برغم طموحاته التي لا تنتهي وتحريضه السافر، فإنه لم يحقق أي نجاح شخصي يذكر، ولم ينل عرش العراق، ولم يرث صدام حسين فيصبح أول رئيس شيعي للعراق.. كل ما حققه بلدًا مدمرًا وممزقًا، تأكله الطائفية ويتنازعه الجيران. ومع ذلك فإنه لم يتعظ ولايزال يواصل نهجه التحريضي الذي دمر بلاد الرافدين.
إنه أحمد الجلبي زعيم ما يسمى بالمؤتمر الوطني العراقي، الرجل الذي كان يتوقع الكثيرون- وهو أولهم- أن الأمريكيين سيأتون به رئيسا للعراق بعد إسقاط صدام حسين، ولكنهم اكتشفوا أنه مكروه جدا بين سنة العراق الذين يعتبرونه رمزا للغزو، وأنه مرفوض بين الشيعة الذين استفادوا من تحريضه المحموم، ولكنهم لم يحترموه يوما، حتى لو استجابوا لتحريضه الطائفي.
لا يمتلك الجلبي فكرا ولا رؤية أو أيديولوجيا، إلا كراهية العرب السنة، أو العرب، أو السنة على حد سواء. فهو كائن طفيلي يعتاش على تأجيج هذه الكراهية. وإذا اختفت هذه الفتنة الطائفية، إذن لانتهت ظاهرة أحمد الجلبي. ولذلك نجح الرجل في إعادة اسمه على الساحة العراقية مؤخرا، بعد أن ظن البعض أنه قد انتهى. وكانت "هيئة المساءلة والعدالة" التي ورثت "هيئة اجتثاث البعث" التي أسسها عقب الغزو الأمريكي للعراق، هي طريق عودته.
أعاد الجلبي، ومعه عدد من السياسيين الشيعة الآخرين، عقارب الساعة الطائفية إلى الوراء، بعد أن بدأ العراق يخرج من دورة العنف والطائفية الجهنمية، وبات واضحا أن ناخبيه من سنة وشيعة على السواء، أصبح لديهم نزعة في الانتخاب على أساس سياسي لا طائفي، مثلما ظهر في انتخابات المحافظات.
ولكن هؤلاء السياسيين ومن بينهم رئيس الوزراء نوري المالكي، تخوفوا من فقدان الأغلبية لصالح القوى الشيعية العلمانية المعتدلة، مثل أياد علاوي وجواد البولاني المتحالفين مع القوى السنية المعتدلة مثل صالح المطلك، ومظفر العاني، وأبو ريشه، فكان تفجير الطائفية من خلال إعادة هستيريا البعث لتخويف الناخب الشيعي، وتم تنصيب محاكم تفتيش لسنة العراق تبحث في، أو تفبرك، ملفاتهم القديمة لتتهمهم بالبعثية!
إن كوارث الجلبي ليست قاصرة على العراق. فمن المعروف أنه تسبب في فضيحة وأزمة كادت تودي بالاقتصاد الأردني للانهيار. فبعد هروبه من العراق استطاع أن ينشئ "بنك البتراء الخاص" عام 1977 الذي أصبح ثاني أكبر بنك خاص في الأردن. ولكن سرعان ما انهار البنك عام 1989 في واحدة من أكبر فضائح الفساد الاقتصادي التي كلفت الأردن نحو 300 مليون دولار، استقطعت نسبة كبيرة من الناتج المحلي للبلاد.. ويُعتقَد أنها كانت أكبر فضيحة مالية عانى منها الأردن.
وطالت اتهامات الفساد والسرقة أحمد الجلبي الذي استطاع الهرب مختبئا في "حقيبة" سيّارة، إلى سورية، ومنها إلى بريطانيا التي استقر بها ليؤسس "المؤتمر الوطني العراقي المعارض"، بعد أن صدر ضده بالأردن حكم بالسجن لمدة 22 عاما مع الأشغال الشاقة، بتهمة النصب والاختلاس، ووُضع اسمه على قائمة المطلوبين لدى السلطات الأردنية!
وظلت شبهات الفساد تطارده في عالم السياسة الذي لعب فيه دور المعارض للنظام الديكتاتوري في العراق، بعد أن فتحت وزارة الخارجية الأمريكية ملف هذه القضية في عام 2001 أثناء مراجعتها لحجم الأموال التي خصصتها لتمويل ودعم المؤتمر الوطني العراقي الذي يرأسه الجلبي، كما اكتشفت أن معظم الأموال التي حصل عليها الجلبي من جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين أُنفقت تحت بند "تزيين المكاتب واشتراكات الجيمانيزيم"!!
يجمع الجلبي بين عديد من المتناقضات، وهو أمر موجود لدى كثير من السياسيين ولا بأس به، لكن الجلبي يجمع دائما بين أسوأ المتناقضات. فهو علماني وطائفي في الوقت ذاته. عميل لأمريكا وحليف لإيران. بل إنه صديق لغلاة المتطرفين الإيرانيين في الحرس الثوري وصديق للمحافظين الجدد الأمريكيين!! ومن المفترض ألا يكون العلماني طائفيا، ولكن الجلبي يجمع بين المتناقضين؛ الطائفية الفجة والعلمانية القح. كما يفترض أن يكون الطائفي على قدر من التدين حتى لو شكليّا، وبالتالي تكون لديه مرجعية أخلاقية ومواقف على قدر من المبدئية.
وهو ما لا يتوافر في الجلبي على الإطلاق، الذي يمتلك قدرة غير عادية على تغيير المواقف وتبديل التحالفات. ولكن الثابت الوحيد لديه هو كراهيته العرب السنة أو العروبة والمذهب السني. حتى أنه هاجم الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة في العراق بعد الغزو، بقوله له إنه عربي سني، وقومي عربي. كأن التوجه العروبي تهمة يعاقَب عليها صاحبها! برغم أن الإبراهيمي دبلوماسي كفؤ، وتثق به كافة الأطراف الدولية، ومنها الأمريكيون، برغم معارضته لغزوهم العراق.
الجلبي كان العرّاب الأول لعملية الغزو الأمريكية للعراق التي استندت لمبررات مختلَقة، تكفّل الجلبي نفسه باختلاقها وترويجها. وقد سبق له القيام بمغامرة فاشلة في عام 1995 استطاع من خلالها أن يقنع إدارة الرئيس بل كلينتون بإمكانية الإطاحة بنظام صدام حسين من خلال المعارضة الكردية. وعاد بالفعل إلى العراق في منتصف التسعينيات 1995 لقيادة انتفاضة للأكراد في شمال العراق، ولكن الانقلاب فشل، وانتهى بمقتل المئات من الأكراد، وتدمير مقر المؤتمر الوطني العراقي في مدينة أربيل على يد القوات العراقية.
وهو ما دفع الإدارة الأمريكية وقتها إلى تجنب الجلبي، بعد هذا الحادث لفترة. لكنه عاد واستطاع بمساعدة التيار الداعم للتدخل ضد العراق، داخل الإدارة الأمريكية، حشد التأييد في الكونجرس الأمريكي لتمرير قانون "تحرير العراق" عام 1998. وهو القانون الذي أقر خطة تقديم نحو 100 مليون دولار لمساعدة قوى المعارضة العراقية، وعلى رأسها المؤتمر الوطني العراقي الذي يرأسه الجلبي؛ وذلك من أجل الإطاحة بحكم صدام.. وطُرح اسمه وقتها كأول المرشحين لتولي الحكم من بعد صدام.
أثبت الجلبي كفاءة نادرة في اختراق الأروقة الأمريكية، أو أن هذه الأروقة كانت متعطشة لشخصية مثل الجلبي؛ مما مكنه من إقامة اتصالات وشبكة علاقاته الواسعة المفتوحة على السياسيين ورجال الأمن والمخابرات من كل الاتجاهات، وخصوصا المعروفين منهم بمواقفهم المتشددة نحو العراق، وبقية الدول العربية! كما استطاع الجلبي توثيق صلاته الكبيرة بجناح الصقور داخل الإدارة الأمريكية.
بعد الغزو ظن الجلبي أن الأمريكيين سيعطونه عرش العراق، ولكن الأمريكيين لم يفعلوا ذلك بعد أن اكتشفوا حجمه الحقيقي؛ فاصطنع هستريا "اجتثاث البعث" التي تعتبر أصل المآسي الحالية، بالنسبة للعراق وأمريكا على حد سواء.
وبعد ذلك أبعده الأمريكيون واصطدموا معه؛ بسبب عرقلته جهود الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة في العراق. ولكن من أكثر أسباب الانقلاب الأمريكي عليه، كانت طائفيته الفجة، وعلاقاته المريبة مع الإيرانيين. ولذلك اقتحم الأمريكيون منزل صديقهم القديم، وصوّب المارينز الأسلحة لصدر رجل أمريكا السابق، واعتقلوا اثنين من مساعديه.. ضيّقوا الخناق عليه وهو الرجل الذي كان ضيفا يدخل البيت الأبيض بلا استئذان. فما كان من الجلبي إلا أن هاجم أمريكا، وتقمص دور الزعيم، قائلا للأميركيين:"أخرجوا من بلادي"!!
بلاده تلك التي غادرها عام 1954 في التاسعة من عمره، أي قبل 4 أعوام من ثورة 1958 التي صادرت أموال أسرته التي كانت من أغنى عائلات العراق، ولا تذكر أية مراجع مسألة تعرُّض عائلة الجلبي لأي اضطهاد لأسباب طائفية أو سياسية، كما حدث لعائلات الصدر والحكيم وبرزاني. ولم تتعرض عائلته للتنكيل بها، أو لإعدامات كالعائلات الدينية والسياسية سالفة الذكر.
فعائلة الجلبي كانت دوما عائلة مال، وتزلُّف للسلطة. ويقال إن جده كان يعمل في بلدة "الكاظمية" القريبة من بغداد، في مجال جمع الضرائب من المزارعين، مقابل الحصول على نسبة من الضريبة. ويصف المؤرخ العراقي "حنا بطاطو" جدَّه، بأنه كان قاسي القلب، لا يتحرك إلا ومعه حراس شاهرو السلاح. وأنه كان لديه سجن خاص به يديره هو بنفسه.. وهذا كله جعل وفاة جده حدثاً ساراً بالنسبة لسكان الكاظمية كلهم.
ولقد واصل والد أحمد الجلبي طريق النجاح المالي والسياسي، وكان عم الجلبي من أكثر رجال البنوك نفوذاً في البلاد. ولقد أحذ النظام الجمهوري من آل الجلبي كل هذا النفوذ والمال، مثلما فعل ذلك مع آلاف من العائلات الشيعية والسنية في العراق، ومثلما فعلت النظم الثورية العربية مع ملايين الأسر الثرية في الدول العربية، يدفعها في ذلك مواقف طبقية اقتصادية اجتماعية في الأساس، لا طائفية. ولكن الجلبي رد عليها بإشعاله نيران الأحقاد الطائفية التي يقتات عليها كسياسي بلا أيديولوجيا، وبلا أنصار حقيقيين على الأرض.
(السياسي)