قراءة في مذكرات صهيونية (1) (الوطن في النفسية الصهيونية)

زكريا النوايسة

   أعترف بداية أن الموضوع شائك ويحتاج إلى قراءات عديدة ومتنوعة ، ليستطيع من خلالها الكاتب أن يقف على أهم مراحل تاريخ اليهود قديما ، والكيفية التي أعتمدها فلاسفة الفكر اليهودي في العصور اللاحقة للخروج من مأزق الدين أو الأيدلوجيا الدينية إلى دائرة الأيدلوجيا القومية أو المزاوجة بينهما لتشكل أساسا للمطالبة بالوطن الديني والقومي في آن واحد.

 

   قد يكون اليهود هم من القلائل الذين يتفردون بعدم انفصال الديني واللاديني في فكرهم السياسي ، فأهداف الأحزاب العلمانية لا يمكن أن تجد فيها ما يشير غالى تناقض واختلاف مع الأحزاب القومية والدينية إلا بمقدار التفاوت في الحماس لتحقيق الهدف ذاته، وبالتالي فإن ما نراه من تنازع واحتراب على السلطة في    ( إسرائيل ) ليس إلا سباقا للوصول إلى الهدف اليهودي المنشود بأسرع وقت وأقل خسارة.

    والحديث عن الصهيونية قديما أو حديثا ،ومحاولة الاقتراب    من العقل المؤسس لفكرة الوطن القومي والديني عند اليهود، لا يتأتى إلا من خلال دراسة متعمقة لمفهوم الوطن في النفسية اليهودية ، وبالذات في فكر وفلسفة بعض الشخصيات اليهودية التي كان لها الدور الأبرز في رسم معالم هذا الهدف على مدى سنــوات طويلــة،وتأثيـرهـــــــم الواضــح والمدروس فــي الأحداث العالميــة ، وبالذات منها المعاصـرة أو القريبــة زمنيــا كالثورة الفرنسية وإرهاصات سقوط الامبرطورية العثمانية بعد ذلك ، ومن ثم التشكيل السياسي الجديد للدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى ، وصولا إلى سياسة الأحلاف التي سبقت الحرب الكونية  الثانية التي رسمت خارطة العالم لسنوات طويلة.
   
فإن اقتنعنا بأن الأسباب الرئيسة في حدوث كارثة احتلال فلسطين تتمثل بالتأثير اليهودي في المجتمعات الغربية ودفعها قسرا إلى البحث عن حل لهم على حساب أي شعب ، إضافة إلى وجود العقل الانجليزي الممسك بجميع خيوط اللعبة والذي يمتاز بالدهاء والخبـث مقارنة مع هزال وسذاجـة النظام العربي الرسمي في حينه ، فإن من الضروري الإشارة أيضا إلى سبب لا يقل أهمية عما سبقه ، والذي يظهر من خلال التنظيم الدقيق الذي اعتمدته الحركة الصهيونيـة لتحديد وتحقيـق أهدافها بعيدا عن التشنجات الأيدلوجية،هذا التنظيم المؤسس على ركائز الفكر اليهودي، والذي يمكن الوقوف عليه من خلال كتب ومذكــرات بعض الرمــوز الذيــن كان لهـم دورا بــارزا في نشوء ( إسرائيل) .
 
  جاء في العهد القديم (سفر التثنية، الإصحاح العشرون):" وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الربّ إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرّمها تحريما ً"ويبدو أن الدولة الصهيونية حريصة على التنفيذ الكامل لهذا النص التوراتي ، فسياسة الإحلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي اتبعتها الصهيونية في مرحلة ما قبل الدولة وما بعدها ، هي خير دليل على أننا أمام سرطان يأبى المشاركة، وكذلك سياسة التهجير التي شهدتها الأرض المحتلة تشير هي بدورها إلى أن الأمر ممنهج ويسير وفق خطوات عقائدية يسعى إليها العلمانيون قبل المتدينين

 يقول هرتزل:" إني أعتبر أن الاضطهاد ضرورة من ضرورات الصهيونية، فاللاسامية فيها بعض عناصر التلهي القاسي والمنافسة التجارية والتعصب الموروث واللاتسامح الديني، ولكنني أجد فيها أيضاً الحاجة الملحة للدفاع عن النفس"وعند التمعن بمغازي هذا الطرح سنصل إلى نتيجة أن الصهيونية تمتلك الاستعداد والمبادرة لنشر الفوضى في كل مكان في العالم ،لتثير وتشيع عقدة الاضطهاد ( اللاسامية)،لتستجلب من خلالها التعاطف والدعم العالمي، وعلى وجه أخص منه التأييد الغربي للإسهام بإنشاء دولة الوعد الإلهي وحمايتها بعد ذلك.

 يُعدّ بن غوريون أول رئيس حكومة للدولة الصهيونية من أهم المنظرين لصهيونية ما بعد هرتزل ، ولعله الأكثر أهمية بإدخاله الصهيونية في مرحلة جديدة ، ابتعدت فيه عن شكل التنظيم البسيط الباحث عن دور ثانوي ، إلى شكل الدولة التي تسعى إلى فرض أجندتها في المنطقة، وبالرغم من الخلفية العلمانية لبن غوريون إلا أن النبوءة الدينية هي الأساس في رسم الوطن في نفسيته ، وهذا ما نستشفه من قوله:" إنّ الصهيونية تستمدّ وجودها وحيويتها وقوتها من مصدر عميق، عاطفي، دائم، مستقل عن الزمان والمكان، وقديم قدم الشعب اليهودي، هذا المصدر هو الوعد الإلهي، والأمل بالعودة".

  وعند جولدا مائير الوطن تمتد جذوره في الحلم التوراتي ،ولا يقبل المشاركة ، فهي لا تعترف بشعب إسمه الشعب الفلسطيني وتصر في مذكراتها على الإشارة بخبث إلى مصطلح اللاجئين العرب وليس الفلسطينيين : "ثم طفت بقطاع غزة الذي كان الفدائيون يشنون منه هجماتهم. وهناك رأيت اللاجئين العرب في حالة مؤسفة من الفقر والحاجة.. أولئك الذين أصر القادة العرب على إبقائهم في خيامهم وحياتهم المهينة لكي يجعلوا منهم قضية سياسية. في حين كان الواجب إعادة توطينهم في أي من دول الشرق الأوسط. وهي دول يتكلمون لغتها ويشتركون معها في التقاليد والدين".

  ونخلص من هذه الإشارة إلى قِدم المخطط الصهيوني الساعي إلى إلغاء حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم التي احتلتها (إسرائيل)، والطرح المبكر ليهودية الدولة من خلال العمل على تذويب الهوية الفلسطينية العربية للأرض المحتلة وطمس أية معالم تشير إلى الوجود العربي في المنطقة.

 ولأن التوراة هي المحرك الأساس لفكرة الوطن في الفكر الصهيوني ، فلن ندهش من التصاق الصهاينة العلمانيون بهذه النبوءة التوراتية ، وهو ما نجده جليا في مذكرات موشيه دايان أثناء زيارته للقدس بعيد احتلالها:"وكان من أسبابي انجذابي إلى هذه المنطقة أنها قد ذكرت كثيرا في التوراة"
 
 أما نتنياهو فلم يبتعد عن المفهوم الذي تبنته الصهيونية لتحديد معالم الوطن الموعود ،فاليهود في نظره فقدوا كثيرا من الخصائص التي تمكنهم من العودة من جديد إلا خصيصة واحدة عليهم التأسيس والبناء عليها لتتحقق النبوءة التوراتية والصهيونية بقيام دولة (إسرائيـل) وهذه الخصيصـة يراهـا نتنيـاهـو فــي الدين اليهودي:" بعد أن فقد اليهود أرضهم وحكومتهم ولغتهم ووزعوا في أنحاء العالم، أصبح الدين الأداة الرئيسة للمحافظة على هويتهم وطموحاتهم القومية " وفي موقع آخر من كتابه "مكان تحت الشمس "ينقل نتنياهوعن أحد الحاخامات قوله:" أن الإقامة في أرض إسرائيل واجب ديني، مكلف به كل إنسان يهودي"وهذا النص وسابقه يوضحان ما تنطوي عليه نفسية نتنياهو من ارتباط وثيق بالوعد التوراتي والنبوءة العقائدية بعودة اليهود إلى (أرض الميعاد).

 والوطــن عـند نتنياهو متحرك غير ثابت حتى تتحقق كامل النبوءة ، ففلسطين التي تربض عليها (إسرائيل ) ليست هي الوطن اليهودي الكامل كما يراه ويحاول الإشارة إليه بوضوح في كتابه السابق : "تمتد الأردن على أربعة أخماس المنطقة التي خصصتها في حينه عصبة الأمم وطنا قوميا لليهود) "وفي موقع آخر من الكتاب ذاته يقول :" لا داعي لتحويل الأردن إلى"  دولة فلسطينية" فقد كانت هكذا منذ يوم ولادتها "، ويفهم من إقحام الأردن في هذين السياقين أن الصهيونية ونتنياهو أحد تلاميذها المخلصين تسعى إلى إلغاء حق العودة للاجئين ، وحل مشكلتهم على حساب الأردن تحت مبرر الأغلبية الفلسطينية ،وهي المعزوفة التي باتت تنظر إليها (إسرائيل)كأحد أهم أوراق المساومة والضغط.

ويقرر في موضع آخر من كتابه يقول : "يجب على إسرائيل أن تحتفظ لنفسها بحق المراقبة الديمغرافية،…كما يجب على إسرائيل أن تحتفظ بسيطرتها على المعابر الحدودية،…ويجب عليها أيضا العودة إلى مبدأ توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأماكن التي يتواجـدون فيها حاليا؛ في جنوب لبنان، سوريا، والأردن، وغيرها،…وأخيرا على إسرائيل أن تبدأ فورا باتخاذ إجراءات كفيلة بضمان وحدة القدس تحت السيادة الإسرائيلية".

ويظهر لنا من رؤية نتنياهو لمفهوم الوطن أن الدولة الصهيونية تحرص على تسويق فكرة الأمر الواقع للوجود الصهيوني على الأرض الفلسطينية ،وأن على العرب أولا والعالم بعد ذلك التأقلم على وجود( إسرائيل) كدولة فاعلة في رسم وجه الشرق الأوسط الجديد ، وفي المقابل يجب على العالم أن يجد حلا للوجود الفلسطيني في الخارج على أن لا يكون ذلك في داخل الدولة الصهيونية ، ويوضح ذلك السعي المحموم لتفريغ المناطق المحتلة من سكانها الأصليين لإقرار مبدأ يهودية الدولة ، لقطع الطريق على الأصوات المطالبة بحق العودة إلى أرضهم المغتصبة.

 

 

 

Exit mobile version