باقة من الورد ورصاصة
خيري حمدان
كنت أحمل باقة من الورد حين صوب فوهة البندقية في وجهي
قلت له:
– دعني أكمل أغنيتي، هذا الطريق يؤدي نحوها.
أشرت بيدي نحو تل صغير يرقد في البعيد. لكن يداي بقيتا تلوحان في الهواء حين انفجرت الرصاصة في أعناق الورد الساذج بين يدي. آه .. يبدو بأن الرصاصة اخترقت قلبي أيضًا. اعذروني، ربما حان الوقت لموت آخر.
* * *
– أعتذر سيدي فأنا عاشق! قلت
قال لي: هل أنت جادّ في المضي حتى نهاية هذه الجنحة؟
أجبته بأنني لن أتنازل عن حقي في ممارسة العشق والجنون!
قال، إذا فلنفتتح الجلسة. كنت ساهما ولم أنتبه لما أدلى به المدعي العام. أخبروني لاحقا بقرار المحكمة. "لا مستقبل لعاشق في هذي البلاد، خاصة إذا كان شاعرا أو يتقن تحسس الجمال! نصحتني المحكمة بمغادرة البلاد وأضاف المدعي العام قائلا: لا تنظر إلى الخلف يا عزيزي، دع الخلق للخالق، واسكب بعض الماء قبل أن تغادر العتبة الأخيرة للمشرق.
* * *
ردّ العاشق على قرار المدعي العام!
سكب قلبه عند العتبة الأخيرة بدلا من الماء وبكى.
اقتطع من كبده قطعة كبيرة وقدمها لحارس الحدود الأخير.
تشبث بما تبقى من نثر الزعتر ثم لثم يد أمه الغائبة الحاضرة ومضى.
لا .. لم يمضِ بعد، تذكر بأنه نسي أن يصلي كعادته في رحاب الشمس الحارقة.
عاد خطوتين نحو الخلف لكن الحارس الأخير دفعه بعيدًا دون تعاطف.
قال العاشق بأنه سيدفع قطعة أخرى من كبده كضريبة!
قال بأن قلبه ذوى ولم يعد قادرا على ضخ الحياة.
لم يتمكن العاشق من الردّ مطلقًا!
حان الوقت لموت آخر.
* * *
ما اسمك يا فتى؟
قلت اسمي ((العاشق!))، هكذا ولدت قبل دهر من الزمن. أعشق النساء حين تختمر أكفّ أيديهن بالحناء، وتدمع أعينهن شوقًا، أعشق دندنتهن عند الطابون وفوق القدر وبئر الماء وحوض الغسيل، أعشق قدرتي على العشق وانحباس مشاعري حين يعبر الربيع على حين غفلة في رحلة العمر، أعشق شرود موج المتوسط بعيدا عن ناظريّ، أعشق حتى ضعفي وخلود الحمام للنوم حين يطرق المطر لفاح الشارع الأسود، أعشق الرياح الخماسينية وقدرة حبيبات رملها الشيطانية الولوج في مسامات جلدي وتحت جفنيّ عابثة بذاكرتي.
* * *
تعقبني حتى حافة الوادي، كنت أرغب بمناجاة خالقي وحيدًا وبعيدًا عن أعين البشر.
ماذا تفعل في البراري يا أغرّ؟
قلت أحاول أن أتوحد.
فأجاب هل نسيت ضريبة الوحدة؟
قلت ألا تكفي ضريبة البقاء حافيا وعاريا يا عزيزي؟
أجاب مندهشًا كيف يمكن أن أكون عزيزَ أحد! .. أنا جلاد.
استلّ سيفه، كان على وشك ضرب رقبتي حين انحلّ رباط سرواله وبانت عورته الكالحة من تحت رداءه الأسود، خجل وهرب بعيدًا عن الوادي وبقيت أنا أناجي ربي كما لا تفعل حتى الملائكة. لم يدرك بأنني عاشق وقادر على اختراق جبل حتى أصل مركز الأرض، أحفرها بشرايين قلبي ذاك الذي تركته عند حدود المشرق. لم يدرك بأن السماء ترشح ماءً لكي تستعيد الشمس عافيتها، وتعود الحياة لباطن الأرض فتنطلق العذارى يركضن نحو المغيب والسحر. دعهن يستحممن بماء الورد ويمشطن شعورهن برجع الهوى عند الأصيل، حان الوقت لربيع جديد.