من الطفولة إلى المراهقة .. ذكرياتي مع السيد حسن نصر الله
ذكرياتك هي تاريخك الشخصي ، و هي بالمطلق لا تصنع بيانات خارجيّة قابلة للبرهان ، و إلاّ أصبحت تاريخا فعليّا يتحدث عن الزمان ، و المكان ، و الشخوص .. لذلك كان يعجبني توصيف الكاتب الكولمبي ماركيز : التاريخ الحقيقي هو الحياة الروحيّة لـ " شعب ، و ثقافة ، و حضارة " .. هناك شيء آخر نستطيع أن نضيفه إلى ذلك التعريف " الفقر و الحرمان " يكتبان تاريخا متشابها لشخوص مختلفين في زمان ، و مكان مختلفين ، خصوصا عندما لا يتحول الفقير إلى أداة ..كما أنّه يصنع شخوصا عظماء يتركون بصمتهم في " الزمان ، و المكان " .. و هؤلاء الشخوص لا ينتمون إلى سلالات نبيلة ، أو إلى لصوص اغتصبوها بحدّ السيف ثمّ أصبحوا أبناء سلالات نبيلة .. النبي محمد صلى الله عليه ، و سلّم منهم ..الإمام علي ..الشيخ أحمد ياسين ..و حسن نصر الله ..
ذكرياتك عن الطفولة تصبح مليئة بالثقوب كلّما امتدت بك سنوات العمر ..لكنّ " الفقر ، و الحرمان "عندما يلتصقان بها يجعلانها أقرب من تاريخك الحاضر ..و كثيرة هي الأشياء التي تعلق في الذاكرة .. و عندما يكون العقل صفحة بيضاء فإنّ هذه المعاناة تترك ظلالها واضحةً .. و بالنسبة لنا ( جيل ستينيات القرن الماضي ) ..فإنّها حفرت عميقا في الذاكرة ، و الروح ..ثمّ انسحبت على طول حياتنا .. و اسأل أي رجل خمسيني عاش طفولته في " الكارنتينا " ..لتحدّد شكل خارطة الفقر هناك ، و استمر بالسؤال .. رجل آخر ، ثم رجل آخر ..ثمّ آخر .. لترى خطوط الخارطة أمامك بتضاريس الحرمان ، و مقياس شظف العيش .. و عرباتها .. نعم ، و عرباتها .. فعربات الخضرة كانت العلامة الفارقة لكلّ المحرومين الذين تجمّعوا من كلّ لبنان ، و من خارج لبنان ( الفلسطينين ، و السوريين ) في حزام الفقر هذا ، و الذي كان يحاصر كل رفاهيّة بيروت الشرقيّة من اجل لقمة كريمة تغمّست بالدمع ، و العرق ، ثم بـ " الدماء فيما بعد "
الفقر ، و الحرمان هما من جعل عائلتي تحطّ رحالها في هذه " الكرنتينا " ، و هما من جعلتا عربة والدي غير بعيدة عن الدكان الذي اشتراه منذ فترة قريبة السيد عبد الكريم " العم أبو حسن " .. ومنذ عام 1965 ، نسج الفقر ، و الحرمان علاقة طفولتي الفقيرة بـ " بيته ، الفقير جداً" ، و أطفال بيته … و بـ ( بكره " حسن " ) ..و لسنوات طويلة ، و منذ أصبح وجهه مألوفا على شاشات التلفزيون ، و انتشرت صوره في كل مكان .. كانت الذكريات تضغط بشدّة ، و كنت احتفظ لنفسي بذكرياتٍ تثير الدفء ، و الحنان .. و في كلّ مرّة يضع فيها " السيد حسن " بصمة في تاريخنا العربي المعاصر .. كانت الذكريات تصبح أشد سطوعا ، و أكثر قربا ..و لأنّني لم أتحدث لأيّ إنسان بهذه المعرفة فإنني عندما وضعت صورته على حائط بيتي.. و تساءل الأطفال عن هذا الشيخ .. قلت لهم بصوت مفعم بالثقة .. هذا ابن عمي .." الذي لا يزورنا لكثرة مشاغله " كنت أقول " ابن عمي " بزهو ، و خيلاء ، و احتفظ لنفسي بحقّ طفولتي بكل الذكريات .. وحدها والدتي كانت تعرف ( توفي والدي في مطلع تسعينيات القرن الماضي ) ، و كأنّها فهمت الذي أريد .. فتواطأت معي بسرّ المعرفة .. و كانت تقول لأطفالي نعم هو أبن عمّكم ..و ما أظنّها لتنسى ما عاشت بعد ذلك وقفة " السيد أبو حسن " عندما اقعد المرض والدي لمدّة شهر ، و كيف أنّ هذا الوجه الذي يحمل كل ملامح طيبة أهل الجنوب ..كان يطلّ ليضع ما قسمه الله ..و " نحن أهل " كانت هي الرد الوحيد على " حرج والدتي " .. و التي سرعان ما كانت تمسح كل آثار هذا الحرج مشفوعة بابتسامته التي تعطي المعنى " للعطاء " بالذي " قُسم " ، خارج دائرة " المنّ " ، أو الواجب .. و إنّما معنى العطاء لأننا بالفعل " أهل " ..و لأنّ " السيد أبو حسن " هو شقيق والدي ..في واقع الحال كانت هذه حال معظم الجيران في حارة " شرشبوك " أفقر حارات الكرنتينا ، و زواريبها ، حينها فقط تصبح رابطة الفقر ، و الحرمان .. أقوى من رابطة الدمّ ..
الفقر ، و الحرمان ، و الكرنتينا .. بعد وقت قليل من عودتنا من المدرسة ..كنا ننطلق لمساعدة آبائنا في زاروب بيع الخضرة في " النبعة " ..و بمجرد دخول " حسن " إلى دكّان والده .. كنت أجد المبرر للانسحاب من جانب عربة والدي ، و الذهاب إلى هناك .. لم تكن دكّان بكل معنى الكلمة .. كانت الأعمال المؤجلة من الصباح بانتظاره ، و كان يؤديها بانتظام ..لم نكن نختلف عن الكثير من الأطفال في تلك المنطقة " الهيئة .. اللباس ..مظاهر الفقر" ..كنا نختلف فقط بأنّ لباسنا مرتّب رغم أنّه اشبه بالأسمال ، و " رائحة النظافة " ،التي تفوح ، و التي لم يستطع الفقر المدقع أن ينتزعها من " أجسادنا " .. الشيء الوحيد الذي كان يلفت النظر في شبه الدكان هذا .. " صورة السيد المعمم " المعلّقة هناك ..كنت اعرف القليل عنه .. و لكن في كل يوم كنت اسمع السيد عبد الكريم يتحدث لـ " حسن " بشكل بسيط عن آخر المطالبات التي يقوم بها " السيد "، و على الأخصّ مطالبته بتحسين أوضاع " الطائفة " بالكارنتينا ..كان ذلك " موسى الصدر " .. ما إن ينتهي الطفل من ترتيب المحل .. حتى يجلس محدقاً بالصورة .. و ببطء كنت اسحب من فمه بعض المفردات..قبل أن اتركه مستغرقا بالتحديق فيها ، و انسحب نحو عربة والدي " أو بسطته ".. صورة " السيّد حسن " فيما بعد تجاوزت المكان .. و كلّ لبنان لتصبح لازمة على جدران البيوت ، و واجهات المحّال على طول هذا الوطن ، و عرضه .. هذا الوطن الذي أصبح بلا ذاكرة ، و لا تاريخ ، و التي يحاول السيد حسن نصر الله أن يعيدهما ..
عندما كانت " الخالة أم حسن " تقف بفتوّتها بالدكان " كنت اعرف بشكل أوتوماتيكي أنّ " حسن " في البيت ، و إن عبء أشقائه ، و شقيقاته قد أصبح في رقبته .. كنت اعرف أنّ وجود " أم حسن " في المحلّ يعني أنّ عند السيد عبد الكريم عمل ما ينهيه ..إلى أن أصبحت عادتها في مساعدة زوجها ..و مع هذا كنت انسحب من جانب عربة والدي باتجاه ذلك الدكّان.. الوجه العذب الذي يظهر " كصفحة القمر " من ثنايا الحجاب هو ما كان يشدّني .." كان في وجه السيد حسن الكثير من ملامح ذلك الوجه " ، و لمسة الحنان التي تضعها كفّها على كتفي ، أو رأسي كانت تبقى كالرائحة الطيبة .. فقط تمرّ برؤوس أصابعها ..لتنتشر رائحة الدفء ، و التي يستطيع فقط طفل أن يشمّها ، ثم يدمن عليها .." كذلك أصابع السيد حسن ".. و مفردة الترحيب ما زال صداها في أذني بعد هذه السنوات .. فتوّة الجنوبيات هي ما كان يميّز وقفة " الخالة أم حسن في الدكان " و طيبة النساء الجنوبيات ، و حنانهم كأنّما تأصّل في ذينك الكفين اللتان كانتا ترتبان الخضرة .. فتبعث فيها الحياة ، و تصبح أكثر نضرة و أكثر طزاجة ، و بمجرد المقارنة بالبسطات ، و الدكاكين الأخرى .. كنت تحسّ أن الحياة عادت إلى أكوام الخضار المنسّقة بيدي " أم حسن " ، و بشكل رائع .. و هو نفس النظام الذي كنت أراه في بيتهم الفقير الكثير الأولاد .. و كيف تنبعث الحياة في كل الأشياء البسيطة التي تظهر فقرهم ، و بساطة عيشهم . و السحر الآخر كان في انتقال ما يسمى ثياب..و التي كانت تجيد التحايل عليها لتناسب الأصغر" حسين " بعد أن يكون " حسن " قد استثمرها ..أو التحايل على " ثياب زينب " لتناسب أختها " فاطمة " .. كثرة الأولاد لم تكن لتفت في همّتها ، و نشاطها ..بين البيت ، و الدكّان ..كان هناك نظام في كل شيء تقوم به " تقول لي أمي " .. في الحقيقة هو نظام القرويّات اللواتي جئن إلى أحزمة الفقر التي تحيط بـ " بيروت " هروبا مع عائلاتهم من شظف القرى التي كانت تعاني من كل أنواع الفقر ، و التهميش .. و خصوصا قرى الجنوب ..ثمّ لم يجدن إلاّ الفقر ، و الحرمان ، و شظف العيش ، و الركض وراء اللقمة التي لا تكفي الأفواه ، و التي تجعلها البركة تكفي أهل البيت .كانت " عافيتها " مضرب مثل الجارات في شرشبوك و لم تكن بطنها التي أمامها ، و هي في شهرها الأخير .. لتمنعها عن القيام بمساعدة زوجها " السيد أبو حسن ".. و الاهتمام بالبيت ، و الأولاد الذين يزيدون ، و المصائب التي يعاني منها الجيران ، و التي كانت تساهم في حلّها.. قلقها الوحيد أحسست به فيما بعد عندما أصبح "حسن " يقطع المسافة إلى " سن الفيل " ..لم تكن مسافة بالمعنى البعيد للمفردة .. كان اسم آخر قد بدأ يطرق سمعي ..السيد " محمد حسين فضل الله "..و عندما بدا يصل إلى بسطات " برج حمود " كانت " الخالة أم حسن " قد تعودت على الوضع " .. ربّما كانت تحاول تدريب نفسها على التعايش مع القلق الدائم على بكرها " حسن " و الذي ارتبط مع مسيرة حياتها فيما بعد ، و هذا إحساس النساء اللواتي يستشرفن المستقبل ، و يحسسن به.. في عام 2006 ..كنت أرى هذه الصفات في كلّ وجوه النازحات الجنوبيّات إثر العدوان الصهيوني على لبنان ..نظرة الإصرار ذاتها .. الفتوّة ، و الأمل بالمستقبل
كان وعيي للأمور قد وصل إلى حدّ معقول ..و كان حبّه للقراءة قد انتقل بالعدوى لي ..و كتبه التي كان يدخر ليشتريها من بسطات الكتب في ساحة البرج كنت قد قرأت معظمها ، باستثناء الكتب التي كانت عصيّة على الفهم ، و التي كان يشتريها ليقرأها فيما بعد …. كان أكثر نهما مني.. و قد سرقت محبته للقراءة ، و رحلاته اليوميّة إلى المساجد الكثير من هذا اليوم .. و نادرا ما كنّا نراه في الساحات التي كنا نلعب بها .. كانت القراءة من ضمن فواصل يومي .. وعلى حين بقيت ذلك الولد الهاديء المنضبط في عين والديّ ..كان " حسن " مبعث فخر ، و إعجاب في كلام " السيد عبد الكريم " عنه .. و كان اسمه قد بدأ يرتبط بـلقب " السيّد " *حين يناديه .. الفرحة الأكبر كنت تحسّها في حديث " أم حسن " عن بكرها..و ربما كان أن يصبح " السيّد حسن " علاّمةً في الدين هو أقصى ما تحلم به هذه الجنوبيّة البسيطة في مظهرها .. العظيمة في داخلها ، و التي كانت تساعده في حلّ واجباته ، و تقتطع من المصروف اليومي لتجعله يدخر ثمن الكتب..و لكن لم يكن يدر بخلدها أن هذه البذرة كان مقدّراً لها أن تغير مصير هذا البلد الذي يحاصر أهله بالفقر ، و غياب الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة .. و دهس الفقراء بمحدلة الأطماع .. و قتلهم بحرب أهليّة عبثيّة على مطمع السياسة ، و العمالة ، و الأهواء ، و الانتماء العنصري القذر لما يسمّى "طائفة " ، و لـ " رئيس الحزب " ، و لـ " اللصوص " الذين يلتفّون حوله ، و الانتماء لرؤساء العصابات ، و القتلة من أولاد السياسيين الذين كانوا يتحكّمون بمصير لبنان ، و القوى الخارجيّة التي قررت أن يكون لبنان ورقة كل شيء .. من اجل كل شيء ..كما لم يدر بخلدها أنّ هذه البذرة كان لها أن تضع بصمتها في الخطّ التاريخي لهذا الوطن الذي يسمى زوراً ، و بهتانا وطنا عربيّا ، و أن يصبح رمزا " للكرامة ، و العروبة ، و التحرير" .. أمام استكلاب القوى الكبرى على هذا الوطن ، و أمام جبروت هيمنة الكيان الصهيوني على كلّ شيء .. كانت نهايات 1974 قد بدأت .. و كانت نذر الحرب الطائفيّة اللبنانيّة تلوح بالأفق .. حين قرّر " السيد عبد الكريم " أن يغادر حزام الكرنتينا.. لا أحد كان يستطيع أن يقيس مقدار الفقد ..شيء من الروح تخسره ، و قطعة من القلب كنت افقدها عندما كان " السيد عبد الكريم " يضع اللمسات الأخيرة على الشاحنة القديمة التي ستعود بالعائلة إلى البازوريّة .. كانت الحرب قد شمّرت عن ساعديْها ، و كان عليها أن تقرّر مصائرنا فيما بعد ..
*السيد : هو لقب الأشراف ممن ينتمون إلى سلالة عترة النبي عليه ، و عليهم سلام الله
رشيد السيد احمد