بقلم : رياض البغدادي
كانت نتيجة حتمية لأنهيار سلطة البعث وسقوط صنمهم في العراق , ظهور بوادر المسيرة الديمقراطية التي توجت بأول انتخابات حرة مارسها الشعب عام 2005 بعد عشرات من سنين الاستبداد السياسي منذ تأسيس الجمهورية العراقية في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي .
ليس من الحكمة والامانه العلمية التأريخية ان ننسب بناء الصرح الديمقراطي في بلدنا الى قوات الاحتلال الامريكي , لانه وبسهولة , ليس من مهمة المحتلين نشر الصروح الديمقراطية في الدول التي يفتحونها , بل انها نتيجة حتمية للانفلات والتحرر الناشئ عن زوال القوة المستبدة التي عزلت الامة عن ممارسة حقوقها السياسية .
ولاجل ان لاينفلت زمام الامور عن سيطرة قوات الاحتلال , سعت هذه الاخيرة الى الاتصال بالزعامات والشخصيات المهمة والمحترمة في المجتمع , للبحث عن صيغة مناسبة لادارة البلد والسيطرة عليه , صيغة , تكون مناسبة لتنفيذ الاجندات التى جاءوا بها , وبالتالي ليس من المهم عندهم الطريقة التي سيتم وضعها لادارة البلد , سواء كانت طريقة ديمقراطية او عسكرية او حتى دكتاتورية ان تطلب الامر ذلك , وهذا مافعلته الادارة الامريكية في العراق , حيث قامت بتأسيس ( مجلس اعيان ) سمته بمجلس الحكم لتوحي أنه هو الحاكم الفعلي , ضمت اليه مجموعة من السياسيين المعارضين لسياسات النظام البائد , ليكون واجهة عراقية تدير البلد ريثما تحدد الطريقة المناسبة التي تساعد على تمرير اجندات امريكا في العراق .
وفجأ ومن دون سابق انذار ظهر في الساحة العراقية الفاعل الرئيسي الذي لم تحسب له امريكا الحساب المناسب .
ليس من الفطنة ان نتصور لامريكا هذه السطحية ان انكرنا حسابها لهذه المفردة بالمطلق , ولكن , لم يكن في الحسبان ان يضعوا في تقديرهم تأثيرا لمن هو محاصر بين اربعة جدران ومعزول عن الامة لعشرات من سنين العزلة المفروضة على منظومة الحوزة الدينية في النجف الاشرف .
قامت الحوزة الدينية المتمثلة بالمراجع الكبار الذين هم بدرجة اية الله عظمى وفق التصنيف العلمي المتبع في حوزات الشيعة العلمية , وبتعاون وتنسيق ادهش الجميع لم يكن متصورا حتى لافراد هذه المؤسسة الدينية , قاموا بوضع خطوط عامة للمسيرة في هذا الظرف الذي تمر به الامة في العراق , وهذه الخطوط بالذات هي الاساس الذي بنيَ عليه الصرح الديمقراطي الذي ينعم به العراق اليوم .
الديمقراطية في العراق لم تكن مِنُة امريكية , بل ان الادارة في واشنطن اجبرت على هذا الخيار , بعد ان فرضتها مواقع القوة في هذا المجتمع التي لم تكن امريكا بمقدورها تجاوزها او تهميشها , والا فالمشروع والاجندات والخطط كلها مهزومة لامحاله .
بالمقابل بحثت امريكا عن بديلها لتمرير هذه الاجندات في ظل " ديمقراطية " عراقية الصنع والتأسيس . وهذا بالضبط مايقلق الشارع العراقي , ويضع امامه الف سؤال وسؤال لاي مبادرة تطرحها الادارة الامريكية لحل المشكلات العراقية , ومن حالة انعدام الثقة بالجانب الامريكي صار تدخلهم مثيرا للشكوك وسوء الظن دائما , وهذه حالة تنذر بنسف اي علاقة تربط العراق بالولايات المتحدة الامريكية في المستقبل , قطعا هذا لم يكن ناشئا عن فراغ , فالشعوب لها بوصلتها الخاصة في توجيه الصداقات والعلاقات , كلنا يعلم ماتقدمه الادارة الامريكية من مساعدات لدعم الاقتصاد المصري وكلنا يعلم مابذلته امريكا من جهود لاعادة سيناء التي مساحتها ضعف مساحة اسرائيل الى مصر وليس خافيا الدعم السياسي الذي تقدمه واشنطن للنظام المصري ومساعيها للحفاظ على الاستقرار في هذا البلد , لكن كل هذا لم يزرع الثقة بأمريكا لدى الاكثرية الساحقة من الشعب المصري .
الشعوب لها بوصلتها في توجيه الصداقات وادارة العلاقات , قلنا , ان هذا لم ينشأ من فراع , بل نشأ من التصادم الذي حصل ولمرات كثيرة بين المطاليب الشعبية في العراق ( والمقترحات ) الامريكية , وليس آخرها التدخل الامريكي السافر في توجيه الانتخابات العراقية بأتجاه يمهد لعودة ( ديمقراطية ) لازلام البعث البائد ( ديمقراطية ) ولكنها مخالفة للقانون .
ولما فشلت او لنقل تعثرت الجولة الاولى لمشروعها بسبب الرفض الشعبي الواسع لمشاركة البعثيين في العملية السياسية , سعت الادارة الامريكية على افراغ الديمقراطية العراقية من محتواها وتحويلها الى ديمقراطية ( مصرية او يمنية ) او حتى اردنية ان توجب التنازل قليلا من امريكا , من خلال زج قوى لاتؤمن بالعمل الديمقراطي الا بالمقدار الذي يوفر السلطة والحكم , وبعدها يكون لكل حادث حديث , فكانت مؤتمرات الحوار التي جمعت الخبراء الامريكيين بالبعثيين السابقين كجزء من مشروع بايدن ( نائب الرئيس الامريكي ) ومن سوء ادارة وغياب الفطنة والحكمة والمعرفة السياسية سارت حكومة السيد نوري المالكي في هذا المشروع من دون الالتفات الى تبعات هذا السير المحموم بحب السلطة والحكم .
الآن وبعد ظهور النتائج الجزئية القريبة من النهائية , توضحت معالم المشروع الامريكي , واكتملت بناه الاساسية التي تتلخص بأضعاف القائمة الملتزمة ( بالخط المرجعي وتوجيهاته في تأمين مصالح الناس ) وذلك بأنسلاخ قائمة ( حزب الدعوة ) وابتعادها عن سرب المرجعية , وبالمقابل تجمعت قوى كانت متفرقة الى وقت قريب , لتصنع قطبية سياسية لم تكن موجودة في المشهد العراقي , توفر ارضية مناسبة لتمرير الاجندات الامريكية التي تأخر تنفيذها كثيرا .
لم يكن الكثير من الكتاب متحمسين لاظهار هذا الجانب المظلم لمشروع السيد نوري المالكي واصراره على شق الصف , لاجل ان لا يضعون انفسهم موضع الشبهات , ولكي لايتهمهم اصحاب النفوس المريضة بممارسة التسقيط للسيد نوري المالكي , وتحددت كتاباتنا في اظهار مواطن الضعف التي تميز بها اداء السيد رئيس الوزراء السابق في ملفات الخدمات والفساد والامن والسياسة الخارجية وغيرها من الملفات التي لانجد صعوبة في اثبات ضعف الاداء فيها لنرفع عن كاهلنا مسؤولية النصح والتذكير .
ترى هل يبقى السيد رئيس الوزراء السابق الاستاذ نوري المالكي مصرا على موقفه في شق الصف وقد أظهرت نتائج الانتخابات المعالم الكارثية لمشروعه السياسي ؟ !
لست متفائلا بما ستظهره الايام القادمة , وما علمناه من تجاربنا السابقة مع المالكي ومنظومته الحزبية لايبشر بخير , وستسير الامور الى مايجبر الائتلاف الوطني العراقي الى تحالفات بعيدة عن المالكي للمحافظة على المكتسبات ولتقليل الخسائر التي ستتكبدها الامة جراء شق الصف الذي تعمده اخواننا ( المنافسين ) وعندها ستزول اجواء الضباب وتستعيد الامة قدرتها في توجيه بوصلتها التي لاتخطأ ولكن ……. لات حين مندم .
Riyadh98@gmail.com