أرشيف - غير مصنف
المفكر منير العكش: إبادة الفلسطينيين هل تصبح حقيقة واقعية ؟
سيف دعنا
أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدولية جامعة ويسكونسن- پارك سايد
"أمريكا والإبادات الثقافية..لعنة كنعان الإنجليزية" الصادر عن دار رياض الريس هو الكتاب الثالث في سلسلة تتميز بكثافة التوثيق والدقة المنهجية المتناهية، يسرد لنا فيها المفكر العربي منير العكش الارتباط العضوي بين فكرة اسرائيل وأبشع وأعنف قصة إبادة شاملة عرفها التاريخ الانساني، ليحذرنا من المصيرالرهيب الممكن لكنعان الحقيقي علي يد إسرائيل الصهيونية بروايته لقصة الإبادة بحق كنعان المجازي علي يد متقمصي فكرة اسرائيل.
لولا التوثيق المكثف والخبرة البحثية الطويلة وعلمية المنهج التي تميز سرد هذا الكتاب لأكثرالروايات إسكاتاً لاستحق أن يكون واحداً من أعظم قصص الرعب التي رويت علي الإطلاق.
هذا أحد الكتب القليلة التي ستهز بشدة وعي القارئ لدرجة إعادة النظر في رؤيته للتاريخ، وتشكك وبقوة بالكثير من المفاهيم والمسلمات التي يحملها الكثيرون عن التاريخ، الحضارة، الثقافة,الفلسفة، العلوم، الغرب، أمريكا ،الحداثة، والاستعمار.
هذا الكتاب يروي قصة الإبادة الثقافية التي تعرّض لها السكان الأصليون في أمريكا الشمالية، وهي حلقة من مسلسل الإبادة الشامل.. الذي عرض الكاتب قسمها الأول وفكك فلسفتها في كتابين سابقين هما "حق التضحيه بالآخر: أمريكا والإبادات الجماعية" و" تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أمريكا." الأهم أن هذا الكتاب يتضمّن تقديم نموذج لتفسيرعلاقة أمريكا بإسرائيل يتجاوز قصور التفسيرالاقتصادي-السياسي البحت الذي يري فقط دور إسرائيل السياسي والاقتصادي في النظام الرأسمالي العالمي كدولة نصف محيطية، أو كقاعدة متقدمة للإمبريالية العالمية، ويتجاهل دورالعامل الثقافي المشترك، والبنية، التاريخ، والنموذج الكولونيالي المتماثل الذي يغطيه هذا الكتاب.
لذلك، فان قيمة هذا الكتاب تتجاوز كثيرا الرواية التاريخية الموثقة ببراعة أكاديمية وبحثية نادرة، والتي يسردها لنا العكش. من يقرأ هذا الكتاب بتكامله مع أعمال منير العكش الأولي يُدرك بلا أدني شك أنه أمام مشروع فكري عربي وإنساني من طراز خاص. هذا الكتاب، والكتب السابقة، تتضمن نقاشاً جدياً وجديداً، ومساهمة فكرية متميزة للرواية، التاريخ، الحداثة، الكولونيالية، الثقافة، الصهيونية ،وسأضيف بدون تردد مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والانسانية.
> > >
بسبب أهمية هذا الكتاب للحاضر والمستقبل العربي، ولمستقبل الفلسطينيين تحديدا، وبسبب صعوبة الاحاطة بكل ما جاء في هذا الكتاب كونه يحوي الكثير من التفاصيل التي تُروي للمرة الاولي بشكل متكامل، لن أقدم مراجعة تقليدية اوعرضاً تقليدياً للكتاب، بل سأقدم قراءة في الكتاب كجزء من قراءة في مشروع فكري أعتقد بضرورته الملحة لفهم الحالة العربية وقضيتها المركزية في فلسطين، التي يترتب عليها، وبنتيحه الرواية والمشروع الفكري اللذين يقدمهما العكش، اعادة النظر في الكثير من الافكار والقناعات.
في العام 1291 سقطت عكا، آخر معاقل الصليبيين في الشرق العربي، وفشلت المحاولة الأوروبية الأولي لنشر الهيمنة خارج القارة رغم كل العنف الذي مارسوه ضد العرب الذين ساهم في حمايتهم من المصيرالرهيب الذي لحق بالشعوب الأخري ثقافة، اديان محليه، تاريخ، جغرافيا، وبيولوجيا استعصت علي العنف الاوروبي. خرج الاوروبيون مهزومين وحملوا معهم الصابون الذي لم يعرفوه سابقاً، والبوصلة التي مكنتهم من الإبحار وللمرة الاولي في مياه الاطلسي الدافئة والواسعة، وبالتالي الوصول الي العالم الجديد وافتتاح عصرطويل من التطهير العرقي والثقافي لا يزالان مستمرين حتي اليوم.
شعوب الاراواك التي قطنت مناطق الانديز الغربي حيث حطت سفن كريستوفر كولومبوس كانوا أول الشعوب التي أبادها الأوربيون عن بكرة أبيها. وقبل التسلح بأدوات الملاحة، وبالتالي اضطرارهم للابحار في المناطق الضيقة والباردة، من الأطلسي شمالاً باتجاه العالم الجديد، يروي المؤرخون ان النورس( ذوي اصول نرويجية جاءوا من ايسلندا الي غرينلاند) الذين دخلوا شمال شرق كندا في القرن الحادي عشر قتلوا ثمانية من اول تسعة قابلوهم من السكان الاصليين_نجا التاسع لخفته وسرعته في الهرب.
أكثر قصص الإبادة حزناً ورعباً وتأثيراً في نفسي كنت قد قرأت عنها ولم أتخيل ما هو أفظع منها حتي قراءتي كتب منير العكش (وأرويها لطلبتي في تاريخ الامبريالية الأوروبية) هي المجزرة الأوروبية الرهيبة في جزرالكناري. ازعم انه ربما لم يعرف التاريخ شعباً مسالماً مثل الغوانشي، سكان الكناري الاصليين، الذين لم يطوروا أي معرفة بفنون الحرب والقتال، أو تصنيع السلاح علي الاطلاق. وحين تعلموا بعضا منها من الأوروبيين لاحقاً، كان ذلك متاخراً جداً لانقاذهم ولنجاح مقاومتهم. أبادهم الاوروبيون الي اخر واحد فيهم بعدما اطلقوا عليهم تسمية "الكفار العزل" دلالة علي جهلهم بعلوم الحرب وعدم تصنيعهم للاسلحة ،وعلي "دونية معتقداتهم" من وجهة نظر الرجل الابيض. ثم جاء دور الازتيك والانكا وقائمة طويلة ضمت المئات من الشعوب والقبائل آخرها العراق العربي. رغم ذلك، استمر الرجل الابيض في ادعاء التفوق الاخلاقي علي كل شعوب الارض، وفرض روايته للتاريخ التي حولت الابادات والمجازر الرهيبة لمهمة حضارية أوكل الله إليه مهمة القيام بها، وحمله همها التاريخ وحده دون غيره، واسكت كل رواية بديلة تؤنسن الضحية أو تشكك بالصورة التي بناها الرجل الابيض لنفسه وللآخر. وهكذا تجاوزت الابادة التدمير الجسدي لتشمل اقتلاع السكان الاصليين من الذاكرة وتزوير الوعي التاريخي للضحية ولكل شعوب الارض.الانتحار علي طريقة الأزيتيك
حتي البطولة التي اظهرها السكان الأصليون في مقاومة الإرهاب والعنف الأوروبييْن تم إسكاتها أيضاً كما تم إسكات روايتهم لتكتمل المجزرة بمحو اعظم الملاحم في التاريخ من الذاكرة الانسانية. حتماً كان هوميروس سوف يخجل بالياذته الأوروبية التي ترجمت لكل لغات الارض لوعلم ببطولات الانكا في مدينة كوزكو في البيرو أوبعظمة مقاومة الازتيك في مدينة المكسيك التي تجعل من حرب طروادة حدثا تاريخيا غير ذي أهمية، وربما كانت ستغير دلالة كلمة "ملحمة" ذاتها. تقول رواية الضحية مثلا: اعتلي المقاومون الازتيك صخور جبال مدينة كوزكو العالية، حاملين السيوف الاسبانية، وقاتلوا ببطولة نادرة في معركة غير متكافئة علي الاطلاق. قاوموا الاسبان المسلحين بالبارود، وقتلوا كل من سولت له نفسه من مقاتليهم بالاستسلام. وفي النهاية حين ادركوا لا جدوي مقاومتهم، واللاتكافؤ الرهيب في القوة، والعنف، والقدرة والاستعداد المرعب للتدمير، رموا اسلحتهم، ثم ملأ كل واحد منهم فمه بالتراب، وقفزوا جميعاً من فوق الصخور العالية منتحرين، اعلانا منهم بتفضيلهم الموت علي الاستسلام للاسبان. ويؤكد لنا التاريخ انهم ربما لم يكونوا علي خطأ في اختيارهم الموت علي الاستسلام، فاستسلام الغوانشي في الكناري بعد مقاومتهم الطويلة لم يمنع إهانتهم الشديدة والمتواصلة والمتكررة (أجبروا علي تكرار نص الاستسلام واعلان الولاء لملكة اسبانيا مرارا، تماما كما اجبر الفلسطينيون في عام 1988 علي ادانة الارهاب والاعتراف باسرائيل ثلاث مرات متتالية)، ولم يمنع استسلامهم لاحقا من استعبادهم وفي النهاية ابادتهم جميعا. ملكهم الاخير، بنتور، الذي قاد المقاومة، تمتع بالكرامة التي عادة ما يفتقدها قادة المقاومة بعد الهزيمة أو الاستسلام. قادته كرامته وشعوره القوي بالمهانة الشديدة التي لحقت بشعبه الي الانتحار علي طريقة الازتيك بالقاء نفسه من فوق احد الجبال البركانيه العالية في مملكته السابقة.
كنعان ومجازاه
اختفت كل البطولات الحقيقية وأُسكتت لأنها نماذج تتحدي الهيمنة والإبادة الاوروبية يحظر معرفتها وانتشارها وتقليدها، فلا يجوز للضحية، بعرف المستعمرالأبيض، حتي مقاومة ذبحها، والإبادة حق الهي اعطي للرجل الابيض كما تقول فكرة اسرائيل الانجليزية والصهيونية التي أبدع في تفكيكها منير العكش. بدل ذلك، انتشرت اساطير البطولات الاوروبية التي تدرس علي انها تجارب انسانية حقيقية وعالمية لا مجرد قصائد لايعرف مؤلفوها الحقيقيون (يعتقد ان بعضها لشعراء بلاط، اشهرهم واكثرهم وصفا للبطولة وتفاصيلها "هوميروس" كان اعمي منذ الولادة). لم يسمع الكثيرون ببطولات الازتيك في كوزكو، التي حدثت بالامس القريب، بينما يزور ويسيَّس التاريخ في الكتب المدرسية وفي قراءة نصوص الاركيولوجيا ليغدو قطاع الطرق من أمثال بار كوخبا ثوارا، وتغدو ماسادا، التي يؤكد المؤرخون انها لم تكن اكثر من حملة تأديبية عادية وغير مهمة أو مميزة لمجموعة من اللصوص، إحدي أعظم الثورات في التاريخ. هكذا فقط يمكن للمستعمر من خلال التزوير وصناعة الاسطورة العمل علي تثبيت حق من لا حق له في فلسطين.
فكرة إسرائيل: الاستعمار الاستيطاني النقي
فلسطين ومأساة شعبها حاضرتان بقوة في كل كتب العكش، ولولا معرفتي الجيدة به وبالتزامه الفكري، الأخلاقي، والنضالي القوي جداً بقضية السكان الاصليين في أمريكا الشمالية وإصراره العنيد علي رواية قصتهم بصوتهم هم، لا كما يرويها الرجل الأبيض، لقلت إن هذا الكتاب هو عن فلسطين ومأساة شعبها، لا عنهم. أكثر من ذلك، لا يخضع حضور فلسطين في كل صفحة من صفحات الكتاب تقريبا لهونتولوجي جاك دريدا (الحضور الغياب).علي العكس، فالقصة هي ذات القصة، والفكرة هي ذاتها، وحتي الأسماء هي نفسها. فالفكرة التي قادت اكبر عملية تطهير عرقي وإبادة ثقافية في ال تاريخ واستهدفت السكان الأصليين في أمريكا الشمالية هي فكرة اسرائيل، وهي ذات الفكرة التي تقود الإبادة الثقافية والعرقية في فلسطين. والابادة الرهيبة التي تعرض لها السكان الأصليون ارتكبها بيض انجلوساكسون بروتستنت تقمصوا دور الإسرائيليين وأبطالهم الأسطوريين، وفي ذات الوقت كنعنوا (من كنعان) ضحاياهم كتشريع لإبادتهم امعانا منهم في تقمصهم للأسطورة الإسرائيلية.
نحن أمام حالة تماثل كامل بين الضحية (كنعان العربي في فلسطين) والضحية (سكان امريكا الاصليين: كنعان المجاز)، والجلاد (اسرائيل) والجلاد (امريكا: اسرائيل المجاز). ربما لم تستخدم الثقافة والاساطير الدينية علي طول التاريخ الانساني كسلاح ابادة ودمار بالفعالية، الفتك، والبشاعة التي استخدمها الانجليز في امريكا والصهانية في فلسطين.
>>>
في الفقرة الأولي من مقدمة الكتاب يصدم منير العكش قراءة العارفين بتاريخ التوسع الامبريالي والملمين جيدا بتفاصيل العنف الاوروبي في العالم بتمييزه العنف والحملات الانجليزية عن غيرها، لتبدو كل الابادات الرهيبة التي ارتكبها المستعمرون الاسبان، البرتغال، الفرنسيون، والهولنديون برغم بشاعتها وعنفها اقل شانا ورعبا مقارنة بما يرويه لنا هذا الكتاب. "وحدهم الانجليز (البيض الانجلوساكسون البروتستانت)" يقول العكش، "كانوا الاكثرعنجهية وعدوانية واصرارا علي تدمير الحياة الهندية واقتلاعها من الذاكرة الانسانية. وحدهم جاءوا بفكرة مسبقة عن امريكا، نسجوها من لحم فكرة اسرائيل التاريخية، فكرة احتلال ارض الغير، واستبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة، وتاريخ بتاريخ." هذا التوصيف الذي يقدمه منير العكش لفكرة اسرائيل التي تبناها المستوطنون الانجليز، ونراها كل يوم في فلسطين الحقيقية، هي مساهمة جدية ومهمة لادبيات الكولونيالية.
تميز أدبيات الكولونيالية، أوعلم الاستعمار المقارن، وهو علم حديث بالمناسبة، عادة، بين نوعين من الاستعمار. الأول، هو الاستعمار المتروبولي، أو المرتبط بالمركز الامبريالي، الذي لايتضمن انتقال عدد كبير من السكان للاقامة الدائمة في المستعمرة ويتميز بالسيطرة من الاعلي عبر سلطة كولونيالية ويشكل احد دينميات الامبريالية، أو اقامة الامبراطورية، كما كانت حال الاستعمار الانجليزي في الهند. النموذج الثاني، الاستعمار الاستيطاني، ويتميز، علي العكس، بانتقال المستعمرين باعداد كبيرة للسكن الدائم في المستعمرة وتأسيس وطن علي طراز الوطن الاوروبي الأم. هذا النوع ينقسم بدوره الي ثلاثة انواع هي: المستوطنة المختلطة، المستوطنة الزراعية، والمستوطنة النقية. ما يميز النوعين الاولين هو استيطان الأرض فقط، واستغلال اليد العاملة المحلية (في حالة المستوطنة المختلطة) او استيراد اليد العاملة (في حالة المستوطنة الزراعية). وحدها المستوطنة النقية، كما هي اسرائيل، تستوطن الارض والعمل معا، وبالتالي فان بنيتها تتضمن رفضا مطلقاً والغاء كليا ً لوجود السكان الأصليين بطردهم من الحياة الاقتصادية، حتي كأيد عاملة يمكن استغلالها. لذلك، وبرغم بعض التشابه بين الحالة الفلسطينية وابارتهايد جنوب افريقيا، فان كل منهما ينتمي لنموذج استعماري مختلف. ولكن، ولأسباب اخلاقية، ولأن كل استعمار بغيض، سامتنع عن التمييز بينهما علي اساس من هو النموذج الأكثر بغضا.
الإبادة الجماعية كخاصية أصيلة
المستوطنة الاستعمارية النقية،كما هي البنية التي ميزت المشروع الصهيوني منذ موجة الهجرة الصهيونية الثانية التي بدأت عام 1904، التي استعمرت الأرض وتبنت سياسة عبرنة العمل والمنتوج، وبالتالي استعمرت العمل، رغم التكاليف الاقتصادية الهائلة لهذه السياسات، وكما هي امريكا التي كانت مثل اسرائيل تماما باستعمارها للأرض وطردها للسكان الاصليين كلياً من الاقتصاد، شكلت أنموذجاً استعمارياً فريداً من نوعه في التاريخ.
أدبيات الكولونيالية تؤكد ان هذا النوع من الاستعمار (الاستعمارالاستيطاني النقي) ليس عنصرياً فقط، بل يتميز بما يسميه ديفيد فيلدهاوس "انقي انواع الدوافع العنصرية"، وبكون "الابادة الجماعية خاصية أصلية" فيها لا ظاهرة عارضة او مؤقتة كما يشير وورد تشرشل. هنا بالضبط تكمن مساهمة العكش الجدية، ليس للرواية التاريخية بلسان الضحية هذه المرة فقط، بل ولأدبيات الاستعمار المقارن كذلك.
>>>
إصرار العكش علي توصيف فكرة اسرائيل باستمرار علي انها " فكرة احتلال ارض الغير، واستبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة، وتاريخ بتاريخ" هو مساهمة تري في الحالة الاستعمارية الفريدة التي يتعامل معها في حالة الاستعمار الانجليزي لأمريكا (وكذلك استراليا ونيوزلندا أيضا) والصهيوني لفلسطين منظومة متكاملة من الاقتصاد، السياسة، الثقافة، والاجتماع، الرواية، الفلسفة، علم اللسانيات، التربية، صناعة الاسطورة، وحتي الجنس. ولهذا فان قراءة "امريكا والابادات الثقافية" ستضيف لكل قراءة في الفلسفة، الاقتصاد، التاريخ، علم الاجتماع والانسان، واللغات. رواية العكش لتاريخ طويل من الابادات الجسدية والثقافية هي محاكمة شاملة "للحضارة الغربية" التي قال عنها غاندي، استهزاء، إنها ستكون فكرة جيدة.
اختراع كنعان
ولأن فكرة إسرائيل والإسرائيليين لا تكتمل إلا بنقيضها، وجد المستعمرون الإنجليز المتقمصون لدور الاسرائيليين في الأساطير العبرية نموذجاً مثالياً للعدو الآخر الشيطان، وذلك لتبرير العنف والارهاب بحقه باسم الله، الدين، والحضارة. نموذج كنعان الفلسطيني الذي استباح وجوده جسداً وثقافة عبرانيٌّ يدّعي ويؤمن بعقيدة الاختيار الالهي، شكل مصدر إلهام للامبراطورية الأمريكية علي مدي أكثر من اربعمائة عام بدءاً بالسكان الاصليين في امريكا الشمالية، ومرورا بمذابح ماي لاي الفيتنامية وملجأ العامرية في بغداد، وصولاً الي المجازر اليومية في افغانستان والعراق. كل الضحايا كٌنعنت، وكان للهوس الانجليزي الشديد بهذا النموذج العبراني للعدو الهمجي، والذي ترافَقَ مع قناعة غريبة مفادها أن تفوق آلة القتل لم يكن الا دلالة علي التفوق الاخلاقي والاختيار الالهي، اثار تدميرية علي مستوي كوني.
ايديولوجيا الكنعنة التي اسست لفكرة الاختيار الالهي العبراني والدين المدني الامريكي (الايمان بالمصير الامريكي كحامل وناشر للحضارة بتكليف من الرب عند المؤمنين،او بتكليف من التاريخ لدي العلمانيين) حولت كل قتل لأي كنعان، الذي لم يعد عدوا محددا بل اصبح "دال عائم"، لو استخدمنا مصطلحات ما بعد البنيوية، او حربائياً كما يقول العكش، يمكن الصاقه بأي ضحية وفي اي مكان او زمان، لمهمة الهية وتاريخية. ليس غريباً اذن ان يدهش الامريكي من دفاع اي كنعان عن نفسه، او من عدم امتنان الضحية بتحريرها من همجيتها عبر ابادتها جسديا وثقافيا.
والكنعنة ايضا ثقافية، ولا تقتصر علي الابادة الجسدية كما يشير العكش. كلام الكنعاني غير ذي معني، وثقافته لا قيمة لها. هكذا فوض الرجل الابيض نفسه ناطقا باسم كنعان وأوكل لنفسه حق نقرير مصير كل شعوب الارض. هذه الايديولوجيا حولت القتل الجماعي والالغاء الثقافي الي عمل خيري نبيل. ويبقي الاكثر خطورة من العنجهية الفظة للرجل الابيض وتمجيده وعبادته لذاته، وايمانه بتفوقه علي كل شعوب
الارض، قبول كنعان ذاته برؤيا متقمص اسرائيل لذاته وللآخر. فقط حين يقبل كنعان برواية المستعمر تكتمل الابادة.
التطهير الثقافي
العنف الأوروبي غير المسبوق منذ مجازر الصليبيين في القدس وعكا في فلسطين، وصولاً الي فضيحة سجن ابوغريب في العراق،ومرورا بإبادات الاراواك في غرب الانديز، الغوانشي في جزر الكناري، والمئات من الشعوب والقبائل في الامريكيتين ليست قضية عسكرية بحتة اونتاج حروب واستعمار من اجل النهب فقط. فبرغم التفوق العسكري الهائل للرجل الابيض الذي كان من الممكن ان يضمن نجاح الاستعمار والنهب، الا ان الاسلحة المستخدمة لم تقتصر علي الجيوش والبارود. هنا بالضبط تكمن برأيي اهم مساهمة لكتاب العكش الجديد باستعراضه للاستعمار الانجليزي لامريكا حيث شكلت الثقافه سلاحاً فتاكاً للابادة تجاوز بفعاليته البارود في تبرير العنف وتطبيعه ضد السكان الاصليين من جهة، كما شكل اداة هيمنة بشعة لعبت دوراً محورياً في اعادة تشكيل وعي وتطويع القلة التي نجت من الابادة لدرجة الشعور بالخجل من أصولهم. قصة الطالبة "سنغ سوك" التي تخجل من اصولها "الهندية" التي يرويها العكش هي نموذج للجراحة الدماغية، كما يسميها، التي اخضع لها ما تبقي من السكان الاصليين، لا ليشمئزوا من هويتهم فقط، بل وحتي ليشعروا بالامتنان للرجل الأبيض الذي حررهم من كنعانيتهم "المقززة" بالعرف الأبيض. ليست هذه بحالة استعمار ونهب كلاسيكية، وازعم ان فرانز فانون الذي رصد حالات نجاح اعادة تشكيل وعي المستعمَر في افريقيا في كتابه الرائع " بشرة سوداء، قناع ابيض" كان سيدهش بالمنهجيه، الاستمرارية، والمدي الذي استخدمت به الثقافة كسلاح هيمنة في امريكا علي يد الانجليز الذين تقمصوا دورالاسرائيليين وآمنوا بفكرة اسرائيل. وازعم ان ميشيل فوكو الذي رأي في الجنس اداة هيمنة في المجتمعات الحديثة ربما كان سيدهش بامكانية اغتصاب اجيال كاملة ومتلاحقة من اطفال السكان الاصليين 100٪) من طلبة المدارس-المعسكرات كما يخبرنا العكش) بشكل منهجي، منظم، وطويل الامد كما حصل في امريكا (الا يفسر هذا بعض ما حدث في سجن ابو غريب؟). وازعم ايضا ان فرديناند دي سوسور ربما لم يكن قد تصور كيف يمكن للغة ان تتحول لسلاح اخضاع واداة تشكيل للوعي واللاوعي (كما عند جاك لاكان) عبر تغييروفرض الاسم، ليس علي شخص واحد كما أخبرنا الكاتب الاسود اليكس هيلي عن جده، بل لشعوب وقبائل كاملة كما حصل لقبائل اللاكوتا. ليست هناك هيمنة اكثر من النجاح في محو الاسماء وفرض اسماء جديدة تتناسب مع مشروع النهب، فللأسماء مركزية في تعريف وتشكيل الذات. لقد أدهشتني دوما الوقاحة التي تم بها تصحيح خطأ كولومبوس، الرجل الابيض، الذي اعتقد انه ذاهب الي الهند، بفرض تسمية الهنود علي السكان الاصليين. لكن هذه التسمية، وتسميات اخري ذات دلالات عنصرية فاضحة لم تتم بمعزل عن السياق الاستيطاني الاوروبي وممارسة المستوطنين البيض كل انواع الابادات الجسدية والثقافية ضد السكان الاصليين كما يشير العكش. كذلك كان دور اللغة الجديدة التي فرضت علي السكان الاصليين وحرمان اطفالهم من تعلم لغة اجدادهم، واستعراض العكش لدور المدارس-المعسكرات في فرض هوية جديدة باستخدام ادوات عديدة كانت اللغة في طليعتها. ومركزية اللغة في تشكيل الوعي والهوية والذاكرة قضية اساسية في مواجهة الاستعمار، فتبني لغة والتحدث بها يتضمن القبول بالثقافة والوعي الجماعي لأصحاب هذه اللغة، كما يشير فانون، وتتضمن قبول المستعمَر بالصورة التي تؤسس لها لغة وثقافة المستعمِر عنهما.
>>>
يجدر إدراك دورالمعرفة والثقافة كأدوات هيمنة وسيطرة في داخل المجتمعات وبينها، برؤيتها في سياقها التاريخي، والارتباط البنيوي بين انتاج الثقافة والمعرفة والتوسع والنهب الامبريالي. لهذا جادلت في البداية أن.. قراءة العكش والفهم العميق لما حدث في أمريكا الشمالية من ابادة جسدية وثقافية ستضيف لكل قراءة للفلسفة والعلوم الاجتماعية والانسانية الغربية. أكثر من ذلك، ربما سيشكل الوعي العميق للقصة التي يرويها العكش امتحاناً جدياً لمدي وعي وفهم طبيعة هذه الفلسفة وهذه العلوم في سياقها التاريخي وبارتباطها البنيوي بالتوسع الامبريالي الأوروبي، لا مجرد النظر لها كنصوص خارج السياق الاقتصادي-السياسي والثقافي وخارج التاريخ. حين جادل جونا راسكين في " ميثولوجيا الامبريالية" قبل اربعين عاما ان الامبريالية "واقع كلي" وبالتالي تؤثر في، وتساهم في تشكيل كل الصيغ الثقافية والمعرفية، لم يكن مخطئا ًفيما يخص الفلسفة والعلوم الاجتماعية والانسانية. بهذا المعني يمكن القول إننا أمام حالة أكثر خطورة من الاستشراق الكلاسيكي. فاذا اخبرنا ادوارد سعيد سابقا عن جدلية الثقافة والامبريالية في الغرب، فان منير العكش يحذرنا من خطورة وآثار قبول غير الاوروبيين بالمركزية الأوروبية للعالم، وبالأسطورة الغربية علي انها حقيقة وتاريخ، والصور الثقافية للاوروبي عن نفسه وعن غيره. تحذير الفيلسوف الإيراني احمد فرديد مما سماه "مرض الغربنة" أو "التسمم الغربي" هي وعي بخطورة ضياع الهوية كمقدمة للهيمنة. هذه هي المدرسة الفكرية التي يتوجب قراءة المشروع الفكري العربي لمنير العكش من خلالها.
أولاد مكولاي
"علينا ان نربي طبقة تترجم ما نريد للملايين الذين نحكمهم، طبقة من أشخاص هنود الدم والبشرة، لكنهم انكليزيو الذوق، والأفكار، والتوجه، والاخلاق، والعقل." هذه استراتيجية خلق جيل من السماسرة المحليين التي وضع.. أسسها "توماس مكولاي" رسول الادارة الاستعمارية البريطانية، أو شركة الهند الشرقية، كما يسميه العكش، الي شبه الجزيره الهندية، ووافق عليها المؤتمر الامبراطوري في عام 1913 كأساس للتعليم والتربية. المبادئ الاساسية لهذه الاستراتيجية كما لخصها العكش هي:
أولاً، اعادة كتابة استعمارية لتاريخ وثقافة المستعمَر علي يد نخبة منهم تتميز بكونها انجليزية الهوي، العقل، الذوق، والتوجه.
ثانياً،تسويق المكتبة الانجليزية كمرجع أعلي للمعرفة.
في كل حالة استعمارية تلعب قوي داخلية دورا مهماً في استدخال الهزيمة والقبول بالموقع الدوني، بل وتعمل علي نشر الشعور بالامتنان للاستعمار لنشره الحضارة وتحريرالسكان الاصليين من "همجيتهم". هؤلاء الطواويس كما يسميهم العكش، المفتونون بالرجل الابيض لدرجة تقليده في كل شيء وتبني رؤيته للعالم ولنفسه ولغيره، هم الذين "تطوعوا للتشنيع علي الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني واحباط نضالها." سياسة التعليم الاستعمارية واستعمار العقل، والدور الذي لعبه الطواويس المحليون أغني بريطانيا عن الجيوش والأساطيل.
كل حالة استعمارية اعتمدت علي مؤسسة "الاستعمار الداخلي." مجموعة من الطواويس الذين لا يرتبطون بالاستعمار عبر بنية مصلحية فقط، بل وثقافياً. فهم يرون العالم، والرجل الأبيض،وانفسهم من خلال الرواية الاستعمارية والأدب الاستعماري والثقافة الاستعمارية. هذه هي استراتيجية مكولاي الذي آمن ان الاستعمار الانجليزي للهند لن يستطيع قهر هذا البلد ما لم يكسر "عظام عموده الفقري التي هي لغته، وثقافته، وتراثه الروحي." وهذه الشريحة هي ذاتها التي حذر الزعيم الأسود مالكولم اكس شعبه المضطهد إلي يومنا هذا منهم. فلينتبه العرب من طواويسهم، فلدينا منهم الكثير وهم يلبسون كالمستعمر، ويفكرون مثله، وينظرون إلينا كما ينظر الينا المستعمر.
كتاب العكش يؤكد لنا ان محاربة هويتنا العربية عبرمحاولة استبدالها بالهويات الطائفية والمذهبية المصطنعة هي جزء من استراتيجية الهيمنة والاستعمار. ربما هزم العرب عسكريا، اقتصاديا، وسياسيا، ولكن تاريخنا سلّحنا بهوية تستعصي حتي اللحظة علي الهزيمة والكسر وتشكل المانع الأخير، ولكن حتما الأقوي، أمام المصير الذي لحق بسكان أمريكا الأصليين. هذه ليست رواية لاعظم المآسي التي عرفها التاريخ الانساني فقط، إنه تحذيرمن المفكر العربي منير العكش: ان فقدنا هويتنا كعرب ولم ندافع عنها وبشراسة في وجه هويات الفتنة، سيلحق بنا نفس المصير ونصبح "كشجرة تساقطت أوراقها فكنستها الريح إلي الأبد