أرشيف - غير مصنف
في نيسان الفلسطيني…بذل وعطاء وشهادة
محمود كعوش*
"في شهر نيسان نستذكر أرواح قادة كبار سقطوا بفعل الإرهاب الصهيوني ليشهد هذا الشهر على نازية وفاشية الكيان العنصري اللقيط الذي قام على أنقاذ فلسطين قبل 62 عاماً. في هذا الشهر نستذكر أرواح القادة الشهداء عبد القادر الحسيني، كمال عدوان، أبو يوسف النجار، كمال ناصر، خليلالوزير "أبو جهاد"، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي والمئات المئات غيرهم من القادة والكوادر والمناضلين الفلسطينيين. في هذا الشهر نستذكر كل شهداء فلسطين والوطن العربي من المحيط إلى الخليج الذين قضوا بفعل الإرهاب الصهيوني والاستكبار الأميركي."
عندما يدرك المفكر أو الكاتب أو الإعلامي العربي أن النظامالرسمي العربي قد بلغ من العجز والتخاذل مداً بات معه من المتعذر لَمَ شمل الحكام العرب في قمة الحد الأدنى من التضامن العربي أو المراهنة عليهم في اتخاذ قرار التصدي عملياً أو لفظياً لغطرسة الإرهاب الصهيونيوالاستكبار الأميركي المُتصلين في الوطن العربي عامةً وفلسطين والعراق خاصة، يُصبح منحقه لا بل من واجبه الوطني والقومي أن يُبقي يده متحفزة على"زناد" قلمه تماماً كمايُبقي المقاتل العربي يده متحفزة على زناد بندقيته، ويظل هذا كما ذاك في حالة استنفاردائمة، تمكنه من الدفاع عن قضايا الأمة وتدوين الصفحات تلو الصفحات من السيرالذاتية الأسطورية لشهداء القضية الأبرار الذين تساقطوا ويتساقطون زرافاتٍ ووحدانا نتيجة هذاالإرهاب الإجرامي الذي عادة ما يتخندق وراء ذلك الاستكبار الجهنمي وتوثيقها وحفظهافي"موسوعة الشهادة والاستشهاد"، لتسهل مهمة انتقالها من جيل عربي إلى جيل عربي آخردون تزييف أو تزوير أو تدليس.
ولا أعتقد أن هناك فارقاً أو تبايناً يُذكر بين المفكر أو الكاتب أو الإعلامي العربي من جهة والمقاتل العربي من جهة أخرى في هذا الصدد، طالما أن كليهما مُعرضانللشهادة والاستشهاد في كل لحظة وطالما أنهما يحملان نفس الرسالة ويتبنيان نفسالعقيدة ويدافعان عن نفس القضية ويقاتلان من أجل نفس الهدف. ولربما أن الفارق أو التباينالحقيقي والوحيد بين الاثنين هو في نوعية السلاح الذي يحمله كل منهما والذخيرة التي يحشو بها كل منهما هذا السلاح!! ولا أذكر أن هذا الفارق أو التباين قد شفع في يوم لمفكر أو كاتب أو إعلامي عربي دون مقاتل عربي أو لمقاتل عربي دون مفكر أو كاتب أو إعلامي عربي في مواجهة غطرسة الإرهاب الصهيوني والاستكبار الأميركي على مدار العقود الزمنية الستة الأخيرة!!!ولقد تجلت هذه الحقيقة بوضوح في الساحتين الفلسطينية والعراقية أكثر من غيرهما في الساحات العربية الأخرى.
فكم من العقول والأقلام والرموزالثقافية العربية وبالأخص الفلسطينية قد استهدفها الإرهاب الصهيوني، مثلما استهدف المقاتلينوالكوادر والقادة السياسيين والعسكريين!! وهل من مرة واحدة ميز فيها هذا الإرهاب أو فرّق بينالمسلحين والمدنيين العُزل، أو بين الأطفال الرضع والنساء والشيوخ، الأصحاءوالمقعدين منهن ومنهم؟ ألم يستهدف السياسيين والعسكريين من شعب الجبارين في كل مكان وزمان دون ما تمييز أو تفريق؟ وألم يستهدف الحجر والشجر والحرثوالزرع والنسل وباطن الأرض وأديمها والماء والهواء وكل البحر والفضاء في فلسطين؟وألم يحول كل هذه منفردة أو مجتمعة إلى أهدافٍ عسكرية استراتيجيةٍ لجيشه وعصاباتهوآلة بطشه وجبروته وفاشيته بدعوى وزعم " الضرورات والمقتضيات الأمنية" للكيانالصهيوني العنصري القائم فوق ثرى فلسطين منذ عام 1948، بمنطق القوة ودبلوماسيةالبوارج والقاذفات الصاروخية!!؟
في عصر الانبطاح العربي هذا الذي يوغل فيهالإرهاب الرسمي الصهيوني، تحت مظلة الاستكبار الأميركي الذي دخل اختطافه غير الشرعيللعراق عامه الثامن، في ارتكاب جرائمه البشعة والنكراء ضد الفلسطينيين خاصة والعربعامة، أقبل علينا شهر نيسان هذا العام بكل ما حملته جعبته واختزنته ذاكرته من قوافلالشهداء الفلسطينيين الأبرار الذين سقطوا على مدار العقود الستة الماضية من عمرالاغتصاب الصهيوني لفلسطين.وهل بين الفلسطينيين في الوطن والشتات من نسي أوغاب عن باله ولو للحظة واحدة مسلسل المجازر والمذابح وعمليات الاغتيال التي ارتكبهاجزارو وسفاحو الكيان الصهيوني بحق شعب فلسطين على المستويين الجماعي والفردي فيأعوام وشهور تلك العقود وبالخصوص الشهور النيسانية!!؟ومَن مِن هؤلاءالمظلومين والمضطهدين دائماً وأبداً دون إثم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه غير حب الوطن والوفاء له قدنسي أو غاب عن خاطره ولو لبرهة قصيرة أو لمحة بصر خاطفة جرائم عصاباتي "شتيرن" و"الهاغاناة" وغيرهما من العصابات الصهيونية الإرهابية المنظمة وغير المنظمة قبلنكبة عام 1948 الكبرى وأثناء وبعد حدوثها وصولاً إلى عصر الانحطاط والردة هذا،وبالأخص جرائم رجال جهاز الموساد التي ارتكبت بحق الفلسطينيين الأبرياءفي شتات الداخل والخارج؟
مجازر ومذابح بربرية تجاوزت حدود الإبادة الجماعيةوجرائم اغتيال جماعية وفردية لا أخلاقية ولا إنسانية كبيرة لا حصر ولا وصف لها إلافي قواميس التتار والمغول والنازيين ارتكبها الجزارون والسفاحون الصهاينة بحقالفلسطينيين خاصة والعرب عامة منذ عهد الإرهابي بن غوريون وصولاً إلى عهد الإرهابيالحالي بنيامين نتانياهو، مروراً بعهود كل من تعاقبوا على السلطة اللقيطة في تل أبيب من كبارالإرهابيين الصهاينة. شلالات من الدماء الفلسطينية الطاهرة سفكها الإرهاب الرسميالصهيوني الإجرامي على مدار 62 عاماً من الاحتلال القهري المستمر.مسلسل دمويصهيوني بغطاء استكبار أميركي ما تزال حلقاته تتواصل حتى اللحظة الراهنة، يتقاطع معمسلسل دموي آخر يعيش العراق حلقاته الجهنمية المستمرة أيضاً على أيدي المحتلينالأميركيين والبريطانيين الأفاكين للعام الثامن على التوالي.
ببلوغنا منتصف شهرنيسان الجاري ترانا كما في نيسان من الأعوام السابقة نعيش أيامه بكل ما تستدعيه منمستلزمات التأمل والاستنفار وما تفترضه من متطلبات الحيطة والحذر، لما لها وماعليها من مخاطر وتبعات سلبية محتملة. ونحن بدورنا نرى أنفسنا مدفوعين بل مندفعينتلقائياً ومن باب الوفاء لإنعاش ذاكرتنا باسترجاع شريط تلك المجازر والمذابح وجرائمالاغتيال التي دفع فيها الشعب الفلسطيني من دمه الذكي والغالي الكثير الكثير من أجل أرضهالمباركة وقضيته المقدسة، جراء صنوف وأنواع الإرهاب الصهيوني التي مورست ضده ولمتزل تُمارس حتى أيامنا هذه. ونحن نعيش هذه الأيام بحلوها ومرها، نستذكر القسطلودير ياسين وفردان وسيدي بوسعيد والسارة وغيرها الكثير، ونستذكر أرواح الشهداءالأبرار الذين سقطوا في شهور نيسانية مماثلة اصطُلح على تسميتها فلسطينياً شهورالبذل والعطاء والشهادة والاستشهاد من أجل الشرف والكرامة وحرية الأرض والإنسان،لكثرة الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا خلالها وبالأخص على المستويات القيادية. ونستذكر أرواح الشهداء عبد القادر الحسيني وكمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصروخليل الوزير "أبو جهاد" والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والعقيد طيار محمد درويشوالعقيد طيار غسان ياسين والمهندس طيار ثيودوروس جيورجي. نستذكر أرواح ثمانية عشرشهيداً أبت أرواحهم إلا أن تهاجر من الأرض الفلسطينية المحتلة لتعانق روح "أميرالشهداء" يوم وصلت يد الغدر الإرهابي الصهيوني إلى جسده الطاهر في العاصمةالتونسية، وتُزف معها في عرس شهادةٍ ما بعدها شهادة. نستذكر أرواح هؤلاء الذينقالوا للكيان الصهيوني لا وألف لا، لن تموت جذوة الانتفاضة المباركة مع اغتيال "أمير الشهداء". نستذكر أرواح الشهداء الثلاثة الذين قضوا دفاعاً عن "الأمير" والقضية، مصطفى وحبيب التونسي وأبو سليمان.
ولكي أجنب نفسي إحتمال الوقوع في النسيانوحتى لا يؤخذ علي مأخذ "التجاهل المتعمد لا قدر الله" أو أرزخ تحت طائلة لوم نفسي قبل لوم الآخرينلي، أرى أن من العدل والإنصاف استذكار أرواح كل الشهداء الفلسطينيين والعرب الذينوصلتهم يد الغدر الصهيونية والأميركية والبريطانية خلال شهور نيسان والشهور الأخرىوعلى مدار عقود الصراع العربي ـ الصهيوني الطويلة وأعوام أسر العراق السبعة. لكن ضرورات اختصار الحديث عن هذا الشهر اللعين يستدعي مني التوقف فقط عند رموز قياديةٍ كبيرةٍومميزة كان شغلها الشاغل وهمها الأول الحفاظ على وحدة الصف الفلسطيني من أجل خدمةالقضية المقدسة ولم تفكر ولو للحظة عابرة بتقديم "الأنا" أو المصلحة الذاتية أوالحركية على المصلحة الوطنية الفلسطينية والمصلحة القومية العربية، استهدفهاالإرهاب الصهيوني في شهور نيسانية لعينة سابقة.
فالحديث عن القائد الشهيد عبدالقادر الحسيني يعيدنا بالذاكرة إلى الوراء 62 عاماً. الحديث عن هذا القائد الكبير يعيدنا إلى تاريخ استشهادهفي معركة القسطل في 8 نيسان 1948، ويعيدنا أيضاً إلى أيام بالغة الظلمة والسواد،أفرطت خلالها عصاباتا "شتيرن" و"الهاغاناة" الإرهابيتان في عدوانهما النازي والفاشيضد المواطنين الفلسطينيين لغرض ترحيلهم والاستيلاء على أراضيهم، فارتكبتا منالمجازر والمذابح الجماعية ما لم يُعد ولا يُحصى وما يندى لها جبين الإنسانية. ومنبين تلك المجازر كانت مجزرة دير ياسين التي حدثت في 9 و10 من ذات الشهر والعاموالتي اغتال الصهاينة الأنذال فيها جميع أبناء البلدة إلا من نجا منهم بأعجوبة ، فيواحدةٍ من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية .
والتوقف عند 10 نيسان 1973 يذكرنابذلك اليوم الذي تمكن فيه الإرهاب الصهيوني النازي بواسطة مجموعات مجرمة تابعةلجهاز "الموساد" من اغتيال ثلاثة من القادة الفلسطينيين الكبار في شارع فردان فيقلب العاصمة اللبنانية بيروت هم كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر. لقد كان الشهيد القائد كمال عدوان واحداً من أهم وأبرز الإعلاميين إن لم يكن أهمهموأبرزهم. وكان الحريص الدائم على أن تتعانق الكلمة الحرة مع البندقية الحرة. رأىالعالم من خلال القضية الفلسطينية، وكان القائل، وصَدَقَ قوله، "حتى تكون قومياًوحتى تكون أممياً لا بد أن تكون فلسطينياً أولاً". أتقن فن الثورة ودرب الآخرين علىإتقانه وممارسته. أصدر جريدة "فتح" من قلب المعركة عندما تطلبت الضرورةذلك. وكان الشهيد القائد أبو يوسف النجار فقد كان "السهل الممتنع" في مرونته وتصلبه، وكان شعاره الثابت والدائم "الحق أولاً والمبدأ أولاً". ومثل أبو يوسف النجارنموذجاً لجيلٍ فلسطينيٍ كاملٍ عَبَرَ عنه بنقاء ثوري أصيل. أما الشهيد القائد كمال ناصر"ضمير الثورة" الذي أحبه جميع الثوار كما أحبهم، إذ كان لحركة فتح كما كانلجميع فصائل المقاومة الفلسطينية. كان أديباً وشاعراً ومفكراً، وكان إنساناً بكلمعاني الإنسانية النبيلة. حبّب القتال إلى قلوب الجماهير فأصبحت الجماهير الحاضنالأمين والحُضن الآمن والدافئ لفكر المقاومة وممارساتها. وكان حريصاً على الوحدةالوطنية الفلسطينية وعمل من أجلها. سُمي "ضمير الثورة" لما مثّله من قاسمٍ فكريٍوسياسيٍ مشتركٍ بين جميع فصائل المقاومة، مع تعدد نزعاتها الفكريةوالسياسية.
وما من أحد عرف أمير الشهداء القائد الرمز خليل الوزير"أبو جهاد" إلاواحترمه وأحبه، وأنا كنت واحداً من هؤلاء وهم كُثر جداً في الأوساط الفلسطينيةوالعربية والإسلامية. فما أقوله أنا وغيري عن الأمير الشهيد القائد لا يُمثل جزءاًيسيراً مما اتصف به من نُبل وعُرف عنه من أخلاق حميدة ومسلك مُشرف. ولا أبالغ حينأقول أنني مهما اخترت له من الصفات النبيلة والكريمة والإنسانية الشائعة والجديدةلن أوفيه بعض ما استحقه في حياته وما يستحقه في مماته، وهو أكثر بكثير.
لقد كان "أبو جهاد" قائداً بكل معاني الكلمة، وما أحوجنا لأمثاله وأمثال إخوانه الذينعاصروه وقضوا قبله وبعده في الأيام العصيبة والظروف الدقيقة والخطيرة التي مرتبها القضية الفلسطينية وكل قضايا الأمة الوطنية والقومية. وصلت يد الإرهاب الصهيونيالمجرم إلى جسده الطاهر في 16 نيسان 1988 فاغتالته مع ثلاثةٍ من مرافقيه بعد معركةٍغلب عليها طابع الغدر في ضاحية سيدي بوسعيد التونسية. ويوم اغتال الكيانالصهيوني الشهيد الكبير الذي سُميت باسمه "دورة الانتفاضة" للمجلس الوطني التي انعقدت فيمدينة الجزائر في تشرين الثاني 1988، اعتقد أنه بذلك الاغتيال تمكن من اغتيالالانتفاضة المباركة، لكن وفاء أبنائها للقائد والقضية التي قضى من أجلها زادالانتفاضة اشتعالاً وتوهجاً، إلى أن جاءت "أُوسلو" اللعينة فاغتالتها بالإنابة.
أما القائد السابق في قطاع غزة الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، فقد وصلتإليه يد الغدر والإجرام الحاقدة عندما قصفت الطائرات الحربية الصهيونية أميركيةالصنع مساء 17 نيسان 2004 سيارته، فعانقت روحه الطاهرة أرواح جميع شهداء فلسطينالأبرار الذين سبقوه. حدثت جريمة اغتيال الرنتيسي بعد 25 يوماً فقط من جريمة اغتيالملهمه وقدوته المغفور له الشيخ أحمد ياسين الذي سقط في حينه مع اثنين من مرافقيههما الشهيدان أكرم نصار وأحمد الغرة. ومسيرة القائد الرنتيسي المميزة نسخة مشرفة عنمسيرة ملهمه وقدوته، تجعلنا هي الأخرى أعجز من أن نذكر كل صفاته ومآثره الكريمة فيكلمات أو سطور قليلة. وكلا الرجلين، القائد والقدوة، حرصا على الوحدة الوطنيةالفلسطينية وعملا وقضيا من أجلها ومن أجل وحدة الشعب والأرض والقضية، ولربما أنه لوكتب لهما أن يحيا أطول لما حدث ما حدث، ولما كان ما كان، ولما وصل الحال إلى ما وصلإليه، ولما فُرض على قطاع غزة أن يدير ظهره للضفة الغربية وقلبها مدينة القدسالمباركة ويتباعد عنهما.
اقتصار حديثي على ستة فقط من القادة الرموز الكبار فيمسيرة النضال والاستشهاد الفلسطينيين وفي مسيرة الوحدة الوطنية الفلسطينية لا يقللأبداً من شأن وقيمة الشهداء الأبرار الآخرين. فكلهم شهداء القضية النبيلة، من أصغرطفل رضيع وامرأة وشيخ مسن حتى أكبر قائد فلسطيني، وكلهم تتمزق قلوبنا ألماً وحسرةًعلى فراقهم . فقوافل سبقت وأخرى تنتظر والعطاء مستمر. لكن "نيسانية" الموقف افترضتالتوقف عند هؤلاء القادة للتدليل على فيض العطاء الفلسطيني، بانتظار وقفات أخرىقادمة. إنه قدر فلسطين وشعبها أن يُلازمهما على الدوام حصادٌ دموي"نيسانيٌ" يعقبه حصاد بعد حصاد. مسلسل من الحصاد الدموي المستمر والمتواصل. فالإرهاب الصهيونيبشتى أشكاله وصوره الهمجية والمقززة مستمر ومتواصل، وشلال العطاء الفلسطيني من أجلالأرض والإنسان والقضية بشتى أشكاله وصوره النبيلة والمشرفة مستمر ومتواصل بغزارةهو الآخر. ولنا في كل يوم وأحياناً كثيرة في كل ساعة أو لحظة شهيد بل عشراتالشهداء، و"موسوعة الشهادة والاستشهاد" التي استوجبتها النكبة الكبرى لتخليد الدمالفلسطيني الطاهر تبقى مشرعة الأبواب ومفرودة الصفحات لاستقبال سير جديدة لكواكب منالشهداء الجدد ينضمون إلى إخوان ورفاق لهم سبقوهم إلى شرف الشهادة، إلى أن تتمالعودة ويتحقق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة ويعترف العالم كله بالمدينة المقدسةعاصمة لها.رحم الله كل شهداء فلسطين والأمتين العربية والإسلامية. والحديث عنالشهداء والشهادة والاستشهاد متواصل، طالما أن العطاء الفلسطيني متواصل.
ولا أعتقد أن هناك فارقاً أو تبايناً يُذكر بين المفكر أو الكاتب أو الإعلامي العربي من جهة والمقاتل العربي من جهة أخرى في هذا الصدد، طالما أن كليهما مُعرضانللشهادة والاستشهاد في كل لحظة وطالما أنهما يحملان نفس الرسالة ويتبنيان نفسالعقيدة ويدافعان عن نفس القضية ويقاتلان من أجل نفس الهدف. ولربما أن الفارق أو التباينالحقيقي والوحيد بين الاثنين هو في نوعية السلاح الذي يحمله كل منهما والذخيرة التي يحشو بها كل منهما هذا السلاح!! ولا أذكر أن هذا الفارق أو التباين قد شفع في يوم لمفكر أو كاتب أو إعلامي عربي دون مقاتل عربي أو لمقاتل عربي دون مفكر أو كاتب أو إعلامي عربي في مواجهة غطرسة الإرهاب الصهيوني والاستكبار الأميركي على مدار العقود الزمنية الستة الأخيرة!!!ولقد تجلت هذه الحقيقة بوضوح في الساحتين الفلسطينية والعراقية أكثر من غيرهما في الساحات العربية الأخرى.
فكم من العقول والأقلام والرموزالثقافية العربية وبالأخص الفلسطينية قد استهدفها الإرهاب الصهيوني، مثلما استهدف المقاتلينوالكوادر والقادة السياسيين والعسكريين!! وهل من مرة واحدة ميز فيها هذا الإرهاب أو فرّق بينالمسلحين والمدنيين العُزل، أو بين الأطفال الرضع والنساء والشيوخ، الأصحاءوالمقعدين منهن ومنهم؟ ألم يستهدف السياسيين والعسكريين من شعب الجبارين في كل مكان وزمان دون ما تمييز أو تفريق؟ وألم يستهدف الحجر والشجر والحرثوالزرع والنسل وباطن الأرض وأديمها والماء والهواء وكل البحر والفضاء في فلسطين؟وألم يحول كل هذه منفردة أو مجتمعة إلى أهدافٍ عسكرية استراتيجيةٍ لجيشه وعصاباتهوآلة بطشه وجبروته وفاشيته بدعوى وزعم " الضرورات والمقتضيات الأمنية" للكيانالصهيوني العنصري القائم فوق ثرى فلسطين منذ عام 1948، بمنطق القوة ودبلوماسيةالبوارج والقاذفات الصاروخية!!؟
في عصر الانبطاح العربي هذا الذي يوغل فيهالإرهاب الرسمي الصهيوني، تحت مظلة الاستكبار الأميركي الذي دخل اختطافه غير الشرعيللعراق عامه الثامن، في ارتكاب جرائمه البشعة والنكراء ضد الفلسطينيين خاصة والعربعامة، أقبل علينا شهر نيسان هذا العام بكل ما حملته جعبته واختزنته ذاكرته من قوافلالشهداء الفلسطينيين الأبرار الذين سقطوا على مدار العقود الستة الماضية من عمرالاغتصاب الصهيوني لفلسطين.وهل بين الفلسطينيين في الوطن والشتات من نسي أوغاب عن باله ولو للحظة واحدة مسلسل المجازر والمذابح وعمليات الاغتيال التي ارتكبهاجزارو وسفاحو الكيان الصهيوني بحق شعب فلسطين على المستويين الجماعي والفردي فيأعوام وشهور تلك العقود وبالخصوص الشهور النيسانية!!؟ومَن مِن هؤلاءالمظلومين والمضطهدين دائماً وأبداً دون إثم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه غير حب الوطن والوفاء له قدنسي أو غاب عن خاطره ولو لبرهة قصيرة أو لمحة بصر خاطفة جرائم عصاباتي "شتيرن" و"الهاغاناة" وغيرهما من العصابات الصهيونية الإرهابية المنظمة وغير المنظمة قبلنكبة عام 1948 الكبرى وأثناء وبعد حدوثها وصولاً إلى عصر الانحطاط والردة هذا،وبالأخص جرائم رجال جهاز الموساد التي ارتكبت بحق الفلسطينيين الأبرياءفي شتات الداخل والخارج؟
مجازر ومذابح بربرية تجاوزت حدود الإبادة الجماعيةوجرائم اغتيال جماعية وفردية لا أخلاقية ولا إنسانية كبيرة لا حصر ولا وصف لها إلافي قواميس التتار والمغول والنازيين ارتكبها الجزارون والسفاحون الصهاينة بحقالفلسطينيين خاصة والعرب عامة منذ عهد الإرهابي بن غوريون وصولاً إلى عهد الإرهابيالحالي بنيامين نتانياهو، مروراً بعهود كل من تعاقبوا على السلطة اللقيطة في تل أبيب من كبارالإرهابيين الصهاينة. شلالات من الدماء الفلسطينية الطاهرة سفكها الإرهاب الرسميالصهيوني الإجرامي على مدار 62 عاماً من الاحتلال القهري المستمر.مسلسل دمويصهيوني بغطاء استكبار أميركي ما تزال حلقاته تتواصل حتى اللحظة الراهنة، يتقاطع معمسلسل دموي آخر يعيش العراق حلقاته الجهنمية المستمرة أيضاً على أيدي المحتلينالأميركيين والبريطانيين الأفاكين للعام الثامن على التوالي.
ببلوغنا منتصف شهرنيسان الجاري ترانا كما في نيسان من الأعوام السابقة نعيش أيامه بكل ما تستدعيه منمستلزمات التأمل والاستنفار وما تفترضه من متطلبات الحيطة والحذر، لما لها وماعليها من مخاطر وتبعات سلبية محتملة. ونحن بدورنا نرى أنفسنا مدفوعين بل مندفعينتلقائياً ومن باب الوفاء لإنعاش ذاكرتنا باسترجاع شريط تلك المجازر والمذابح وجرائمالاغتيال التي دفع فيها الشعب الفلسطيني من دمه الذكي والغالي الكثير الكثير من أجل أرضهالمباركة وقضيته المقدسة، جراء صنوف وأنواع الإرهاب الصهيوني التي مورست ضده ولمتزل تُمارس حتى أيامنا هذه. ونحن نعيش هذه الأيام بحلوها ومرها، نستذكر القسطلودير ياسين وفردان وسيدي بوسعيد والسارة وغيرها الكثير، ونستذكر أرواح الشهداءالأبرار الذين سقطوا في شهور نيسانية مماثلة اصطُلح على تسميتها فلسطينياً شهورالبذل والعطاء والشهادة والاستشهاد من أجل الشرف والكرامة وحرية الأرض والإنسان،لكثرة الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا خلالها وبالأخص على المستويات القيادية. ونستذكر أرواح الشهداء عبد القادر الحسيني وكمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصروخليل الوزير "أبو جهاد" والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والعقيد طيار محمد درويشوالعقيد طيار غسان ياسين والمهندس طيار ثيودوروس جيورجي. نستذكر أرواح ثمانية عشرشهيداً أبت أرواحهم إلا أن تهاجر من الأرض الفلسطينية المحتلة لتعانق روح "أميرالشهداء" يوم وصلت يد الغدر الإرهابي الصهيوني إلى جسده الطاهر في العاصمةالتونسية، وتُزف معها في عرس شهادةٍ ما بعدها شهادة. نستذكر أرواح هؤلاء الذينقالوا للكيان الصهيوني لا وألف لا، لن تموت جذوة الانتفاضة المباركة مع اغتيال "أمير الشهداء". نستذكر أرواح الشهداء الثلاثة الذين قضوا دفاعاً عن "الأمير" والقضية، مصطفى وحبيب التونسي وأبو سليمان.
ولكي أجنب نفسي إحتمال الوقوع في النسيانوحتى لا يؤخذ علي مأخذ "التجاهل المتعمد لا قدر الله" أو أرزخ تحت طائلة لوم نفسي قبل لوم الآخرينلي، أرى أن من العدل والإنصاف استذكار أرواح كل الشهداء الفلسطينيين والعرب الذينوصلتهم يد الغدر الصهيونية والأميركية والبريطانية خلال شهور نيسان والشهور الأخرىوعلى مدار عقود الصراع العربي ـ الصهيوني الطويلة وأعوام أسر العراق السبعة. لكن ضرورات اختصار الحديث عن هذا الشهر اللعين يستدعي مني التوقف فقط عند رموز قياديةٍ كبيرةٍومميزة كان شغلها الشاغل وهمها الأول الحفاظ على وحدة الصف الفلسطيني من أجل خدمةالقضية المقدسة ولم تفكر ولو للحظة عابرة بتقديم "الأنا" أو المصلحة الذاتية أوالحركية على المصلحة الوطنية الفلسطينية والمصلحة القومية العربية، استهدفهاالإرهاب الصهيوني في شهور نيسانية لعينة سابقة.
فالحديث عن القائد الشهيد عبدالقادر الحسيني يعيدنا بالذاكرة إلى الوراء 62 عاماً. الحديث عن هذا القائد الكبير يعيدنا إلى تاريخ استشهادهفي معركة القسطل في 8 نيسان 1948، ويعيدنا أيضاً إلى أيام بالغة الظلمة والسواد،أفرطت خلالها عصاباتا "شتيرن" و"الهاغاناة" الإرهابيتان في عدوانهما النازي والفاشيضد المواطنين الفلسطينيين لغرض ترحيلهم والاستيلاء على أراضيهم، فارتكبتا منالمجازر والمذابح الجماعية ما لم يُعد ولا يُحصى وما يندى لها جبين الإنسانية. ومنبين تلك المجازر كانت مجزرة دير ياسين التي حدثت في 9 و10 من ذات الشهر والعاموالتي اغتال الصهاينة الأنذال فيها جميع أبناء البلدة إلا من نجا منهم بأعجوبة ، فيواحدةٍ من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية .
والتوقف عند 10 نيسان 1973 يذكرنابذلك اليوم الذي تمكن فيه الإرهاب الصهيوني النازي بواسطة مجموعات مجرمة تابعةلجهاز "الموساد" من اغتيال ثلاثة من القادة الفلسطينيين الكبار في شارع فردان فيقلب العاصمة اللبنانية بيروت هم كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر. لقد كان الشهيد القائد كمال عدوان واحداً من أهم وأبرز الإعلاميين إن لم يكن أهمهموأبرزهم. وكان الحريص الدائم على أن تتعانق الكلمة الحرة مع البندقية الحرة. رأىالعالم من خلال القضية الفلسطينية، وكان القائل، وصَدَقَ قوله، "حتى تكون قومياًوحتى تكون أممياً لا بد أن تكون فلسطينياً أولاً". أتقن فن الثورة ودرب الآخرين علىإتقانه وممارسته. أصدر جريدة "فتح" من قلب المعركة عندما تطلبت الضرورةذلك. وكان الشهيد القائد أبو يوسف النجار فقد كان "السهل الممتنع" في مرونته وتصلبه، وكان شعاره الثابت والدائم "الحق أولاً والمبدأ أولاً". ومثل أبو يوسف النجارنموذجاً لجيلٍ فلسطينيٍ كاملٍ عَبَرَ عنه بنقاء ثوري أصيل. أما الشهيد القائد كمال ناصر"ضمير الثورة" الذي أحبه جميع الثوار كما أحبهم، إذ كان لحركة فتح كما كانلجميع فصائل المقاومة الفلسطينية. كان أديباً وشاعراً ومفكراً، وكان إنساناً بكلمعاني الإنسانية النبيلة. حبّب القتال إلى قلوب الجماهير فأصبحت الجماهير الحاضنالأمين والحُضن الآمن والدافئ لفكر المقاومة وممارساتها. وكان حريصاً على الوحدةالوطنية الفلسطينية وعمل من أجلها. سُمي "ضمير الثورة" لما مثّله من قاسمٍ فكريٍوسياسيٍ مشتركٍ بين جميع فصائل المقاومة، مع تعدد نزعاتها الفكريةوالسياسية.
وما من أحد عرف أمير الشهداء القائد الرمز خليل الوزير"أبو جهاد" إلاواحترمه وأحبه، وأنا كنت واحداً من هؤلاء وهم كُثر جداً في الأوساط الفلسطينيةوالعربية والإسلامية. فما أقوله أنا وغيري عن الأمير الشهيد القائد لا يُمثل جزءاًيسيراً مما اتصف به من نُبل وعُرف عنه من أخلاق حميدة ومسلك مُشرف. ولا أبالغ حينأقول أنني مهما اخترت له من الصفات النبيلة والكريمة والإنسانية الشائعة والجديدةلن أوفيه بعض ما استحقه في حياته وما يستحقه في مماته، وهو أكثر بكثير.
لقد كان "أبو جهاد" قائداً بكل معاني الكلمة، وما أحوجنا لأمثاله وأمثال إخوانه الذينعاصروه وقضوا قبله وبعده في الأيام العصيبة والظروف الدقيقة والخطيرة التي مرتبها القضية الفلسطينية وكل قضايا الأمة الوطنية والقومية. وصلت يد الإرهاب الصهيونيالمجرم إلى جسده الطاهر في 16 نيسان 1988 فاغتالته مع ثلاثةٍ من مرافقيه بعد معركةٍغلب عليها طابع الغدر في ضاحية سيدي بوسعيد التونسية. ويوم اغتال الكيانالصهيوني الشهيد الكبير الذي سُميت باسمه "دورة الانتفاضة" للمجلس الوطني التي انعقدت فيمدينة الجزائر في تشرين الثاني 1988، اعتقد أنه بذلك الاغتيال تمكن من اغتيالالانتفاضة المباركة، لكن وفاء أبنائها للقائد والقضية التي قضى من أجلها زادالانتفاضة اشتعالاً وتوهجاً، إلى أن جاءت "أُوسلو" اللعينة فاغتالتها بالإنابة.
أما القائد السابق في قطاع غزة الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، فقد وصلتإليه يد الغدر والإجرام الحاقدة عندما قصفت الطائرات الحربية الصهيونية أميركيةالصنع مساء 17 نيسان 2004 سيارته، فعانقت روحه الطاهرة أرواح جميع شهداء فلسطينالأبرار الذين سبقوه. حدثت جريمة اغتيال الرنتيسي بعد 25 يوماً فقط من جريمة اغتيالملهمه وقدوته المغفور له الشيخ أحمد ياسين الذي سقط في حينه مع اثنين من مرافقيههما الشهيدان أكرم نصار وأحمد الغرة. ومسيرة القائد الرنتيسي المميزة نسخة مشرفة عنمسيرة ملهمه وقدوته، تجعلنا هي الأخرى أعجز من أن نذكر كل صفاته ومآثره الكريمة فيكلمات أو سطور قليلة. وكلا الرجلين، القائد والقدوة، حرصا على الوحدة الوطنيةالفلسطينية وعملا وقضيا من أجلها ومن أجل وحدة الشعب والأرض والقضية، ولربما أنه لوكتب لهما أن يحيا أطول لما حدث ما حدث، ولما كان ما كان، ولما وصل الحال إلى ما وصلإليه، ولما فُرض على قطاع غزة أن يدير ظهره للضفة الغربية وقلبها مدينة القدسالمباركة ويتباعد عنهما.
اقتصار حديثي على ستة فقط من القادة الرموز الكبار فيمسيرة النضال والاستشهاد الفلسطينيين وفي مسيرة الوحدة الوطنية الفلسطينية لا يقللأبداً من شأن وقيمة الشهداء الأبرار الآخرين. فكلهم شهداء القضية النبيلة، من أصغرطفل رضيع وامرأة وشيخ مسن حتى أكبر قائد فلسطيني، وكلهم تتمزق قلوبنا ألماً وحسرةًعلى فراقهم . فقوافل سبقت وأخرى تنتظر والعطاء مستمر. لكن "نيسانية" الموقف افترضتالتوقف عند هؤلاء القادة للتدليل على فيض العطاء الفلسطيني، بانتظار وقفات أخرىقادمة. إنه قدر فلسطين وشعبها أن يُلازمهما على الدوام حصادٌ دموي"نيسانيٌ" يعقبه حصاد بعد حصاد. مسلسل من الحصاد الدموي المستمر والمتواصل. فالإرهاب الصهيونيبشتى أشكاله وصوره الهمجية والمقززة مستمر ومتواصل، وشلال العطاء الفلسطيني من أجلالأرض والإنسان والقضية بشتى أشكاله وصوره النبيلة والمشرفة مستمر ومتواصل بغزارةهو الآخر. ولنا في كل يوم وأحياناً كثيرة في كل ساعة أو لحظة شهيد بل عشراتالشهداء، و"موسوعة الشهادة والاستشهاد" التي استوجبتها النكبة الكبرى لتخليد الدمالفلسطيني الطاهر تبقى مشرعة الأبواب ومفرودة الصفحات لاستقبال سير جديدة لكواكب منالشهداء الجدد ينضمون إلى إخوان ورفاق لهم سبقوهم إلى شرف الشهادة، إلى أن تتمالعودة ويتحقق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة ويعترف العالم كله بالمدينة المقدسةعاصمة لها.رحم الله كل شهداء فلسطين والأمتين العربية والإسلامية. والحديث عنالشهداء والشهادة والاستشهاد متواصل، طالما أن العطاء الفلسطيني متواصل.
أنتهى المقال……