أرشيف - غير مصنف
متمردون لوجه الله
كنت أقرأ كتاباً للمفكر المصري محمود عوض- رحمه الله- عن التمرد قدم فيه سيرة خمسة من أفذاذ المتمردين في تاريخ النضال والتغيير في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية وهم :" ابن حزم- ابن تيمية – رفاعة الطهطاوي- جمال الدين الأفغاني- عبدالله النديم".
والذين أبحرت معهم في سياحة فكرية رائعة عن "التمرد لوجه الله " لأخرج بجملة من الدروس الهامة والتي يحتاجها واقعنا بقدر كبير لأنه يتشابه بل قد يتفق بقدر كبير إلى درجة التطابق مع العصور التي عاشها هؤلاء المتمردون من ارتباك في المفاهيم واهتزاز للثوابت ، وغلو في الدين بلغ منتهاه وتفريط في الواجبات بلغ حد الخلاعة والمجون ، وتشرذم قطع أوصال الأمة إربا ، وتخلف ورضا بالواقع جعلها في ذيل الأمم ، وتسيد للجهال وعلو لصوت الرويبضة واكبها غفلة مزرية لنضال العلماء المخلصين ، وانتشار بلا حدود للفساد دب في كل مفاصل المؤسسات حتى أصابها بالهشاشة والسرطان !!
ولست مبالغا في أن أجدد التأكيد على ما قاله السابقون من أن التاريخ يعيد نفسه ولذا فإنه يشكل وعاءا لا ينضب للتجارب البشرية ، أعود لما أفادني به هذا الكتاب الرائع ( متمردون لوجه الله ) وهو كثير كثير ومن جملته : أهمية أن يتمرد الإنسان ضد فساد ونفاق عصره ومجتمعه، ضد الرضا عن النفس، وضد الاستسلام إلى الواقع ، وضد مبدأ "إنقاذ ما يمكن إنقاذه" الذي يتحول دائماَ إلى التفريط بما يمكن التفريط به" .
والتمرد الذي يطرحه بهذا المعنى من خلال النماذج الخمس التي ركز في حياتها على قصة نضالها وتمردها لتغيير مجتمعها هي قضية كل فرد.. وكل مجتمع.. وكل عصر.
فالمجتمع كالفرد، لديه استعداد للخير والشر معاً.. للصمود والاستسلام.. للواقع والخيال.. لتحقيق الأفضل والرضا بما هو أسوأ ، والمجتمع هو، كالفرد، يسمو ويرتفع، بقدر إصراره هو، وإرادته هو، في تغيير واقعه إلى الأفضل، إننا نستطيع إذن أن ننظر إلى نفس كوب المياه، بعضنا يرى نصفها الفارغ.. وبعضها يرى نصفها المليء.
فمن الواقع يبدأ التمرد. ومن التمرد يبدأ التغيير
ولكن التمرد الذي قصده الكاتب، والذي قدمه وعايشته هذه الشخصيات الخمس ليس التمرد بمعناه القريب فالتمرد هنا ليس هو كل شخص يتحدى الأمر الواقع.. فاللص والقاتل والمختلس والرائش والزاني هم أنماط متمردة على الدين والأعراف والقانون.. وهم بتمردهم هذا يتحركون إلى قوة ضد كيان المجتمع نفسه ، لا.. ليس هذا هو التمرد.
إن التمرد الذي صنعته وقامت به هذه الشخصيات الخمس هو تمرد آمن وليس انقلابا ولا فوضى ، إنما هو تمرد لحساب قضية عامة وليس لمنفعة فردية.. تمرد لحساب مجتمعنا بأكمله، وليس لحساب نزوة فرد أو منفعة فئة أو مصلحة طائفة بعينها.. إنما هو تمرد يستهدف في النهاية زيادة كفاءة المجتمع على التعامل مع تحديات عصره.
ليتنا ندرك هذا الوجه الآخر للتمرد ونتمرد لأجل الله والدين والوطن فالتمرد بهذا المعنى هو أقصى درجات الإيمان بمجتمعنا وبلادنا، الإيمان بأنها تستطيع أن تكون أفضل، وأقوى، وأكفأ، وأقدر وأسمى وأصدق.. مما هي عليه فعلاً.
وليت ولاة أمورنا وأنظمتنا الحاكمة تدرك أن التمرد بهذا المعنى الراقي طاقة إيجابية لخدمة بلادنا فتحسن التعامل معه وتتفهمه ولا تقمعه ، فالمجتمعات التي تغلق من البداية كل الأبواب أمام التعبير عن هذا التمرد وتتصدى لرياح التغيير، يكون حالها كمن يريد أن يحجب ضوء الشمس في رابعة النهار ، وتحكم على نفسها مسبقاً بالموت البطيء وتختصر عقول أفرادها.. وتقمع مستقبلها ومستقبلهم.
والتمرد المقصود الذي قاده هؤلاء المتمردون والأفذاذ من العلماء والقادة والمفكرين في مجتمعهم هو احتجاج وتأكيد.. في وقت واحد.
احتجاج على الأوضاع الخاطئة والفاسدة ، وتأكيد على الإيمان بأننا نستطيع أن نتقدم ونقود الأمم بحضارتنا وعلومنا وتاريخنا وسواعد أبنائنا ، وجهود علمائنا دون غبن أو تسلط .
فهل ما زالت لدينا القدرة على الاحتجاج على فساد ونفاق عصرنا ومجتمعنا، والاحتجاج بهذه الصفقة ليس حقاً فقط ولكنه واجب علينا.
ومن ناحية أخرى فإن التمرد هو تأكيد أيضا بأننا مازلنا مؤمنين بإمكانية خلق مجتمع أفضل.. وهو إيمان أكيد ، فالتمرد من أجل تغيير الأوضاع المقلوبة والفاسدة من أجل تحقيق وإيجاد مجتمع أفضل يستحق منا أن نضحي وأحيانا نموت من أجله.
وأخيراً وليس آخراً ، فإن التاريخ يخبرنا بأن كل الإنجازات الرائعة في حياتنا الآن.. تمت بفضل أناس تمردوا في الماضي، وطوال تمردهم كانت السلطة تضطهدهم أو تحاربهم أو تقتلهم في بعض الأحيان.
في السياق: إن مجتمعنا العربي كله فقد نهضته يوم فقد حريته، يوم انزلق إلى حالة دائمة من الرضا عن النفس، يوم تسرب إليه من الداخل اقتناع بأن التمرد هو ترف لا ضرورة له.