أرشيف - غير مصنف

السعودية: نصف قرن على خيار الملكية الدستورية.. بقلم: د. مضاوي الرشيد

 

 

بين الحين والحين يتحرك التيار السعودي المطالب بالملكية الدستورية والذي بدأ في الستينات وارتبط بحركة التمرد من داخل الاسرة السعودية في مرحلة التطاحن السعودي ـ السعودي على هوية الدولة وتوزيع المناصب القيادية على اعضائها. وبعد حالة فوران آنية تراجع التيار والتزم الصمت في مرحلة السبعينات تحت ضغط التسلطية الصارمة التي ارتبطت بشخصية الملك فيصل ومن بعده الملك فهد. فظل دعاة الملكية الدستورية في حالة سبات الى ان أتت المرحلة الحالية وبدأ يظهر في تصريحات بعض الامراء الاعلامية دون ان يتبناه اي قيادي بارز من الصف الاول.

ولكنه اليوم يظهر وكأنه يرتبط بحركة سياسية مجتمعية لم تجد سوى العوالم الافتراضية لتنفخ فيه بعض الحياة، خاصة وانه يركز على موضوع الحقوق الانسانية والمشاركة السياسية. وفي مجمله نجد فيه بوادر انقلاب خفي على وزارة واحدة وهي وزارة الداخلية والقائمين عليها. فأخذت الحركة الملكية الدستورية تركز على انتهاكات الوزارة المذكورة وتتوسل للسلطة العليا من اجل كبح جماح التجاوزات والتي اصبحت معروفة للجميع.
فتيار الملكية الدستورية لا يرى في السلطة العليا سوى استجابة للاصلاح المزعوم وريادة في التطور والنمو وتبشير بمستقبل زاهر قد تأتي معه الملكية الدستورية كمكرمة ملكية ملحة. هذا التوقع ربما يكون من باب الاحلام اذ ان السلطة العليا تبقى مكبلة وغير قادرة على تجاوز الاجنحة المتهمة اليوم والتي تنتظر الفرصة القادمة لتتويج ذاتها على اعلى مستوى في الدولة. ورغم الاعلان مؤخرا عن تغييرات قادمة في مرافق السلطة العليا الا اننا نجد مثل هذه الاعلانات لا تزال بحث القيد والتشاور لصعوبة تجاوز بعض الاجنحة التي تتمركز في مرافق حساسة في الدولة ووزاراتها. ولن يستطيع الملك مهما توفر له من اجنحة اخرى لها مصلحة خاصة في ازاحة بعض الرموز القديمة واستعراض نفسها كبديل عنها ان يتخذ القرار الحاسم او ينقل النظام السياسي من الملكية المطلقة الى الملكية الدستورية لاسباب عدة.
اولها: تركيبة الاسرة وعددها الكبير الذي يعيق اي تفكير في حسم الصراع. وثانيها: توزيع مناصب الدولة على شرائح كبيرة ترتبط بالآباء والابناء والاحفاد. وبهذا الصدد اصبحت الاسرة ـ الدولة غير قادرة على تجاوز معضلة الاجنحة المتفرعة والتي منها من يمسك الامن والخارجية والاقتصاد والثقافة والاعلام والرياضة والعمل الخيري الى ما هنالك من مرافق سياسية واجتماعية اخرى. في ظل هذا الوضع يستحيل الحديث عن ملكية دستورية لاسباب بنيوية متعلقة بتطور الحكم التسلطي في بلد كالسعودية. ومن الغباء الاعتقاد ان حلم الملكية الدستورية يراود حتى اولئك الذين يشجعون التيار ذاته او الذين التزموا الصمت تجاه دعواته حاليا.
في الصراع الحالي السعودي ـ السعودي يستغل تيار الملكية الدستورية ويركز على زلات وزارة ما من اجل اضعاف جناح معروف وليس من اجل ايجاد فرصة تنقل الحكم الى مرحلة جديدة تختلف عن الوضع الحالي تركيبة وبنية وتعطي المجتمع من خلال مجلس نواب منتخب الصلاحية لمراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها. وقد اثبتت الملكيات الدستورية العربية بنمطها المعروف والممارس في كثير من الدول انها لا تقل قمعية عن تلك التي تعتمد على ملكيات مطلقة او جمهوريات معسكرة ومؤدلجة. وان كانت الملكية الدستورية نتاج تطور غربي فان تبنيه عربيا اوجد نوعا من الامل غير المتحقق على صعيد الممارسة اذ ظلت ملكيات العرب الدستورية مرهونة بقرارات السلطة العليا التي تحتكر الوزارات السياسية الهامة والسيادية هذا بالاضافة الى تحويل البرلمانات المنتخبة الى حلبات صراع اجتماعي وسياسي ولم تفرز هذه البرلمانات حكومات تنبثق منها ورؤساء وزارات يمثلون الاغلبية البرلمانية. فشلت هذه البرلمانات الا بالجدل البيزنطي والمواقف التي تتعلق بالمرافق الثانوية في الدولة تاركة الشأن السياسي والاقتصادي والداخلي لاجنحة ترتبط بالسلطة العليا المطلقة.
وما عدا تجربة عربية واحدة ما زالت في طور التبلور والمخاض العسير لا نجد ان الملكيات الدستورية العربية قد اعطت نمطا يمكن ان يطمح اليه أي تيار سياسي يحترم مبادئ الملكية الدستورية او يفهمها ويفهم تطورها حيث انها نجحت بدون شك في دول خارج المحيط العربي وكان لها ديمومة واضحة وصريحة لذلك نعتقد ان تعليق الآمال على ملكية دستورية تأتي من فوق ودون فصل للمؤسسات وخاصة السلطة التنفيذية والتشريعية يعد هراء لا ينتشل اي مجتمع من الحكم التسلطي والاقصاء. وان لم يرتبط هذا النمط السياسي بتقليص صلاحيات الملك وقدرته على حل البرلمانات بسرعة فائقة فستظل العملية السياسية رهينة الممارسات القديمة تحت شعارات براقة تصب في ايجاد غلاف حديث لمعضلة قديمة مستعصية الحل.
وفي بلد تدعي دولته انها تحكم بالاسلام وترفع شعار البيعة لا بد للتيار المنادي بالملكية الدستورية ان يحسم امره من موضوع الملكية وينبش التراث والتاريخ ليبرر الحكم الملكي الوراثي من منظور الاسلام السني وهو اسلام الاكثرية السعودية. فنتساءل اين هي ادبيات دعاة الملكية الدستورية التي تتجاوز معضلة الملك والتوريث. اما الشق الآخر من نظرية الملكية الدستورية والمرتبط بمصطلح الدستور فهو ايضا بحاجة الى حسم واضح وصريح حيث ان الدستور يستحضر انخراط البشر في سن القوانين وتعديلها وتغييرها. فهل اتى دعاة الملكية الدستورية بتفصيل وشرح مطول عن هذه المعضلة والتي لم تحسم خفاياها وتبعياتها خاصة وان النظام السعودي استغل معارضة شريحة معروفة لمثل هذا الطرح من اجل تثبيت حالة مبهمة افرزت ما سمي بالنظام الاساسي للحكم عام 1992 وتجاوز مصطلح الدستور حتى لا يثير حفيظة من عندهم حساسية من كلمة دستور والتي تعتبر افرازا مستوردا لا يناسب من تم تضليله تحت غطاء الحكم بما انزل الله. ففضل هؤلاء الحكم بما انزل الامير من سلسلة تشريعات دون ان يحظوا بدستور يحدد الحقوق والواجبات ويقيد السلطة المطلقة ويحمي المجتمع من ممارساتها التعسفية.
تظل حركة الملكية الدستورية رهينة صراع سعودي داخلي يحاول البعض ان يصوره كنقلة نوعية وتاريخية الا انه حتى هذه الساعة لم ينجح في انتاج ادبيات تقنع شريحة كبيرة في المجتمع انه سيأتي باصلاح سياسي جذري خاصة وان تجارب عرب الجوار في هذا المشروع لا تزال قيد الدرس والمراقبة. وربما يدافع احدهم عن هذا التيار على انه خطوة اولى مهمة في سيرة اصلاحية طويلة لا بد لها ان تبدأ ومن ثم تتطور. وقد نتفق مع هذا الطرح في المرحلة الحالية ولكن لا يمنع ذلك من لفت النظر الى خلفية هذا التيار التاريخية وارتباطه منذ بدايته في مرحلة الستينات بتوجهات بعض المجموعات السعودية وصراعها على السلطة فيما بينها حيث سارت الشرائح الاجتماعية خلفه لاعطائه صورة المطالبة الشعبية وغطاء مجتمعيا يجعله يظهر بصورة التيار السياسي العريض.
وقد جند الجناح السعودي الممانع شريحة اجتماعية اخرى تصدت له بثقلها الديني والنصي حتى افشلت المشروع في مرحلته الاولى ولكنه بقي حلما يراود المهمشين حاليا على مستوى القيادة. وها هو قد عاد ليظهر تحت حكم الملكية الحالية والتي لا تستطيع ولن تستطيع في المستقبل القريب ان تحدث هزة سياسية داخلية بين اجنحتها الكثيرة صاحبة الطموحات الكبيرة. ويظل المجتمع السعودي يترقب التغيرات السياسية الموعودة والتي ستكون اشبه ما تكون بلعبة شطرنج قديمة ربما تتغير فيها ملامح عساكر الصف الاول بعد تطعيمها بعساكر الصف الثاني. ويبقى مبدأ المحاصصة السياسية هو الدستور المتبع. وهو بطبيعته يستثني المحاصصة مع المجتمع وشرائحه المتعددة حيث ينتظر هذا المجتمع الفتات السياسي الذي لا يغير قرارا سياسيا او اتجاها حكوميا. وستظل الآلة الاعلامية السعودية ونظيرتها الغربية تحدثاننا عن قفزات الاصلاح البهلوانية والتي حتى هذه اللحظة لم تنجح في تغيير اللعبة السياسية او ارسائها على مبادئ تختلف عن الممارسات السابقة. ومجتمع تقصي الحقائق ولجان التحقيق يبقى مجتمعا قاصرا غير قادر على نقلة نوعية طالما انه يعتقد ان النعم الملكية والمكارم القيادية تفوق في قدرتها المكارم الالهية.
 
‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

زر الذهاب إلى الأعلى