أرشيف - غير مصنف
بالأسود الفاحم ، عرب الشرق الأوسط القادم بقلم : محمدعبدالرحمن
أكاد أختلف مع نفسي قبل غيري حول القناعة القائلة باندحار المشروع الأمريكي في العراق . ثمة ما أشترك فيه مع آخرين بإحساس المرارة القاهرة من سريان الخديعة التاريخية على حاضرنا العربي ، هي ليست خديعة بالمعنى الـدّاهم للكلمة ، هي بالأحرى (مشـيئة) غيرية استدراجية مثابرة تشتغل بتؤدة على تغيير الواقع باستخدام ذات عناصره الأولية ، مثلها في ذلك مثل الفنان الذي يعمل بدأب على عجينة الفخار ، فهو لا يخترع عناصرها الأساسية بقدرما يبتدع بها مصيرها الأخير وفقاً لرؤيته الفنية.
في مشغل الشرق الأوسط المعاصر وحيث العمل جار على قدم وساق للإنتهاء من (تحفة) العراق التعددي الديموـ طائفي الفيدرالي الأقاليمي التنوعي الحوزوي المليشيوي العشائري الصحووي ، لا جديد من العناصر الأولية : فهي نفس التراب ، نفس الماء ، نفس النار ، نفس الهواء . هي نفس المواد التي سبق واشتغل عليها قبل حوالي قرن من الزمان الفنان (الإستشراقي) في ذروة عصر الفتوحات (الغربية) . لكنّ الفنان هو الذي اختلف الآن ، الآن هناك فنان (سوبرمان أمريكي) من عصر الفتوحات (الهوليودية) يتصدى للمنجزات الإبداعية التاريخية ، ومثلما آنذاك كانت للمستعمر الإنكليزي ـ الفرنسي رؤيته التي انجلت جيوسياسياً عما صار تالياً يُعرف بالشرق الأوسط بـ (إسرائيله) وأشتات (دوله) العربية فإنّ للغازي الأمريكي (القطب الأعظم) رؤيته التي لا ينفك الآن يشتغل على تجسيدها انطلاقاً من العراق .
في العصر الكولونيالي ـ الإنتدابي كان القضاء على مفهوم (الخلافة الإسلامية) على رأس قائمة الأهداف الإستعمارية الغربية ، وفي عام (1916) بدأ الإشتغال الإنكليزي ـ الفرنسي على خارطة الإمبراطورية العثمانية بمقص اتفاقية سايكس ـ بيكو (كوسيلة) استعمارية لتمزيقها وتقاسم إرثها العربي ـ الإسلامي بين هؤلاء (الفاتحين) الطامعين ، لكن (وعد بلفورـ1917) كشف عن أهم وأخطر وأعظم الغايات التاريخية لسايكس ـ بيكو : تخليـق إسـرائيل .
هكذا ، ومنذ ذلك الحين وجد العرب أنفسهم كما لو أنهم محض أرقام حسابية مبعثرة في دوامة معادلة جبرية متغيرة سوف لن تخلص في عام (1948) إلى ما سيساوي اللقيطة الصهيونية بل وفي إطار هذه المعادلة ستتواصل التفاعلات على مختلف الصعد والأشكال والهيئات ، ستتوالد الأحزاب التحررية بصبغاتها المتعددة من إسلامية إلى علمانية وتستعر الحركات القومية وستقوم الإنتفاضات الشعبية وتتسارع خطى الثورات المحلية ، ستتهاوى (عروش) وتقوم (جمهوريات) وتنعقد مجالس قيادات (الثورات) لتلاوة أوائل البيانات الثأرية والتوعّدية ، وتحت شعار(فلسطين عربية فلتسقط الصهونية) ستتوالى الإنقلابات وتستشري مؤامرات الذات على الذات حتى إذا ما وصلنا إلى عام (1967) سنشهد واحدة من كبريات الهزائم العربية الشمولية أمام الصنيعة الإستعمارية التي لن تعمل حرب تشرين (1973) فصاعداً عربياً رسمياً سوى على (شرعنة) وجودها وتكريس هيمنتها وتبرير شهيتها التوسعية وترجيح كفتها الجيوسياسية الستراتيجية على حساب الأمن القومي العربي في ميزان هذه المعادلة الخارقة للمنطق الحسابي بنظرياته الجبرية وتطبيقاته التفاضلية وتحليلاته التكاملية .
قد يبدو ما تقدم إيجازاً مغالياً في تجنـّيه على همّة الإردات الوطنية والروح القومية العربية في مواجهة التحديات المصيرية ، قد يبدو وكأنه ضرب من ضروب الجلد الذاتي ، إذا ما كان هذا صحيح ، فالصحيح أيضاً : أنه يستقيم الى حد كبير والفكرة القائلة بـتغلب (المشيئة) الغيرية على أرادة الممانعة الذاتية طوال هذه الحقبة الممتدة على مسافة قرن من الإستلاب الغربي للإنسان العربي ، وبكلام آخر فإنّ ما نحن نعيشه الآن من تاريخ عربي معاصر يكاد يكون صناعة غربية في طور (التطور) من إستشراقية إلى (هوليودية) من حيث أن العرب الحاليين في مخيال (السوبرمان) الأمريكي هم غير عرب (لورانس بريطانيا العظمى) قبل غروب شمسها الإستعمارية ، وهذا ما يصل بنا إلى راهن الحالة العراقية كنموذج (للمبدع ) الأمريكي في سعيه الدؤوب لتصنيع القادم من التاريخ العربي ، وهنا بالضبط مكمن مصيبة المصائب الكبرى ، فمقارنة بين الرؤية الإستشراقية والرؤية (الهوليودية) للمصائر العربية قد تبدو الأولى (جنـة) فيما لا تكفي مفردة (الجحيم) كتوصيف للثانية. وإذا ما كان جنرالات الأولى قد جاؤونا (محررين) لا (فاتحين) لينتهوا بنا إلى (دول) مبعثرة تتوسطها الغولة إسرائيل فإنّ جنرالات أمريكا قد جاؤونا (مبشرين ديمقراطيين) لكي ينتهوا بنا إلى (دويلات) طائفية ومذهبية وعرقية مجهرية قـِبلتها وقطب رحاها (كعبة إسرائيل) بوصفها المثيولوجي العقائدي عند صهاينة البيت الأبيض .
والآن ، وكما في ماضي المشيئة الغربية الإستعمارية الجبرية ، فإنّ لأرباب المشيئة الأمريكية القهرية الحالية أدوات الحاضرلإبتداع المستقبل العربي ، لديهم الورش والعناصر الأولية العربية (المحلية) ومختلف المفردات (الوطنية) المطلوبة للإشتغال على إعادة إنتاج التاريخ العربي بالمواصفات الصهيو ـ أمريكية الجديدة ، فثمة هناك العقلية العربية (المتأمركة) التي تجاوزت في فنون اجتهادها (التنويري) ونضالها (التبشيري) حتى شطحات وبلاوى ومصائب تلك العقلية العربية (الإستشراقية) . هنالك من هذا القبيل العربي المتأمرك أحزاب (عهرو ـ وطنية) برمتها ومنظمات وحركات (سوبرديمقراطية !) بعينها ومؤسسات ثقافية (ما بعد حداثوية) بكليتها وأقلام عولمية ارتزاقية تفصح جميعها (بوظيفتها) التخريبية عن عقلية اغترابية أكثر عدوانية وساديـّة على عروبتها وانتماءها الحضاري من مصادرها الأصلية الماوراء أطلسية .
ولعل في تفاصيل المشهد العراقي ما لا فحسب يرشدنا إلى ملامح المستقبل العربي بل ويدلنا على كوامن القصور الذاتي قدر تعلق الأمر بها كعوامل وعناصر جوهرية تؤسس لهذا المستقبل . فعندما تمكنت جيوش (الديمقراطية) الأمريكية الغازية من بغداد (عاصمة الخلافة العربية ـ الإسلامية ) فإنها وضعت نصب أعينها كهدف ستراتيجي شطب دولة عراق سايكس ـ بيكو مبنى ومعنى عن آخرها ، وإذا ما كان (المبنى) العراقي قد تكفلت به آلة الدمار الأمريكية الغاشمة فإنّ (المعنى) العراقي قد أنيطتْ مهمة تدميره بالوكلاء والمقاولين والتجار المحليين من أحزاب الخراب الوطني والتفكيك الإجتماعي والإرتداد الدوني ـ المذهبي ـ العرقي ـ الطائفي ـ القــَبـَلي إلى ما قبل عصر الدولة باعتبارها الأدوات والعناصر الأولية اللازمة لتصنيع (الكيانات) العراقية الجديدة (كمثابة) للأنطلاق إلى شرق أوسط آخر لن يكون بأي حال امتداداً طبيعياً لتجليات الرؤية (الإستشراقية) بخرائطها وكياناتها القائمة منذ العصر الإنتدابي الغربي ، فما خلا (إسرائيل بلفور) التوسعية ما من مكان لنتائج (سايكس ـ بيكو) العربية الراهنة في مخيال (المشيئة) الأمريكية . هنالك الآن وصفة جيوسياسية جديدة في طريقها إلى التنفيذ ، وفي ورشة العراق ها هو (الفنان) الأمريكي لا يعدم حبة رمل (محلية) إلا ويزجها في هذا المشروع (الإبداعي) ، فابتداءً من بدعة (مجلس الحكم الإنتقالي ) التحاصصية وليس انتهاءً بفكرة (مجالس الصحوة) العشائرية (أيضاً التحاصصية) ثمة تحفة نموذجية عراقية تتشكل . ومع أنّ سبعة أعوام من الإحتلال الأمريكي للعراق لا تعني الكثير في حسابات التاريخ إلا أنها أثمرت حتى هذه اللحظة عمّا تستحق أن نصفها بالخلاقة من معطيات سايكولوجية وثقافية وسياسية وديموغرافية لا يصعـُب تصور المستقبل العراقي الذي سيقوم على أساسها بفضل قوى وأحزاب التغيير التي تسير وراء (المشيئة) الأمريكية نحو ما قد يجعل من التقسيم الطائفي والعرقي للعراق (نصراً) للجميع ما دام البديل الآخر هو الضياع الكلي في أتون الحرب الأهلية العدمية !.
وبالعودة إلى خرائط سايكس ـ بيكو فإن عملية تجسيدها على الأرض العربية كانت قد استغرقت حوالي نصف قرن من الصراع بين إرادة التغيير الغربية وإرادة الممانعة العربية القومية لتنتهي إلى الراهنة من كيانات الإستقلال الوطني كاستحقاقات للإنتفاضات والثورات الشعبية المحلية على مخططات الإستعمار الغربي . بمعنىً مّا فإنّ ما يُعدّ انتصاراً عربياً على مؤامرات ومغامرات العقل الإستشراقي ـ الكولونيالي خلص في الواقع إلى تكريس (المشيئة) الغربية فوق الأرض العربية على هيئة ما صار يُسمّى (الشرق الأوسط) بكياناته العربية المتخلفة المتفـرقة وإسرائيله الموحدة المتفوقة ! . أما اليوم وحيث أنّ لإرادة التغيير الإمريكية الغاشمة بوسائلها المحلية خططاً أخرى للشرق الأوسط إنطلاقاً من مشروعها العراقي التدميري التقسيمي فإنّ إرادة (الممانعة أو المقاومة) الوطنية العراقية بروحها العربية القومية المناهضة لهذا المشروع تواجه تحدياً مصيرياً بشيوع وطغيان ثقافة المحاصصة إلى الحد الذي قد تصبح معه بدعة فدرلة العراق (أي تفكيكه) خياراً وخلاصاً عقلانياً موضوعياً تفرضه مصالح الإنتماء النكوصي إلى الحواضن والمحميات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية !.
والآن : ما هي فقرات تصنيع التاريخ القادم للشرق الأوسط إذا لم تبدأ من هذا العجب العجاب الذي شهده ويشهده العراق منذ اجتياحه إلى تدمير مؤسساته إلى شرائع (بريمره) إلى (مجلس حكمه) التحاصصي الدّوار إلى برلمانه الديموـ طائفي إلى (دستوره الفدرالي الأقاليمي) العتيد إلى مليشياته إلى (صحوة) عشائره إلى قوانين (لامساءلته ولاعدالته) إلى خليط اصطفافاته الحزبية الموسمية (الإنتخابية) على وفق المشيئة الأمريكية الإستدراجية في سياق الهروب الجماعي الوفاقي إلى الأمام الإفتراقي؟!.
ازاء ما تقدم ، وبهذه الوتيرة ، فليس من الصعب علينا تصور ما قد يؤول إليه مستقبل الكيانات العربية القائمة بعد بضعة عقود من الزمان ، وهذا ما يعيدنا إلى (آرشيف الخرائط التفتيتية) الصهيونية التي ما برحت منذ خمسينات القرن العشرين تتراكم وتتعدل على وقع الهزائم العربية الرسمية وانسجاماً مع التحوّل الدراماتيكي للفكرة القومية العربية من حالة الهجوم على خرائط سايكس ـ بيكو إلى حالة التكيف مع نتائجها إلى حالة الدفاع عنها في متوالية التقهقر أمام ما لم يملأ فراغها ويتقدم ويترسخ من مفهوم (الدولة) العربية القــُطرية بشروطها العصرية بقدر ما راح المفهوم الأخير بدوره ونتيجة لعجزه الذاتي قبل الموضوعي يتضعضع ويتراجع ثمّ ليتصدع بزلزال أمريكا في العراق ، فإذا بنا تالياً نقف أمام مفارقة الإنحسارين (القومي والقــُطـري !) لتبدأ جيوش المدّ الطائفي والمذهبي هجومها الكاسح لبسط قيمها وتعاليمها الظلامية على العقلية العربية كما تشتهي المشيئة الصهيو ـ أمريكية .
والحال هذه ، وبعد نظرة استشرافية متأملة في الخريطة العربية بعراقها المشرذم ويمنها المتهاوي وسودانها المقسم وغزتها المعزولة وضفتها الغربية المأكولة ولبنانها المتطيف ومصرها المكبلة ، أقول بعد نظرة تأملية في الخريطة العربية من محيطها المأزوم حتى خليجها الملغوم .. لم يبق لي سوى أن أردد مع الخالد محمود درويش :
عربٌ أطاعوا رومهـم
عربٌ وباعوا روحهم
عربٌ .. وضـاعـــــوا