بقلمْ: جهاد صُعيليك
العاصمة الأفغانية كابل، العاصمة البيروفية ليما، العاصمة السويسرية بيرن، العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.. هذه نماذج من طريقة تقديم وسائل الإعلام العربية لعواصمِ العالم؛ تُرى لماذا تغيب عنها: العاصمة الفلسطينية المحتلة القدس!
هذه ملاحظةٌ أولى أودُّ إيرادَها هُنا بين يديْ هذه المُناقشة لطبيعة بعض المصطلحات والتعبيرات المستخدمة حول القضية الفلسطينية في وسائل الإعلام العربية، عموما، والقنوات الإخبارية الأشهر (كالجزيرة والعربية) خصوصا. لكنني أتعمد البدء قبل ذلك بالإشارة إلى جريمةٍ لغويةٍ بحقِّ فلسطينَ بدأت تتسلل إلى عناوين و’مانشيتات‘ الأخبار، وعلى الأخص في الجزيرتين الفضائية والإلكترونيّة، وتتمثل في استخدام تعبير حكومة غزة وحكومة الضفة لوصف حكومتي الأمر الواقع في غزة ورام الله.
يا زملائي في الإعلام العربي: هذه مشاركةٌ لغويةٌ في جريمة الانشقاقِ الفلسطينيِّ أرجوكم أن تترفعوا عن المشاركة فيها. وفي الحد الأدنى، فإن عباراتٍ مثل ’الحُكومة المُقالة‘ و’حكومةُ تسيير الأعمال‘ أقلُّ عزفاً على وَتَر الانشقاق الداخلي الفلسطيني؛ بغضّ النظر عمّن تتعاطفون معه من طرفي جريمة الانشقاق (وكلاهما مجرمٌ طالما استمر هذا الانشقاق المُخزي والمَعيب والمُهين لصمود الشعب الفلسطيني ونضالاته).
عن القدس كعاصمة فلسطينية
سألتُ أحد العاملين في المطبخ التحريري لإحدى القنوات الإخبارية عن المانع من استخدام عبارة العاصمة الفلسطينية المحتلة لوصف مدينة القدس الأسيرة، فقال إنّ وسائل الإعلام الغربية لا تصف القدس الغربية بأنها العاصمة الإسرائيلية. والحقيقة أن هذا جوابٌ ملتبس؛ يحتاج شيئاً من التوضيح للرد عليه.
فالقدس الغربية لا يعترفُ بسيادة الدولة العبرية عليها سوى خمسِ دول من أميركا الوسطى وجنوب المحيط الهادئ؛ دول لا يدري بها أحد مثل كوستاريكا ومايكرونيزيا. ونتيجة لذلك لا يعترف أحدٌ بالقدس الغريبة كعاصمة للكيان الصهيوني (أما القدس الشرقية فلا يعترف بالسيادة الصهيونية عليها أحد). بل إنه حتى الدول التي تتطرف في تأييد المشروع الصهيوني كالولايات المتحدة وبريطانيا فهي لا تعترف حتى الآن بسيادة الكيان الصهيوني على القدس الغربية.
ولهذا السبب تحديدا يصدر الكونغرس كلما اقترب موعدُ انتخاباته قانوناً يطالب الرئيس بنقل السفارة الأمريكية لدى الكيان الصهيوني من تل الربيع المحتلة إلى القدس المحتلة، علماً أن تحديد مقر السفارة الأمريكية في العواصم المعترف بها إجراء بروتوكولي من صلاحيات وزارة الخارجية الأمريكية، وليس الكونغرس ولا الرئيس.
في الحالة الفلسطينية؛ الوضع مختلف، فعدد الدول التي تعترف بـ ’دولة فلسطين‘ التي أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988 كمظلة سياسية فلسطينية يزيد على الدول التي تعترف بإسرائيل. وجزء رئيس من اعتراف هذه الدول كان على أساس بيان الاستقلال الفلسطيني الذي تضمّن نصّاً واضحاً يقول ’وعاصمتُها القدس‘، ولم يتحفظ على ذلك أيٌّ من تلك الدول. إذنْ، لماذا تتخذ وسائل الإعلام العربية موقفاً مضاداً من اعتراف بلدانها أولا والمجتمع الدولي ثانيا بأن مدينة القدس هي العاصمة الفلسطينية المحتلة.
وأهمية هذا الاستخدام تكمن في ترسيخ صورة القدس كعاصمةٍ محتلةٍ في أذهان المتلقين، و"مقاومة" مزاعم الصهاينة عن "عاصمتهم الموحدة"، وتقديمِ دعمٍ معنويٍ لأهلنا الصابرين المرابطين الصامدين في القدس العربية الفلسطينية المحتلة (غربيةً وشرقيةً). كما أن غيابَ هذا التوصيف يُسهم في تمرير النظرية الصهيونية عن الأرض بلا شعب، ومجموعة السكان، هو ما نربأ بإعلامنا العربي أن يشارك فيه.
لعلكم لاحظتم هنا أنني أستخدم كلمة "المحتلة" وهي كلمةٌ اختفتْ بشكل غريب ومريب عن شاشات وصفحات عدد غير قليل من وسائل الإعلام العربية عند الحديث عن مدائن الأرض السليبة، ما يجعلني أتساءل: هل تحررت؟ أم يراد نسيان أنها محتلة؟ لا أتهم، لكنَّ هذا سؤالٌ مشروعٌ في زمن الإجابات غير المقنِعة.
الشعب الفلسطيني وليس مجموعة سكان
ومن بين الأخطاء الرئيسية التي تقعُ فيها وسائلُ إعلامنا العربية الاعتمادُ المُفرط على تقارير وأخبار وكالات الأنباء الغربية وخاصة الأمريكية والبريطانية منها؛ بصياغاتها الأصلية، وهذه تعتمد عادة معاييرَ مرتبطةً بمجتمعاتها لا بقضايانا. والأسوأ أن ترجماتِها تكون غالبا مبنية على تلك المعايير وتأخذ طريقَها بسهولة إلى وسائل إعلامنا كأن لا عقولَ عندنا.
ولا يبدو أن الحل البديل الذي تقوم به بعض وسائل إعلامنا؛ أي ترجمة تقارير هذه الوكالات محليا، يؤدي إلى فرق كبير؛ على ما سيوضح مِثالٌ نورده في نهاية هذه المناقشة.
ما خطورة ذلك؟ خذوا مثلا الكلمة التي بدأت تنتشر بشكل سرطاني في إعلامنا العربي بعد أن تبنتها قناتا الجزيرة والعربية نقلا عن رويترز وأخواتها، وهي وصف الشعب الفلسطيني البطل بـ "الفلسطينيين". "بدأ الفلسطينيون"، "المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين"، "معاناة الفلسطينيين"، وما إلى ذلك.
عفواً، منذ متى تبنت وسائلُ إعلامنا العربيةُ النظريةَ الصهيونيةَ للصراع القائمةَ على أن الفلسطينيين هم مجرد سكانٍ لأراض "إسرائيلية" محتلة وأنه لا وجود لشيء اسمه "الشعب الفلسطيني"؟ يا ناس يا هوو، الشعب العربي في فلسطين اسمه "الشعب الفلسطيني" وليس مجموعةَ مشردين اسمهم "الفلسطينيون"! قد نقبلها من "سي إن إن"، ولكن لماذا تقبلها على نفسها بعض وسائل إعلامنا العربية؟
منظمة الجيش الصهيوني الإرهابية
يحرصُ عددٌ قليلٌ من وسائل الإعلام العربية مشكوراً على شيئين؛ الأول: استخدامُ عبارة "منظمة الجيش الصهيوني الإرهابية" لوصف ما يسمى الجيش الإسرائيلي، والثاني: استخدامُ الأسماءِ العربية للمدن المسماة يهودية في فلسطين المحتلة عام 1948 مثل ’تل الربيع‘ بدلاً من ’تل أبيب‘.
وبدون الإفراط في تمنّي أن تتبنى وسائلُ إعلامٍ عربيةٍ أخرى هذا النهج، أذكّر بأن توصيف ما يسمى الجيش الإسرائيلي كمنظمة إرهابية وليس كجيشٍ عسكريٍ يكتسبُ أهميته من التذكير المتواصل للناس بالتركيبة الحقيقية لهذه العصابات التي تأسستْ وتهيكلتْ على أُسُسِ منظمتي الأرغون والهاغاناة الإرهابيتين وورثت عنهما روحَهما الإجرامية التي تسترخص أرواح المدنيين وتستهدفهم؛ على عكس تربية الجيوش النظامية المتحضرة التي تجعل جزءا من تدريب أفرادها الحرصَ على حماية المدنيين وقتَ الحرب.
كيف يمكن أن تقول عن عصاباتٍ تقتلُ الأطفالَ والرضّعَ وبناتِ المدارس بلا تردد إنها ’جيش‘؟ مع تذكير شكلي أنه حتى الصهاينة لا يزعمون أن هذه العصابات تسمى جيشا، فهم يسمونها "قوات الدفاع الإسرائيلية" IDF، وهذا اسمها الرسمي وليس "جيش الدفاع الإسرائيلي".
أما الأسماءُ العربية للمدن المسماة يهودية فتذكيرٌ آخرُ أنَّ هذه المدن إنما بُنيتْ على أنقاضِ بلداتٍ وقرىً فلسطينيةٍ تم مسحها عن الخريطة وإقامة مغتصباتٍ صهيونيةٍ عليها. تل أبيب مثلا ليست سوى مغتصبة صهيونية ضخمة أقيمت على أنقاض تل الربيع. دعونا لا ننسى تل الربيع خاصة عندما يكون من دمرها هم من كان شعارهم "لتنسني يميني إن نسيتك يا أورشليم". دعونا نقول بقلبٍ واحد: لتنسني يميني إن نسيتك يا قدس!
حيادٌ إعلامي أم انحياز خاطئ
وهنالك ملاحظةٌ جانبيةٌ تستحقُ التذكير بعيدا عن المصطلحاتِ والترجمات، ذلك أنه وفي ظل الغياب المريع لتطبيقات علم الدلالة في الإعلام العربي المعاصر، نجد بعض العجائب والغرائب. قبل سنوات بثت الجزيرة تقريرا يتعلق بمزارع شبعا اللبنانية المحتلة؛ قال مُعِدُّهُ عن المزارع: "التي تقول إسرائيل إنها سورية، ويزعم لبنان إنها لبنانية". هاتفتُ الرجلَ معاتباً، فإذا به ينتفخ قائلا: ما الفرق؟ ومن سيلاحظ؟!
أقول له الآن ما قلتُ آنذاك: هل تعتقد فعلا أنه لا يوجدُ فرقٌ في عبارة تكذّب لبنانَ الشقيق وتصدّق إسرائيل العدو؟؟!!! وأحمدُ اللهَ أنه لم يعدْ في قناة الجزيرة ’العربية‘. وجدتُ فيما بعد أن ’فخامته‘ ترجم تقريراً أجنبياً قال إن لبنان claims وهي المفردة التي ترجمها جهلاً "يزعُم" بدلا من "يدّعي"!
والفرق أن الادّعاء يحتمل الصحةَ أو الخطأ (وليس الصدقَ أو الكذب) دون تفضيل، بينما الزعمُ يفترضُ الكذبَ أساسا (والعربُ تقول: الزَّعمُ مَطِيّةُ الكذب). أما المفارقةُ الحقيقيةُ فهي أن الترجمة التي أعدّتها وكالة الأنباء صاحبة التقرير المذكور كانت تقول "ويدّعي لبنان"!!!
يا زملائي وأصدقائي في الإعلام العربي: هل حانَ الوقت لكي نتمرد على مفرداتٍ وترجماتٍ ومصطلحاتٍ تختارها غالبا وكالات الأنباء الغربية حين يتعلق الأمر بنا وبقضايانا وبأمتنا؟!؟! باختصار، أيُّهُما أهم، ’الستايل بوك‘ الخاص بوكالة أنباء أجنبية أم ما يحيكُ في ضمائرنا وعقولنا وقلوبنا؟ على الأقل دعونا نستقل بـ ’الستايل بوك‘ الخاص بنا حتى يشعر المشاهد والقارئ العربي أن هنالك فرقاً يحترم عقلَه وروحَه وآلامه بين صياغة الخبر الذي يخصُّه في قناة عربية وصياغته في قناة أجنبية ناطقة بالعربية!
سيحاجج البعض بحجج مثل المهنية ’ذات الطابع الانتقائي وعلى الطريقة الغربية‘ والحياد الإخباري وما إلى ذلك… ومع أن هؤلاء لا يستخدمون هذه الحجج لتبرير إصرارهم على عبارات هُلامية مثل "ما يوصف بالإرهاب"، إلا أنني أرد عليهم بتذكير بسيط: هذه الأخطاء في جوهرها ليست حياداً مهنيا. إنها للأسف انحيازٌ ولكن للجانب الخطأ!!!
بالطبع هنالك الكثير من الملحوظات المهمة والتي تستحق النقاش، ما يتجاوز الأمثلة التي أوردتُها هنا، لكنني أدعو الزملاءَ في وسائل الإعلام العربية المختلفة، وخاصة في مطابخ التحرير، إلى التفكير فيما يبثون وينشرون من منظور مختلف عن منظور وكالات الأنباء ومصادر المعلومات الأجنبية. فكما أسفلنا، هذه الوكالات هي في الحد الأدنى تخاطب مجتمعاتها لا قضايانا، وفي غياب أي تأثير إعلامي لنا في الساحة الدولية فدعونا على الأقل لا نذيب رسالتنا الإعلامية في ’أسيد‘ الانبهار الخادع بطُوفان الميديا الغربية.
من قال إن المشكلة تنحصر فقط في استخدام كلمة "قتيل" بدلا من "شهيد"!! ومن قال إن استخدام كلمة "شهيد" بدلا من "قتيل" هو نهاية المطاف!؟
* * *
ملحوظة للتوثيق: مصدر المعلومات المتعلقة بالقدس والاعتراف الدولي بوضعها:
• مقابلة تلفزيونية مع الدكتور يوسف الحسن وهو خبير إماراتي في القانون الدولي.
• كتاب "القدس دراسة قانونية" للمفكر العربي المعروف الأمير الحسن بن طلال.