أرشيف - غير مصنف
الإعدام دليل الهزيمة والإفلاس
* محمد إقبال
في أرشيف الأيام ذاكرة ذاخرة بالكثير وغالبا ما يعيد التاريخ نفسه ونحن وغيرنا من أهل هذه الذاكرة نعرف خفايا الأمور كما يقول المثل العربي الشهير (أهل مكة أدرى بشعابها) وفي ثنايا التاريخ وضمن ثقافة نظام طهران حقائق لا يمكن للسياسي والمثقف إهمالها والابتعاد عنها في قياساته للحاضر والمستقبل ..، ويحضرني هنا ما حدث في صيف عام 1988وبعد اضطرار الخميني إلى تجرع السم آنذاك خوفا من أمرين أكثرهما مرارة السقوط بيد جيش التحرير الوطني الإيراني ،وفي حينها أقدم النظام الإيراني على إعدام 30 ألف سجين سياسي من أعضاء مجاهدي خلق بدم بارد ومناضلين آخرين من الذين سبق وإن جرت محاكماتهم وكانوا يقضون فترة حكمهم في السجون.. وفي تلك الأيام وجه «آية الله منتظري» خليفة الخميني آنذاك رسالة إليه مشيرًا إلى: «إعدام بضعة آلاف خلال بضعة أيام» وأكد على نقطة هامة فيها حيث قال أن «مجاهدي خلق ليسوا مجرد أشخاص بل هم طراز فكر وانطباع.. فالقتل لا يحل شيئًا بل إنه يروج لهم». وأدت هذه الرسالة إلى إقالة السيد منتظري من منصبه كخليفة للخميني..
واليوم يجرب النظام الحاكم في إيران نفس الطريق الذي مضى فيه ودأب عليه حيث قام بشنق سجينين بتهمة «تنظيم مظاهرات احتجاجية» والضلوع في «أعمال الشغب الأخيرة» فيما كانا معتقلين قبل شهور من اندلاع الانتفاضة وكانا قيد السجن طيلة فترة الانتفاضة الأخيرة تمامًا.. إن صدور إحكام الإعدام بحق 11 سجينًا سياسيًا وتنفيذ حكم الإعدام بحق اثنين منهم بشكل وحشي بتهمة «المحاربة» المختلقة من قبل الملالي الحاكمين في إيران. وما تلك الأحكام إلا تصعيدا نوعيا للوحشية والهمجية من قبل النظام الظلامي الحاكم في إيران ودليل على ضعف النظام وعجزه أمام الانتفاضة العارمة للشعب الإيراني.
وبالنظر والتدقيق إلى المسيرة التي بدأت منذ 15 يونيو 2009 في إيران: نرى أنه قد بدأت مرحلة جديدة في إيران بعد المناظرات التلفزيونية بشأن الانتخابات الرئاسية وإعلان نتائجها.. وشهدت أيام 15يونيو و20 حزيران و9 يوليو سلسلة من الانتفاضات التي كانت كل منها أوسع وأشد وأكثر تنظيمًا من سابقتها. وخلافًا لتصورات بعض المحللين، عادت وأقحمت نفسها كظاهرة حية تتفاعل مع الأحداث في مظاهرات مليونية للمواطنين في طهران العاصمة في 18 سبتمبر 2009 واستمرت الانتفاضات في أكتوبر ونوفمبر. ومن ثم تظاهرة يوم 7 من ديسمبر حيث دخلت صفحة أخرى من سلسلة انتفاضات كما وبدأت مرحلة جديدة أخرى أيضًا. وفي هذا اليوم الذي سمي بـ «يوم الطلاب» في إيران منذ 56 عامًا إثر قتل 3 من طلبة جامعة طهران في نفس اليوم عام 1952، تمكن الطلاب من كسر الطوق الذي كانت الولاية السوداء قد ضربته على الجامعة منذ ثلاثين عامًا حيث نزعوا بوابة الجامعة وتدفقوا في الشوارع. وها هو الصوت البليغ للشعب الإيراني والذي وصل إلى أسماع العالم: يردد عاليا ساخطا «ليسقط مبدأ ولاية الفقيه».
وأحرق الطلاب والمواطنون صور الخميني وخامنئي واحمدي نجاد وداسوها وألقوها إلى صناديق النفايات هاتفين بهتافاتهم المعبرة: «الاغتصاب والجريمة، الموت لهذه الولاية». كان هذا منعطفًا في تاريخ الانتفاضة خلال الأشهر الستة الماضية ينم عن تجذر الثورة. فلم يعد هناك مبرر للدجل والشعوذة ولا يدور هناك حديث عن الانتخابات المزورة في إطار هذا النظام الغير شرعي تمامًا، لأن الانتخابات في مملكة الفقيه المطلقة لم تكن قط إلا كاريكاتير ومهزلة مغربلة من قبل «مجلس صيانة الدستور» في النظام الرجعي. وهذه المرة استهدف المواطنون والطلاب مبدأ النظام أي «مبدأ ولاية الفقيه» في كل مكان.
وكان الموعد الأخر في أيام شهر محرم وقد وصل إلى ذروته في عاشوراء وهو يوم الثورة الكبرى وفي هذا اليوم كانت الجماهير أكثر غضبا .. وقد أنهكت الجماهير النظام في ذلك اليوم ولم يجد النظام أمامه سوى الصراخ والعويل زيفا بان حرمة يوم عاشوراء قد انتهكت .. وهنا أنقل جزءا من رسالة وجهها مسعود رجوي قائد المقاومة الإيرانية في نهاية ذلك اليوم حيث قال ردًا على أركان النظام الذين (قائلا): «إذا كان أحد يهتم بحرمة عاشوراء، فأقسم بدماء الشهداء الذين حلّوا بفناء سيد الشهداء وأقسم بمعاناة ومحنة الجرحى الذين ركعوا أمام حضرته، إن هذا العام هو أول عام في الأعوام الثلاثين الماضية يتم فيه الالتزام بحرمة تاسوعاء وعاشوراء.. أي يوم التاسع والعاشر من محرم».
وأصبح العالم يرى الآن أن حريقاً اندلع من الشرر فالتهم هيكلية ديكتاتورية الملالي في إيران. إنها كانت حرباً أكدها العالم بشهادته على ذلك. وهي حرب تلعب فيها النساء في صفوفها المتقدمة دوراً يستحق الثناء. وأدب المواطنون العملاء وجردوهم من السلاح وحطموا عجلاتهم ومقراتهم وغنموا ما غنموا من معداتهم. حيث أطلق نظام الحكم دعايات تعيد إلى الأذهان قبل كل شيء نفس الثقافة المستخدمة في الأيام الأخيرة لنظام الشاه بأن «هناك حالات شغب ومشاغبة وفوضى وتخريب للممتلكات العامة»!. ومن يزرف دموع التماسيح بسبب تحطيم وإحراق السيارات والدراجات النارية والتجهيزات والأماكن التابعة للمجرمين الذين فتحوا النار على المواطنين العزّل ويزعم أن ذلك هدر وتخريب الممتلكات العامة للشعب الإيراني فينبغي أن يخضع للمحاسبة والمساءلة عن مصير مبلغ 68 مليار دولار من مجمل الإيرادات النفطية لمدة السنوات الأربع الماضية البالغ مجملها 300 مليار دولار وكذلك عن إساءة استخدام السلطة.
و يمكن وبوضوح ملاحظة المأزق الذي يواجهه النظام الذي وصل إلى نهاية المطاف وطريق مسدود لا رجعة منه.. ويتذكر خامنئي بوضوح أواخر عهد الشاه وحكومة «أزهاري» العسكرية ويعرف الأضرار والأخطار التي حصدتها تلك الحكومة من إطلاق النار والقمع الواسع، وخلاصة القول إن هكذا إجراءات قمعية لاسيما الإعدامات ليس من شأنها إلا التعجيل بالسقوط أكثر فأكثر.
والآن نحن مقبلون على ذكرى انطلاق الثورة في 11 فبراير الجاري ولهذا السبب وبالتحديد يلجأ النظام الحاكم إلى هكذا إعدامات لإرعاب المواطنين والشباب المنتفضين ومنعهم من المشاركة في المظاهرات بهذه المناسبة وتصعيد الانتفاضات. ولكن اثبت تأريخ العالم وخاصة التأريخ الإيراني الحديث أن اللجوء إلى مثل هذه الجرائم يضاعف عزيمة الشعب على تغيير الدكتاتورية الدينية وان أبناء الشعب الإيراني وخاصة الشبان منهم سيواصلون دون شك انتفاضتهم الباسلة حتى الإطاحة بنظام ولاية الفقيه برمته وإقرار الحرية والديمقراطية في إيران. نعم، إن الفكر والخط والعقيدة التي تقود الانتفاضة وترشدها هي «طراز فكر وانطباع» فالقتل لا يحل شيئًا بل إنه يروجها.
* كاتب سياسي إيراني