج الحركة في التعمية على هبوط السقف السياسي والبرنامج لحركة لم تعد قادرة على حمل المشروع بسبب من تهافت قيادتها على الحل مع العدو أو بالأحرى بسبب خداع الذات الذي مارسته هذه القيادة في أحسن تقدير.
والآن هل ستحتاج "فتح" لزمن طويل لتدرك خطأ الطريق الذي تسير فيه وتدرك حقيقة ما جرى لها ولبرنامجها واستحالة تحقيق هدفها الجديد على ما فيه من تنازلات جوهرية عن حقوق الشعب الفلسطيني في كامل أرضه؟. السؤال الذي ربما يخطر على بال القاريء هنا هو: كيف يمكن تحقيق هدف تحرير فلسطين كلها ونحن لا نستطيع تحقيق الهدف المرحلي القائل بتحرير أراضي عام 1967 وإقامة الدولة، إلى آخر ما هناك من حقوق للفلسطينيين بما فيها حق العودة؟ الجواب يكمن في إعادة القراءة المتمعنة للأسس والمنطلقات ومن ثم الوسائل والأساليب، وبالتالي فالأمر هنا لا يتعلق بسهولة أو صعوبة تحقيق الهدف ذلك أن الهدف المرحلي يقترب في صعوبة تحقيقه بالمواصفات الواردة في البرنامج المرحلي من تحقيق الهدف الاستراتيجي، وإنما يرتبط بالقناعات المبنية على الأسس الفكرية والإيمان بحقنا في وطننا وإسناد ذلك بممارسة منسجمة مع هذه القناعات كما مارستها حركة فتح حتى عام 1973.
يمكن أن يتفهم المرء أن يقوم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بالحديث عن تسوية سلمية للعدو كمثال على مرونة اضطرارية، لكن لا يمكن تفهم أو فهم أن يقوم هذا الرئيس بالحديث عن حق إسرائيل في وطننا بالمعنى التاريخي والتأكيد بين وقت وآخر على آلام "الشعب" اليهودي ومظلمته التاريخية التي يجري حلها على حسابنا نحن بالذات، والأنكى من ذلك أن تقوم مؤسسة عهد إليها تحرير فلسطين واختير لها أسلوب حرب التحرير الشعبية بمطاردة المقاومين ونزع أسلحتهم وحماية حدود إسرائيل في الوقت الذي نطلب فيه من الأشقاء العرب وقف التعامل مع إسرائيل والامتناع عن التطبيع معها. هذا غيض من فيض التغييرات السلبية النوعية على مفاهيم وممارسة حركة فتح، الأمر الذي يوجب على كل أعضاء فتح وكادراتها وقادتها الجدد والقدامى وبعد التجربة المريرة مع العدو في ظل ما أسمته بعض قيادة فتح التاريخية "سلام الشجعان" أن يقوموا بإعادة النظر في الطريق الخاطيء الذي سلكته الحركة منذ سبعينيات القرن الماضي وأدى لخسارة فتح الأصلية لصالح "فتح" مشوهة وغير متجانسة، والعودة للينابيع حتى يستمر التوكيل الذي منحها إياه شعبنا الفلسطيني على مدار أربعين عاماً، وبغير ذلك ستخسر الحركة ونخسر جميعاً، ولن تنفعنا كل المدائح من أوباما أو قادة الكيان الصهيوني.
اليوم ونحن نحتفل بذكرى انطلاقة الثورة التي جسدتها حركة فتح نتذكر بكل الفخر والاعتزاز أؤلئك الأبطال الذين قدموا أرواحهم من أجل تحرير فلسطين وعودة الشعب اللا جيء لوطنه وأرضه، هؤلاء الذين استشهدوا على طريق تحرير كل فلسطين وليس الضفة وغزة فقط لهم منا كل الوفاء والحب…ولحركة فتح العظيمة وشهدائها الأبرار التحية، وكل عام وفلسطين والأمة العربية بخير..وإنها لثورة حتى النصر.