أرشيف - غير مصنف
النشر في العالم الافتراضي … بين الحرية والتقييد
د. عادل عزام سقف الحيط
حرية الرأي والتعبير حق إنساني طبيعي، وحق مدني وسياسي مكتسب، وهو ضمانة نصت عليها الشرعة الدولية، وكل دساتير العالم. وقد جاء في المادة (15/1) من الدستور الأردني أنه: "تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير".
وقد مثّل قرار محكمة استئناف عمان رقم 4482/2009 بتاريخ 9/2/2009 انتصاراً لحرية الرأي والتعبير، حين حكم بعدم خضوع "النشر الإلكتروني" إلى قانون المطبوعات والنشر، كون المواد الإلكترونية لا تمثل مطبوعة بالمعنى الوارد في المادة الثانية من القانون؛ وكذلك حكمت المحكمة بأن المادة 38 من قانون المعاملات الإلكترونية تختص بالمعاملات التي ينشأ عنها التزامات تتعلق بعمل تجاري أو التزام مدني، ولا يُحتج بها في محاكمة الجرائم المرتكبة عبر الوسائط الإلكترونية، ومنها جرائم الذم والقدح والتحقير. وهذا القرار الاستئنافي أكد على تعليل وتسببب قرار محكمة صلح جزاء عمان رقم 4857/2009، بتاريخ 27/04/2009 والوارد في قضية الأستاذ خالد محادين حين نشر مقالته "مشان الله يا عبد الله" في موقع خبرني.
وقد جاء في حيثيات الحكم أن القصد الجنائي في جرائم الذم والقدح بالنشر في المطبوعات يتوقف على تقدير مرامى العبارات التي يحاكم عليها الناشر، وتبيّن مناحيها، فإذا استهدف النقد مصلحة اجتماعية عامة، بتسليطه الضوء على واقعة تهم أبناء الوطن، وتساعد على تعرية الفاسدين، وكشف بواطن الحقائق، كان النقد مباحاً. أما إذا انصرف النقد إلى تجريح أشخاص والخوض في شرفهم وكرامتهم، أو التشهير بهم للحط من مكانتهم الاجتماعية، فالقصد هنا ينصرف إلى جريمة الذم والقدح لا النقد البنّاء.
وفي اتجاه معاكس للقرار التقدمي السابق، فإن أحدث قرار لمحكمة استئناف عمان رقم 40401/2009 بتاريخ 13/9/2009 جاء بتفسير مغاير تماماً لما سبق، حيث شمل النشر في المواقع الإلكترونية بمدلول المطبوعات المذكورة في المادة الثانية من قانون المطبوعات والنشر، وقد أيدت محكمة التمييز ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف.
وفي مسودة مشروع قانون الجرائم الإلكترونية الأردني، يختلف الكاتب مع مقاصد المشرع في النصوص 10 و12 و13 و15 كونها غامضة ومقيدة لحرية النشر، وقد ورد، على سبيل المثال، في الفقرة (ه) من المادة الثالث عشرة النص الآتي: "يعاقب بالحبس مدةً لا تقل عن ثلاثة أشهر، ولا تزيد على ثلاث سنوات، أو بغرامة لا تقل عن مائة دينار ولا تزيد على ألف دينار، أو بكلتا هاتين العقوبتين كل من ….. ه- أنشأ موقعاً على شبكة المعلومات، أو نشر أو أرسل معلومات لأي مجموعة، تدعو لتسهيل وترويج برامج وأفكار مخالفة للنظام العام". هذه الفقرة تعارض حرية الرأي والتعبير في مواقع الإنترنت الافتراضية، وتجرّم "ترويج الأفكار" إذا خالفت "النظام العام"، والأصل في التجريم التحديد والوضوح، كون المصطلحات العامة تثير اللبس، وتوسع من سلطة قاضي الموضوع في التفسير والتجريم. وفي ذات المادة ساوى المشرع بين جرائم الرأي، مع عدم تسليم الكاتب بأن الرأي وإن لم يحرض على الجرائم يمكن أن يجرَّم، وبين جرائم الاتجار بالجنس البشري، والاتجار بالمخدرات، والاتجار بالآثار، وغسل الأموال.
وبالإضافة إلى ما ذكر، فإن المواد 10/ج و 12/ب و 15/ب، من مسودة القانون المذكور، تعارض مبدأً هاماً في قانون العقوبات الأردني، حيث لا عقاب على الشروع في الجنح إلا بنص خاص، عملا بالمادة (71) من قانون العقوبات، وقانون العقوبات لم ينص على العقاب في حالة الشروع بالجنح المتعلقة بجرائم الذم والقدح والتحقير، وكثير من الأفعال التي يمكن تكييفها تحت البنود سالف الذكر تأخذ حكم جرائم الذم والقدح والتحقير المرتكبة عبر الوسائط الإلكترونية، لذا ستكون بموجب النص معاقب على الشروع فيها، في حين أن الشروع في ذات الجرائم المرتكبة عبر الوسائط التقليدية غير مجرم، وفي هذا مخالفة لقواعد الإنصاف.
ومن مجمل السابق، يمكننا القول أن قرار محكمة استئناف عمان رقم (40401/2009) وقرار التمييز المؤيد له، ومشروع قانون جرائم الحاسوب الجديد، وبشكل خاص المواد 10 و12 و 13 و15 تطرح مخاوف واقعية من تقييد حرية الرأي والتعبير في ربوع العالم الافتراضي، ومشكلات فنية في الولاية القضائية للمحاكم الأردنية، فإذا كان الظنين غير مقيم في الأردن، فبموجب اتفاقيات تسليم المجرمين، ستجد الولايات المتحدة والدول الأوروبية نفسها ملزمة بعدم تسليم أي مطلوبين في هذه الجرائم إلى الأردن، لأن هذه الأفعال لا تشكل جريمة في قوانينها.
ويوصي الكاتب باستحداث قانون أردني يتناول الجرائم السيبرالية (الإلكترونية)، مع الحرص على عدم تقنين مادة تجرم الذم والقدح والتحقير في هذا القانون؛ كما في النموذج البريطاني والأمريكي والموريشيوسي وغيرها من القوانين، وذلك خشية أن تطال النصوص الجديدة حرية الرأي والتعبير، بعد أن كانت النصوص التي تجرم الذم والقدح والتحقير على جانب من الموضوعية، تحمي شرف وكرامة واعتبار الأفراد وأرباب الشرائع السماوية دون أن تحاكم المفكر على آرائه. كما يوصي الكاتب بتقنين مادة في قانون المطبوعات والنشر الأردني تستثني النشر الإلكتروني، بشكل واضح، من أحكام هذا القانون، وخاصة بعد تضارب تفاسير الأحكام القضائية لماهية المادة 2 المثيرة للجدل في متنه، ليبقى الأردن، كما هو، واحة الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير في عالمنا العربي.
الكاتب حاصل على دكتوراة في القانون الدولي الإنساني – الولايات المتحدة