الغطاء الوردي
بقلم :سهام البيايضة
اقترب سامي الصغير، من أمه يحاول أن يضع في أذنها كلماته..استمعت له بعناية واهتمام ..ثم فتحت عينيها قائله:لا مستحيل..لا يمكنك ابدآ.. النزول الى الشارع!..الشارع خطر جدا ولا يوجد مكان للعب هناك!..اذهب والعب على جهاز الحاسوب.. انه أكثر أمان من الشوارع هذه الأيام..سنخرج بعد قليل الى السوق .. اذهب واخبر أختك نادية.. سنخرج جميعا !!ً
كانت فكرتها مناسبة جدا بعد أن كثرت حركته، وشعوره بالضجر من وجوده في مكان يضيق عليه حركاته الطفولية، فكان الأجدى، أن تأخذه معها الى خارج البيت .
صعد سامي وناديا، ابنة الخامسة عشرة الى السيارة، وبمجرد جلوسها على المقعد الأمامي ،وأخيها على المقعد الخلفي طلبت منهما أمهما ربط حزام الأمان، وعند صعودها قامت هي بذلك ..وعند تأهبها للرجوع الى الخلف كانت سيارة قد توقفت معترضةً سيارتها وقد ترجل سائقها .
– أم سامي:هل هذا معقول؟؟ كيف يضع سيارته بهذه الطريقة ويغلق الممر؟؟..سأرى إن وضع هاتفه على زجاج السيارة.!
ناديا :انتظري..يا أماه .. لو كان عنده ذوق من الأساس ما وضعها بهذا الشكل..لا بد من الانتظار لحين قدومه!!
أم سامي مستغربة:ماذا لو كان ألان في زيارة ؟؟هل ننتظر لحين أن ينتهي من زيارته؟ ، ماذا لو أراد المبيت عند احدهم..هل اتصل بالشرطة؟؟
ناديا:ماذا نفعل.. يا أمي؟ هل اذهب لأبحث عنه عند الجيران؟؟
من شدة حنقها ضغطت أم سامي على "زامور" السيارة فانطلق صاخبا ،مزعجا!!..
ناديا: أمي.. أرجوك ..نحن في منطقه سكنيه." الزامور" ممنوع..انظري اللوحة التحذيرية هناك.!!
أم سامي:لا بد من وجود جهاز إنذار في السيارة..سأذهب لأرى !!
ترجلت أم سامي من السيارة، وطلبت من ابنها الترجل أيضا..ثم أمرته أن يقترب من تلك السيارة ويحاول فتح أبوابها..عندها انطلق صوت جهاز الإنذار بأعلى صوته مفزعاً، كل من في الشارع.
لحظات، ظهر شاب، غاضباً محتجاً على إزعاجه..قائلا:ما هذا؟ ..حتى أنني لم انتهِ من شرب فنجان القهوة!!
نظرت أم سامي إليه وهو يحرك سيارته على مضض! دون أن تنبس بكلمة واحدة، وقد أخذتها وقاحته، وبلادة شعوره، ثم عادت بصمت لتجلس خلف المقود وقد بدأ عقلها بالغليان..وهي لا تزال، غير قادرة على التعبير..!!
استعادت بعض من رباطة جأشها حتى لا تفسد المشوار بمزاجها الذي تعكر:هذا أول الغيث من السلوك العام على الشوارع هذه الأيام..ثم أكملت بتهكم:لم نشاهد شيئا بعد..هيا للمزيد!! ..ثم انطلقت الى الشارع العام وهي صامته ..ثم فجأة سمعت ناديه تصرخ :انتبهي..أمي.. انتبهي !!..انه يريد التجاوز عن اليمين! هل هو مجنون؟ أم ماذا!!..وبسرعة كان " بيك آب"،يأخذ المسرب أمامهم .. ثم انطلق الى المسرب اليسار يتعرج ويتلوى بين السيارات وقد تعدى السرعة المسموح بها قانونيا..نظرت أم سامي الى ابنتها ..كانت المسكينة، تمسك بمقبض الباب واليد الأخرى وضعتها على صدرها من شدة الهلع، وعندما الاقتراب من احد الدوارات ، عادت ناديا تصرخ من جديد:توقفي.. توقفي ..أليست لنا الأولوية هنا !!
أجابتها أمها :الأولوية هنا!.. للأكثر فهلوة وشطاره !!
بصعوبة، خرجت أم سامي من الدوار والسيارات تحاول الدخول غير مراعية لأولوية المرور..وعند الخروج الى الشارع الفرعي توقفت قليلا ..كان الشارع مزدحما بالسيارات ..لا بد انه بسبب المصلين في الجامع القريب..هناك سيارات وقفت بشكل مزدوج أغلقت الشارع، ولم تعط أي مجال لمرور السيارات العابرة.
أم سامي:سننتظر لحين انتهاء الصلاة..!!
ناديه: .لماذا لا يوجد مواقف خاصة للجامع تمنع وقوف السيارات وإغلاق الشارع؟؟…وقبل أن تنهي كلامها كان صوت ضجيج وجلبه ترج الأرض والسيارة من خلفهم..نظر سامي الى الزجاج الخلفي ..طالباً من أمه النظر في المرآة.لتشاهد سيارة ضخمه بدواليب عالية، كالتي توضع للشاحنات ..نظرت أم سامي في المرآة . لاحظت وجود شابين، احدهم شعره طويل، والآخر حليق الرأس، يضع حول عنقه قطعة جلد، يتدلى منها قطعة حديدية دائرية الشكل..ويرتدي قميص قطني اسود بدون أكمام يظهر ذراعاه وعضلاته التي رسمت بالوشم ، وقد أحاط معصميه بالكثير من قطع الجلد الأسود، وقطع معدنية مدببه، ووضع في أصابع يديه خواتم فضية بأحجار سوداء ملفته للنظر، وهو يسند ذراعيه على مقود السيارة.
موجات صوت النظام الحديث والعالي الموجود داخل السيارة الضخمة، انتقلت اهتزازاته من سياراتهم عبر الشارع حتى وصلت الى سيارة أم سامي التي تسمرت بالمشهد الخلفي، حتى أنها لم تنتبه، الى انتهاء الصلاة وخروج المصلين الذين اخذوا بإفساح المجال للمرور.
سامي :إنها موسيقى الهوب هوب.. أماه..متى سنملك سيارة.. مثلها .؟.أريد مثلها عندما اكبر..ارجوك.. يا أمي!!
أم سامي:هل تريد أن تصبح مثل هؤلاء الشباب..وتحلق راسك مثلهم؟؟..يا فرحتي فيك!!
سامي بعفويته وبراءته:لم لا يا أمي..إنها الموضة ألان!!
أم سامي وقد ظهر عليها القلق والامتعاض:ألا يخجلون..إننا أمام بيت الله، ألا يعلمون انه وقت صلاة؟..ما هذا الجيل الغير مبالٍ؟!!
عادت أم سامي لتسير فوق الشارع.. .المطب الاول ..المطب الثاني …ثم الثالث..الشوارع مليئة بالمطبات، ورغم ذلك لا تزال السيارات مسرعة !!
السيارة الضخمة خلفها تحاول التجاوز، وقد أشعل المصابيح الأمامية، والوقت لا يزال عصرا.!!.وعند الاقتراب من إشارة المرور كانت على وشك أن تصبح حمراء عندها توقفت أم سامي وبسرعة تجاوزتها السيارة الضخمة وقد قطعت الإشارة الحمراء بسرعة جنونية.غير عابئة بحق المارة على خط المشاة..على طرف الشارع ..أم تحمل طفلها الرضيع..لا تزال تضع أولى خطواتها فوق الممر ..بلحظة.. هناك شيء ارتفع بالهواء..غطاء الطفل سقط على ممر المشاة ..لم تستطع أم سامي النظر .. الى أين سقط جسم الأم..أو الى أين سقط جسم الطفل ..تسمرت بالغطاء الذي أمامها، الملقى فوق الخطوط البيضاء..
صرخت ناديه..وأخذت بالبكاء ..وهي تهز ذراع أمها، التي لجمت من هول الصدمة وبشاعة المشهد..تسمر سامي من شدة الخوف، واخذ بالبكاء وهو يستنجد بأمه، أن تسير مبتعدة !!.السيارات حولهم توقفت ..لا بد أن الجميع أصيب بالذهول والصدمة..إنها لحظات..لم تتعدَ الثواني ..كانت الأم تنبض بالحياة… تحتضن طفلها الرضيع.. وها هي مسجاة هناك ..وطفلها الصغير سقط فوق الجزيرة ..منظر مأساوي حملته ذاكرة أم سامي وأطفالها الى الأبد ..
ناديا:أمي..أمي..هيا يا أمي ..الشرطي يريد منا أن نتحرك..المكان أصبح مزدحما جداً!!
– أم سامي :يا الله ساعدني ..يا الله ارحم تلك المسكينة..ربي ألهم أهلها وزوجها الصبر والسلوان..لقد شاهدتها ..إنها لا تزال صغيرة السن..ربما كان طفلها الاول..يا الله!!
بصعوبة أمسكت أم سامي بمقود السيارة، تحاول أن تضغط على دواسة الوقود لتذهب بعيدا بأولادها عن هذا المكان.
كانت السماء ترسل حبات المطر، وكأنها دموع حزينة على مشاهد مأساوية انتزعت فيها حياة أبرياء..
على الزجاج الأمامي انهمر المطر يحاكي دموع أم سامي وابنتها نادية وولدها سامي..وبنظرة في المرآة على المشهد الخلفي كانت سيارات الشرطة والإسعاف قد تجمعت لتجمع الأجساد التي انتشرت فوق التقاطع ولتبعد الناس الذين تجمهروا ..لرؤية المأساة !!
لم تعد أم سامي تشاهد شيئا من الشارع الممتد أمامها..فقط خطوط المشاة، وحدها لا تزال في مخيلتها!!.. بيضاء.. بيضاء، وغطاء الطفل الوردي لا يزال ساقطا فوق المشهد..إنها طفلة !!. بنت!! ..غطائها وردي اللون!! .
– ناديه وهي تجهش بالبكاء:أمي..أمي.. شغلي ماسحات الزجاج المطر ينهمر غزيرا !!
..أفاقت أم سامي من صدمتها..:ماسحات الزجاج..نعم ..نعم ..لا بد أن نبتعد من هنا.. هيا الى البيت…الشوارع لم تعد أمنة!