الصاروخ الذي لم يكن يتمتع بأجهزة توجيه، والذي أطلقته "جماعة أنصار السنة" من غزة على إسرائيل، قتل موظفاً تيلاندياً. أما الصواريخ التي أطلقتها إسرائيل منذ أيام، فكانت شظاياها كافية كي تصيب غزة بالشلل والرعب، وتصيب أيضاً عشرات الفلسطينيين بالشظايا؛ ربما لأن الفلسطينيين يتمكنون في بعض الأحيان من مراوغة آلة القتل الإسرائيلية.
ليست هذه هى المأساة المهمة، ولكن هناك مأساة أخرى أصبح على حركة حماس التي تحكم القطاع، أن تشارك فيها بدور البطولة الثاني في فيلم الشر، الذي تبثه بالاشتراك مع إسرائيل. وهي مسألة إيقاف حركة الصواريخ العابرة للتفاهمات السرية بين حماس وإسرائيل. فالطرفان أصبحا- وهما على طرفيّ نقيض- لهما أهداف مشتركة.
حماس تنشئ إمارة إسلامية، وتشارك في فعاليات ومناورات السياسة الإقليمية، وإسرائيل التي تستعدي المجتمع الدولي على الفلسطينيين، وتصوِّر للعالم- وهو أمر حقيقي- أن أى اتفاقات ستبرمها مع الفلسطينيين لينتج عنها دولة فلسطينية؛ سرعان ما ستقع هذه الدولة تحت سيطرة إسلامية متشددة على أقل تقدير، إن لم تكن محطة دولية لتزويد الإرهابيين بالسلاح والمأوى.
وقد اعتبر محمود الزهار القيادي في حركة حماس، أن إطلاق الصواريخ من قطاع غزة عمل مشبوه، يهدف الى إعطاء إسرائيل الفرصة لتصوير نفسها في دور الضحية، بالرغم من أنها تتعرض في الوقت نفسه لانتقادات عديدة من اللجنة الرباعية الدولية؛ بسبب مخالفاتها المتعددة لاتفاقيات حقوق الإنسان، ومسئوليتها كسلطة احتلال.
والغريب أن الصواريخ التى أطلقتها "جماعة أنصار السنة"، وهي إحدى الجماعات التي ظهرت للعلن خلال الشهور القليلة الماضية، قد قدمت خدمة عظيمة إلى إسرائيل التي كانت تضع المجتمع الدولي في أزمة ضمير، كلما حلّقت الطائرات الإسرائيلية في سماء غزة؛ مخافة بعض القتلى والجرحى عقب كل صاروخ يسقط على حافة أراضيها، وتثير رؤيته ذعر الإسرائيليين.
الآن لم يعد المجتمع الدولي يرى في هذه الصواريخ التي تصر الجماعات الإسلامية على إطلاقها، سوى رغبة غير مبررة بالقتل وإحداث الدمار، خصوصا بعد مقتل عامل تايلاندى دون ذنب أو جريرة. وأضاع هذا الصاروخ أرواح آلاف الفلسطينيين الذين حصدتهم آلة القتل الإسرائيلية بلا رحمة. وبحسب الجيش الإسرائيلي، فإن الجماعات الإسلامية المسلحة في غزة أطلقت نحو 150 صاروخا و75 قذيفة هاون منذ انتهاء حرب "الرصاص المصبوب" التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في يناير العام الماضي.
يقول جهاد عودة أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان، عضو لجنة السياسات بالحزب الوطني، إن الجماعات الإسلامية الصغيرة في فلسطين تفتقد إلى مهارة تحديد الهدف وضبط توقيته. فهي تتصور أنها بهذا الشكل تحرج قيادة غزة الإسلامية. وهو أمر صحيح في ظاهره، ولكن الحقيقة أن ممارستهم للجهاد من وجهة نظر حماس يفتقد إلى الحكمة السياسية التى تعتبر الرصاص تعبيرا عن السياسة، وأحد الأدوات التي يمكن أن يشكل عدم إطلاقها فوائد، أعظم من تحويلها إلى أصوات مزعجة، وأضواء غير مؤثرة. فالسلاح له وقته المحدد.
فيما قال عماد جاد خبير الشئون الإسرائيلية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، إن حماس مضطرة إلى أن توجه جزءا من طاقتها العسكرية إلى مثل هذه الجماعات الصغيرة، حتى لا تربك حساباتها التى تتراوح بين المناورات والعمليات ذات التوقيت المضبوط، ليس على مستوى الساحة الفلسطينية فقط ولكن الساحة الإقليمية أيضاً. فإسرائيل وحماس ليستا عدوتين في الفراغ، ولكن لكل منها أجندة سياسية وعسكرية مرتبطة بالسياق السياسي في العالم، وليس المنطقة في حد ذاتها. ولهذا ستجد حماس نفسها مجبرة على أن تقوم بأدوار كانت إسرائيل نفسها الأوْلى بالقيام بها، وهى مقاومة واستئصال الجماعات الإسلامية المتشددة في غزة؛ للدفاع عن نفوذها وسيطرتها على القطاع، وبشكل حاسم، على غرار الأحداث المرتبطة بجماعة "جند أنصار الإسلام".
من جانبها بدأت حركة حماس بالفعل حركة محمومة لمحاصرة كافة القواعد، والجماعات التي تطلق الصواريخ الطائشة وملاحقتها. فقد أصدر أبو عبيدة بن الجراح قائد الشرطة في حكومة حماس في قطاع غزة الملقب بأبي عبيدة، تعليمات إلى مساعديه ومديري المحافظات، يقضي بملاحقة مطلقي الصواريخ، وتقديمهم للتحقيق أمام المباحث العامة وجهاز الأمن الداخلي. ويدعو القرار كذلك إلى عدم إطلاق سراح مطلقي الصواريخ قبل محاسبتهم، باعتبار ما ارتكبوه مخالفات شديدة.
وقد سبق لحركة حماس أن واجهت تحدياً طوال السنوات التى أعقبت عملية الرصاص المصبوب، بعد أن رفضت الجماعات الفلسطينية، خصوصا جماعة الجهاد وقف إطلاق الصواريخ. كما تواجه الحركة تحدياً أصعب بسبب انتشار الجماعات التى تنتمي إلى أفكار السلفية الجهادية التي تنتشر في القطاع بكثرة، وسط انتشار تكنولوجيا تصنيع الصواريخ، وقدرة هذه الجماعات على التزود بالسلاح.
وقد ظهر ذلك في عمليات المواجهة، التي تمت بين هذه الجماعات وبين قوات حماس؛ فقد تم استهداف مقاتلين ينتمون إلى حماس، كما تم استهداف قواتها الرسمية أفراداً ومقارّ وبهجمات بالقنابل. ويؤكد محللون سياسيون أن هذه الجماعات قادرة على تكبيد حماس خسائر على عدة مستويات، منها الأمني؛ لأنها تضعف من مستوى القبضة المحكمة التي تسيطر بها حماس على غزة، والثاني سياسي حين تشتت تركيز حماس في رسم سياستها ما بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، وبعض الدول فى المنطقة. والأخير أخلاقى حين تلاحق من يقاومون الاحتلال الإسرائيلى. وهى نفس التهمة التى كانت تشوه بها حماس حكومة الرئيسين ياسر عرفات ومحمود عباس. خصوصا وأن الجماعات السلفية الفلسطينية تعتبر أن حماس خالفت الإسلام عندما شاركت في الانتخابات الفلسطينية التي دعمتها واشنطن عام 2006 وفازت فيها الحركة.
وقد ظهرت أولى خسائر حركة حماس من عمليات إطلاق الصواريخ، في القرار الذي اتخذته وزارة الخزانة الأمريكية من فرض عقوبات على البنك الوطني الإسلامى، ومحطة تليفزيون الأقصى التابعيْن لحماس، بالرغم من أن الحركة تدّعى أن القرار لم يؤثر عليها. خصوصا وأنها مدرجة على لوائح المنظمات الإرهابية منذ سنوات.
ولكن مصادر أكدت أن القرار ضربة شديدة القسوة بالنسبة للحركة، فالبنك الوطني هو أقرب إلى بنك مركزي حمساوي تحت التأسيس الهدف منه فصل اقتصاد قطاع غزة عن الضفة الغربية كجزء من الفصل التام بينهما على كافة المستويات، أما قناة الأقصى، فهي إحدى الأذرع الإعلامية المهمة للحركة، والتى سوف تتأثر بالسلب من خلال منع وصول الأموال منها إلى مراسليها في الخارج، أو مموليها، فضلاً عن عملية تجميد الأصول كخطوة أولى في سلسلة العقوبات المنتظرة.