حبيبتنا الجزائر .
بقلم / يحيى أبوزكريا
درجت العادة أن يرويّ الإنسان همومه لأقرب الناس إليه , أن يبثّ لواعجه لوالديه , لإخوته أو أخواته , أو لشريكة حياته .
أما أنا فقد إتخذت قراري بأن أبثّ أحزاني وأتراحي لأمي الجزائر .. وهي بالتأكيد كانت وما زالت ترفض رفضا قاطعا أن نتسكّع في أرصفة المدن المجهولة , و أن نتيه في الشوراع العارية و في المنافي القاتلة ..
لم يك يخطر في ذهني لحظة أن ننأى بأجسادنا عنك , لقد كان أباؤنا يحدثوننا عن عظمة الجزائر و نحن في أرحام أمهاتنا , كان مجرد ذكر إسم الجزائر موجب لسريان قوي لقشعريرة في الأجساد والأرواح , كانت الجزائر ولا تزال حاضنة المظلومين و المقهورين و الرجال و الأفكار العملاقة , فمنذ وجدت الجزائر كانت صنو الشجاعة والإقدام و الحرية و الفكر و الثقافة و الشموخ , كانت الجزائر مهدنا و وسادتنا و ماءنا و كسرتنا و قهوتنا و قصيدتنا و الهواء النقي الذي نتنفسّه صباحا مساءا …
ما زلت أتذكّر ذلك اليوم المشؤوم عندما هممت بمغادرة بيتنا الكائن في مدينة باب الوادي في الجزائر العاصمة قبل أزيد من عقدين من الزمن , نظر إلي الوالد رحمة الله عليه و عيناه تذرفان الدمع وهو يرى أحد أبنائه الناجحين يغادر سقف أسرته , قال لي والدمع في عينيه :
يا يحيى كن رجلا , و إياك أن تنسى الجزائر , فقلت له , يا أبتي .. وهل ينسى الإنسان ذاته وروحه , و هل ينسى الإنسان ثقافته و هويته , وهل ينسى الإنسان عقيدته و إيمانه , إنها الجزائر يا مهجتي , يا أبي , الجزائر التي سجنك الفرنسيون لأجلها في سجن سركاجي الشهير , وعذبوك عذابا نكرا , لأجل أن تنساها , فهل نسيتها يا أبتي و السياط تنهمر على بدنك الضعيف , لقد حولتك سياط الفرنسيين إلى رجل متشددّ في حب الجزائر , وكانت المرة الوحيدة التي غادرت فيها الجزائر , عندما جئت لزيارتي في العاصمة السورية دمشق , حيث أكدت لي مجددا أن الجزائر شيئ و الذين أساءوا إليها شيئ آخر , فالجزائر لا تقاس بمدينة , ولا تقاس بمعاقين ولا تقاس بناموس , إنها كل شيئ ..بفضلك عرفت الكثير عن المجاهدين الجزائريين الذين حرروا الجزائر و طردوا المستعمر الفرنسي البيغض , وما زالت نصيحتك الأولى :
إياك أن تنسى الجزائر عالقة في عقلي وذهني و خلاياي …
ما زلت أتذكرّ عندما فارقت هذه الدنيا و إلتحقت بالرفيق الأعلى , و آخر كلماتك أمامي كانت : أشهد أن لا إله إلا الله , و أن محمدا رسول الله , وتحيا الجزائر ….عندها بكيت عليك بكاء الثكلى على أولادها , و بكيت على الجزائر التي كان أبناؤها أو بعض أبنائها يجزون رقبتها و ينحرونها من الوريد إلى الوريد ….
عشت ردحا من الزمن وأنا أبحث عن وطن , من وطن إلى وطن بحثا عن وطن , سكنت في بيوت عدة في العالم العربي و في أوروبا , لكنها كانت بيوتا خاوية , و الذي ترك داره قلّ مقداره كما يقول المثل الشعبي , فكل المدن التي زرتها كانت عبارة عن محطات مؤقتة , محطات خائنة غادرة , فأحيانا يأتيك القرار من الجهات العليا بضرورة المغاردة بحجة أن مقالاتك تزعج هذه الجهات أو تلك , فتبحث عن قطار جديد يحملك إلى وجهة مجهولة , مع عدد من الأنفس هم أولادي الذين كما أقول لهم دوما :
مرحبا بالذين يذكرونني بمنافيّ , حيث ولد كل واحد منهم في منفى من المنافي …
وحدها الجزائر لا تطالبني بإقامة و تسوية وضع إداري , و ترتيب أوراقي , أو ضرورة المغادرة إذا أزعج فكري هذا أو ذاك , هي وحدها تسمع لأنيني و أوجاعي , لعذاباتي و صرخاتي , و آهات ليلي…
و الآن و مشوار الغربة يدخل عقده الثالث , تظل الجزائر أمامنا و وراءنا , و كلما إمتدّ حزن الفراق , تفاقم حزن الجزائر كثيرا وهي تنظر إلى بحار المنافي تبتلع محبيها و المخلصين لها ولتاريخها وعظمتها , وعلى الرغم من ذلك فهي تناديهم :
عودوا يا فلذات أكبادي , تعالوا إلى حضني الدافئ , و قلبي الواسع فهو يسع الجميع , إلاّ أن هناك من يحول بين الجزائر و أبنائها المخلصين , وهناك من يعمل على التفريق بين الأم العملاقة و أبنائها الغيارى على شرفها و عرضها وناموسها و ثقافتها .
وسوف يأتي اليوم الذي سيندثر فيه هؤلاء المشوهّون الدخلاء على الجزائر , و الذين يريدون إلباسها لباسا غير لباسها , و يصقلونها بثقافة غير ثقافتها , و لسان غير لسانها , سيندثر هؤلاء الدجالون , ونعود إلى أمنا مرفوعي الرأس , سنعود إليها و في أيدينا أمانة الجزائر , و سوف تفرح بنا أمنا إلى أبعد الحدود , لأننا ما غيرنا وما بدلنّا , وما خناّ عهد الجزائر , و عندها تقرّ عين الأم الجزائر , و تقرّ عيون الأبناء العائدين إلى حضن أمهم الذي وسع كل الأحرار و الشرفاء …
يحيى أبوزكريا .