اختراق حماس ودمشق ودبي في اغتيال المبحوح

جاء اغتيال محمود المبحوح القيادي البارز بحركة حماس، بعد عامين تقريبا من اغتيال عماد مغنية القيادي البارز بحزب الله، ليطرح سؤالا جديا حول تدهور الإمكانيات الاستخباراتية لقوى المقاومة الرئيسية، بعد أن انشغلت ببناء قواها العسكرية، وصراعاتها مع الأشقاء في الداخل، بدلا من التركيز على نقطة تفوقها الأساسي، ألا وهي العمل السري.

 
اغتيال المبحوح- الذي يحتل لدى حماس مكانة مماثلة لمكانة مغنية في حزب الله- شكّل ضربة كبيرة لحركة حماس، نظرا لأن معظم الاغتيالات الإسرائيلية السابقة كانت أقل تعقيدا من الجريمة الأخيرة. فالقائمة التقليدية للاغتيالات العسكرية لقادة حماس والجهاد، كانت تضم قادة عسكريين ومدنيين داخل الأراضي المحتلة. حيث تهيمن إسرائيل على الأرض والجو والبشر، أو قادة مدنيين يعيشون في الخارج، وهم بطبيعة عملهم معروفون، ومعروفة أماكن تواجدهم.
 
أما المبحوح فهو يشكل قلب العمل السري الاستخباراتي لحماس الذي يفترض أنه محاط بسياج من الغموض والكتمان، واختراق إسرائيل لهذا السياج أمر يحتاج إلى فهم ظروفه ودوافعه.
 
وتتضارب التقارير بشأن دوافع إسرائيل في تسخين الأوضاع في المنطقة، والقيام بهذه العملية. فالبعض يرى أنها محاولة للتغطية على الإخفاقات الإسرائيلية في لبنان وقطاع غزة، والعمل على ترميم هيبة الجيش الإسرائيلي. فيما يرى آخرون أن المبحوح كان يُعِد خطة جديدة من أجل تهريب السلاح إلى غزة، ضمن مسارات جديدة من إيران إلى داخل القطاع المحاصَر.
 
ويعزز هذا الاعتقاد، ما تسرب عن قدرات الرجل الاستخباراتية الفائقة. إذ يصفه مقربون من حماس بأنه "كان كالضوء يتسلل، وكالهواء ينفذ، وكالظل بصمت يتحرك، فلا يعرف بتحركه أحد، ولا يُطلع أحدا على برامجه".. فيما تصفه المصادر الإسرائيلية بأنه "الرجل الخفي في حماس".
 
والمبحوح الذي تقول عنه حماس إنه ضمن جنود المقاومة الذين اختاروا العمل لسنوات طويلة في الخفاء لتنفيذ مهمات، لا مجال لإتمامها إلا في صمت. هو أحد مؤسسي كتائب القسام- الجناح العسكري للحركة- مع زملاء آخرين معدودين، وصاحب أول عملية نوعية تنفذها الكتائب، وهي أسر وقتل أول جنديين إسرائيليين، وغير ذلك من عمليات قد لا يزاح عنها النقاب قبل سنوات وسنوات، وفقا لما تقوله المصادر المقربة من حماس.
 
وقد عرفت إسرائيل بمسؤوليته عن عملية أسر وقتل الجنديين، بعد اعتقال عدد من عناصر كتائب القسام، من بينهم مؤسس الحركة آنذاك الشيخ أحمد ياسين، وقائد القسام الشهيد صلاح شحادة؛ فسعت لاعتقاله أكثر من مرة وفشلت. وفي عام 1990 هدمت قوات الاحتلال بيته، وكان بذلك أول بيت تصدر محكمة إسرائيلية قرارا بهدمه في غزة، إضافة إلى مصادرة أرضه بتهمة خطف جنود إسرائيليين.
 
وبعد مطاردة في غزة دامت أكثر من شهرين، تمكن وعدد من رفاقه من اجتياز الحدود إلى مصر في عملية شهيرة أصابت الإسرائيليين بالذهول، بعد أن نجح في الإفلات من الحصار الأمني المضروب على غزة تحت عين وسمع أفراد الاستخبارات الإسرائيلية، ثم انتقل من الأراضي المصرية إلى إلى سورية التي قضى فيها معظم سنواته اللاحقة، حيث أصبح أحد القيادات العسكرية والاستخباراتية في الخارج.
 
ووفقا لتقارير إسرائيلية مختلفة، فإن المبحوح كان يقف وراء تهريب صواريخ، ووسائل قتالية أخرى، من إيران إلى قطاع غزة. وتقول هذه التقارير إن شحنات السلاح التي قصفها الطيران الإسرائيلي في السودان قبل نحو عام، كان هو من يقف خلفها، على اعتبار أنها كانت تتجه الى غزة.
 
وقد وصفته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بأنه "المطلوب الأول للجيش الإسرائيلي"، مشيرة إلى أنه "يقف وراء عمليات تمويل وتهريب السلاح إلى حركة حماس خاصة في غزة".. وبينت الصحيفة أن الموساد حاول اغتيال المبحوح أكثر من مرة. وتؤكد هذه المصادر أن الرجل كان…، وأضاف بن يشاي أن "المبحوح تواجد في دبي من أجل هذه المهمة.
 
وتبدو غرابة العملية ليست في كيفية معرفة إسرائيل لمكانه فحسب، ولكن في طريقة التنفيذ أيضا. خصوصا أن الرجل عرف عنه الحذر الشديد. وفتحت الجريمة باب التكهنات، فتحدث البعض عن وجود دور لفتاة أجنبية في اغتياله، فيما تلمح الصحف الإسرائيلية إلى أن هذه الفتاة حاولت إغواءه، وكأنهم يريدون قتله معنويا بعد قتله جسديا.
 
تمثل سيرة المبحوح نموذجا لسيرة القسّامين داخل حركة حماس، الذين باتوا القوة الأساسية والأولى بين أجنحة الحركة. فقد نشط إثر التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين في عام 1978 حين كان في ربيعه الـ 18، في محاربة محلات القمار التي كانت منتشرة آنذاك في مدينة غزة. كما اشتهر بحرصه على الحفاظ على المظهر الصحيح للشاب المسلم القوي، فبرز في رياضة كمال الأجسام، وحصل فيها على المركز الأول على مستوى قطاع غزة في الثمانينيات.
 
ومثله مثل عدد آخر من نشطاء كتائب عز الدين القسام، فإن حماس تمنح كبار قياداتها المطاردة لسنوات ما يشبه الترقية، أو مكافأة على سنوات الشقاء، فتخرجهم من جحيم المطاردات والاغتيالات في الأراضي الفلسطينية إلى جنة الأنشطة الاستخباراتية في الخارج. كما يترقون في سلم الحركة التي تحظى فيه دمشق بمكانة خاصة.. ويتمتعون بالأمن بعيدا عن الأيدى الإسرائيلية.
 
ولكن يبدو أن هذه الأيدي قررت أن تعبث بحماس في الخارج، سواء في دول عربية محسوبة على الممانعة أو على الاعتدال، فلم تخجل إسرائيل من أن تغتال المبحوح بعد أيام معدودة من زيارة وزير الطاقة الإسرائيلي عوزي لانداو الى الإمارات للمشاركة في اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة الجديدة والمتجددة، بصرف النظر عن صحة ما يتردد عن أن قتلة المبحوح جاءوا الإمارات ضمن وفد الوزير..
 
على الجانب الآخر، فإن احتمالات حماس في الرد على مصابها الكبير تبدو ضئيلة. فالحركة التي أصبحت تحكم غزة، معنية بأن توفر الطعام والشراب للمحاصرين، أكثر من كونها معنية بالانتقام لأحد عناصرها حتى لو كان من كبار قادتها، كما أنها تسعى الى فك الحصار وتحقيق المصالحة، والإفراج عن الأسرى، والحصول على تطبيع العلاقات مع الغرب.
Exit mobile version