أرشيف - غير مصنف

تركيا وعودة الهوية من البوابة الفلسطينية

 

تركيا وعودة الهوية من البوابة الفلسطينية

                    بقلم:سري سمور-جنين-فلسطين

قامت السياسة الإسرائيلية على إيجاد وتكوين محاور وتحالفات تشتت العرب وتستنزفهم ،وتشغلهم عن القضية الفلسطينية،وقد رسم بن غوريون معالم أحد هذه التحالفات المتمثل بدول إفريقية خاصة أثيوبيا وإيران الشاه وتركيا.

معروف ما جرى في إيران ،واليوم وبشكل لا تخطئه عين ناظره فإن سياسة تركيا الحالية تتجه اتجاها يبدو غير معهود لبلد انتهج خطا علمانيا متطرفا بإدارة عسكرتارية منذ أكثر من ثمانين سنة، هذا الاتجاه تشير بوصلته إلى الشرق ، بعد عقود من الجري وراء الغرب عموما وأوروبا خصوصا،وعلاقات دافئة ومميزة مع إسرائيل.

وحيث أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية في المنطقة وللأمة الإسلامية فإنه يبدو أن تركيا قد دخلت على ، وبتعبير أدق بدأت تعود إلى هويتها الشرقية من خلالها.

في مؤتمر دافوس الاقتصادي ويوم الخميس 29/1/2009م وأمام مرأى ومسمع الملايين في العالم قام السيد رجب طيب أردوغان بتقريع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس،وانسحب وغادر المنصة غاضبا ومحتجا على عدم إعطائه وقتا كافيا للكلام، هذه الحادثة كانت الشرارة التي جعلت تركيا تنتهج سياسة الإدانة وتوجيه انتقادات لاذعة للسياسة الإسرائيلية في كل مناسبة وعلى لسان أردوغان بشكل خاص،ومطلع العام الجاري جاءت حادثة إهانة سفير تركيا في تل أبيب لتصب مزيدا من الزيت على نار التوتر بين أنقرة وتل أبيب ،رغم الإعتذار الإسرائيلي الذي سعت إسرائيل من خلاله إلى نزع فتيل الأزمة المتصاعدة بين البلدين.

وحين نتحدث عن تركيا لا يفوتنا أنها عضو في النادي الأوروبي وسعت بشكل كبير وحثيث لدخول الاتحاد الأوروبي وهي القوة العسكرية الثانية من حيث الحجم في حلف الناتو ،وتربطها بإسرائيل علاقات قوية وصلت إلى حد تدرب الطيارين الإسرائيليين في أجوائها ، عدا عن شراء تركيا لمعدات ووسائل قتالية من إنتاج إسرائيلي.

الرفض الأوروبي المبطن

فلماذا توجهت تركيا نحو الشرق ، وإلى تحسين علاقتها بمحيطها العربي والإسلامي ؟ الجواب يبدو مركبا إلى حد كبير ، فطوال العقود الماضية عاشت تركيا أزمة هوية بين انتمائها لعالم إسلامي حكمته مئات السنين مع بلدان أخرى (البلقان ومناطق في أوروبا) وبين سعيها إلى الغرب وأوروبا كي يتم استيعابها ضمن المنظومة الأوروبية.

جهود تركيا ،إضافة إلى أزمة الحيرة في تعريف الهوية، في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تعثرت وربما فشلت ، حيث أن أوروبا تستبطن الرفض غير المعلن لقبول هذا البلد في منظومتها ، لأسباب ثقافية وديموغرافية،فأوروبا وعلى الأقل في المدى المنظور لا تحبذ فكرة انضمام دولة عدد سكانها 72 مليونا يدين معظمهم بالإسلام،ناهيك عن بضعة ملايين من الأتراك يقيمون في أوروبا خاصة في ألمانيا إلى اتحادها،ولا شك أن تركيا تدرك هذا التفكير الغير معلن صراحة، إضافة إلى المكاسب التركية التي قد تكون أكثر في حال العودة إلى الشرق وتحسين العلاقات مع المحيط العربي والإسلامي .

وحقيقة فإن هذا التوجه ليس وليد هذه الفترة ،فالسيد نجم الدين أربكان رئيس الوزراء السابق عن حزب الرفاه أواخر العقد التاسع من القرن الماضي أظهر صراحة رغبته في التوجه نحو الشرق ، باقتراحه إنشاء «السوق الإسلامية المشتركة» التي تضم إضافة لتركيا دولا مثل ماليزيا ومصر وإيران ونيجيريا، لكن جهود أربكان ورغم مصافحته الشهيرة لديفيد ليفي وزير خارجية إسرائيل آنذاك وعدم تشويشه على الاتفاق الأمني والعسكري بين البلدين ، قد أُجهضت على يد المؤسسة العسكرية التي تعاملت بعنف وشك وريبة مع أربكان وحزبه،وأربكان هو أستاذ أردوغان كما يؤكد المتابعون للشأن التركي.

حزب العدالة والتنمية جاء إلى الحكم بعد تفشي الفساد في مرافق الدولة ، وفشل أو تعثر الجهود للانضمام للإتحاد الأوروبي ، والمزاج الشعبي العام الذي ملّ من تدخل العسكر في شؤون إدارة البلاد ، حتى في التفاصيل الدقيقة ، اتبع سياسة جديدة متسلحا بأغلبية برلمانية مريحة ، تمثلت بالنقد العلني الصريح للسياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني خاصة أثناء الحرب على غزة ، وفتح صفحة جديدة من العلاقات مع العرب، خاصة سوريا ، والتي توترت علاقات الجمهورية التركية بها لدرجة التلويح بالحرب أواخر القرن الماضي وقد حظيت هذه السياسة باستحسان الشارع التركي الذي استقبل السيد أردوغان بعد عودته من دافوس استقبال الأبطال ، وأيضا باتخاذ إجراءات في الداخل للحد من هيمنة العسكر على سياسة الدولة،مثل اقتراحات تعديل الدستور حاليا.

بعيدا عن الشعارات

نقد تركيا لإسرائيل اتسم بالبعد عن الشعارات واتخذ طابعا قانونيا وإنسانيا يستحضر قرارات الشرعية الدولية، مع الحفاظ على العلاقة مع الدولة العبرية بل ولعب دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بينها وبين سوريا، هذه السياسة سهلت على تركيا الحفاظ على دفء العلاقة مع دول عربية،قد تحرجها أمام الغرب أو ربما حتى لا تروق لها سياسة التهديد بإبادة إسرائيل فأصبح أردوغان ضيفا مرحبا به في القاهرة والرياض كما في دمشق، ولم تكن طهران بعيدة عن حسابات السياسة التركية من خلال الرفض التركي الصريح لأي حرب قد تشن على إيران بسبب برنامجها النووي،وبعيدا عن المحاور التي يكثر الحديث عنها في المنطقة فإن لتركيا خطا سياسيا ومنهجا خاصا بها يقبل القسمة على الجميع .

ولم تهمل تركيا الوضع الفلسطيني الداخلي من خلال دعمها لجهود المصالحة وضرورة إنهاء حالة الانقسام، وإعلانها الصريح أنها تقف على مسافة واحدة من قطبي الخلاف في الساحة الفلسطينية.

نظرة العرب لهذا الدور

على المستوى الرسمي رحب العرب بالدور التركي والسياسة الجديدة التي انتهجتها الجمهورية التركية،وعلى المستوى الشعبي كان هناك ومازال تعاطف مع مواقف الأتراك من القضية الفلسطينية .

ولكن هناك جدل يدور في الدوائر الإعلامية والفكرية حول الدور التركي في رسم سياسة المنطقة،وهناك العديد من المقالات والدراسات المنشورة والمداخلات والحوارات التلفزيونية التي تتناول هذا الدور ويمكن القول أن ثمة انقساما وارتباكا وأحيانا تشككا في هذا الدور، لدوافع عدة…

·  هناك من قلل من أهمية السياسة التركية الجديدة واعتبرها بلا فائدة حقيقية وأن الأمر لا يعدو كونه علاقات عامة أو رغبة تركية في لعب دور إقليمي عبر العزف على وتر العاطفة للشعوب العربية من خلال القضية الفلسطينية وهؤلاء يفسرون هذا الزهد في سياسة تركيا بكون الأخيرة تحافظ على علاقتها بإسرائيل وتسعى بجدية للعب دور الوسيط في المفاوضات بينها وبين سوريا ، ولكن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن سياسة تركيا تتدحرج باتجاه اتخاذ مواقف أكثر تشددا مع إسرائيل ، وأنه كان بإمكان الأتراك الحفاظ على علاقة طيبة بالنظام العربي الرسمي دون توجيه النقد لإسرائيل،واتباع السياسة التقليدية بإرضاء الغرب من خلال التقرب من إسرائيل.

·  وهناك من بالغ في وصف الدور التركي وأسقط اعتبارات تاريخية ومذهبية على ما يجري ، كالقول بأن أردوغان هو العثماني الجديد، سليل محمد الفاتح وسليم الأول وسليمان القانوني، وأن تحرير فلسطين واسترجاع القدس سيكون على يديه وأن هناك تنافسا بين إيران باعتبارها صفوية شيعية وبين تركيا باعتبارها عثمانية سنية ، في إسقاط تاريخي ساذج لواقع تغير وظروف اختلفت وسياسات وتحالفات تبدلت ، ولا يستوعب هؤلاء حتى اللحظة ضرورة القفز عن أو تجاوز الخلافات المذهبية والعرقية لما في ذلك من مصلحة عامة للعرب والمسلمين خاصة ، ولبلدان العالم الثالث عامة للتخلص من التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية للقوى الأخرى،في عالم يتكتل رغم ما يفرقه،فيما يدعو هؤلاء إلى الفرقة رغم ما يجمع مكونات الأمة من دين ولغة وثقافة وتاريخ وجغرافيا ومصالح مشتركة.

·    وهناك من غضب من دور ونشاط تركيا في المنطقة العربية وساوى بينه وبين إيران   وطالب بتفعيل دور عربي مواز تقوده هذه الدولة العربية أو تلك،وينقسم هؤلاء إلى فريقين؛ فريق مدفوع بأيديولوجيات قومية وربما مذهبية تحبذ التقوقع في الإطار العروبي ، ناسين  أو متناسين تراجع المشروع القومي العربي لصالح المشروع القطري لكل دوله عربية.

وآخرون(الفريق الثاني) ينظرون إلى الدور التركي الجديد من باب الغيرة والحرقة على حالة الضعف العربي،وعدم قدرة العرب على لجم إسرائيل والوقوف في وجه سياساتها التي بلغت حدا كبيرا من الصلف والعجرفة،ما جعل الإيرانيين والأتراك أصحاب دور أهم من الدور العربي في القضايا الهامة وخاصة القضية الفلسطينية ، ولمشاعر ورأي هؤلاء مبرر ، فالعرب هم قلب المسلمين ، ولغة القرآن الكريم هي العربية والنبي،صلى الله عليه وسلم ،عربي، ومن حمل رسالة الإسلام إلى الأمم الأخرى هم العرب……. لكن سنة الاستبدال ، وقانون اللافراغ في الفيزياء الذي ينسحب على  السياسة والاجتماع لا مفر منه ، ولاشك أن ثمة رغبه جامحة لدى الجماهير بدور عربي أكثر فاعلية لكن انكفاء العرب نحو القطرية ، وعدم إتقانهم استخدام ما بأيديهم من أوراق ضغط هامة،ومشاكلهم الداخلية التي تحولت إلى حروب أهلية كما في السودان واليمن،واحتلال بلد عربي هام مثل العراق وغرقه في النزاعات الطائفية،عوامل تسببت بالحالة التي نراها اليوم ، ولو أن السيد عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية والذي يحظى باحترام ومحبة لدى النخب والجماهير العربية رافق السيد أردوغان وغادر القاعة بعد مصافحته لكان هذا الموقف محل كثير من الترحيب، كانت ستبدو خطوة رمزية ولكنها تحمل إشارات لا يمكن إغفالها.

الدخول للبيوت العربية

لا يقتصر دور الأتراك على التواصل مع الساسة والمؤسسات الإعلامية والأهلية العربية ومنها الفلسطينية،فمؤخرا جاءت الدراما التلفزيونية لتلعب دورا جديدا ، فكان مسلسل «وادي الذئاب» ومؤخرا «صرخة حجر» ، وكلا المسلسلين أثارا احتجاج وغضب إسرائيل ، فالأتراك يدركون دور الدراما وكثرة متابعيها ، فدخلوا إلى بيوت العرب عامتهم وخاصتهم ، ولم يكتفوا باللقاءات مع الساسة والنخب ، وهذه الأعمال الدرامية التلفزيونية تعتبر رافدا للنشاط السياسي والإعلامي الرسمي التركي الناقد حتى  حدود الهجوم على السياسات الإسرائيلية.

ورغم أن هناك من يرى في الأمر مجرد دغدغة عواطف ومرابح مالية من تسويق وبيع هذه المسلسلات لمؤسسات إعلامية عربية لتقوم الأخيرة بدبلجتها فإن هذا الرأي ،ولو كان صحيحا إلى حد ما ، فإنه لا يمنع رسم صورة جديدة لتركيا بل يصل الأمر لنسف الصورة التي رسمتها الدراما العربية نفسها للأتراك خاصة إبان الفترة الأخيرة من حكمهم للبلاد العربية.

 لا ينبغي الإفراط في التفاؤل تجاه الدور التركي الجديد ،فأردوغان وغول وحزب العدالة والتنمية يسيرون على حد السيف فهناك المخاطر الداخلية الكبيرة؛ صحيح أن فكرة الانقلاب العسكري قد تكون مستبعدة ، ولكنها ليست مستحيلة ،كما أن هناك المسألة الكردية التي رغم أن جبهتها هدأت عما كانت عليه سابقا إلا أنها قد تنفجر مجددا وربما بدعم من جهات أخرى ،كما أن إخراج مسألة الأرمن من الدرج تارة أوروبيا ومؤخرا أمريكيا يعتبر أحد العراقيل في طريق قطار السياسة التركية الجديدة.

ويمكننا القول أن طريق تركيا الجديدة التي وجدت هويتها ليست مفروشة بالورود ، ومسألة انتقاد إسرائيل وشن حرب إعلامية عليها ولو كانت مفرداتها مأخوذة من الشرعية الدولية وداعية إلى تحقيق السلام في الشرق الأوسط ، تثير حنق  الإسرائيليين الذين لم ولن يصمتوا وهم كما يعلنون يتابعون ما يجري في تركيا عن كثب ، ولدى إسرائيل القدرة على التشويش ووضع العراقيل وزرع الألغام بحكم تشابك علاقاتها مع أوروبا وأمريكا و…فالرحلة مازالت في بدايتها.

وماذا بعد…؟

أيا يكن فإن لاهتمام تركيا بمحيطها الإقليمي ، وتركيزها على القضية الفلسطينية ونشاطها السياسي والإعلامي وحتى الفني والثقافي تجاه الصراع على فلسطين ، باستحضار تاريخها في المنطقة وباستخدام لغة عصرية ذكية،وسياسة حكيمة حازمة فيها اللين والصلابة في آن معا أعادها إلى حاضنتها الطبيعية أي الشرق ، وهي تربح أكثر في هذا بعد أن خسرت حين حاولت لعقود تقديم كل الأوراق لتنمو أو تنزرع في حاضنة وبيئة أخرى.

وبالتأكيد فإن الجهد التركي والنشاط الذي لا نملك إلا أن نشكرها ونحييها عليه بحاجة إلى جهد عربي داعم ومشجع ومساند،وهناك مؤشرات عربية إيجابية لا بأس بها في هذا الاتجاه،إلا أنها غير كافية ،وما زال الخجل والارتباك ،وأحيانا العاطفة المتحمسة المنفعلة تغلّف التعامل العربي –عموما- مع الدور التركي،فالمطلوب تمتين وتعميق التواصل العربي-التركي وتوظيفه في خدمة القضايا والمصالح المشتركة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

الثلاثاء 7/ربيع الآخر/1431هــ الموافق 23/3/2010م

من قلم/سري سمور

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى