رحل رجل المواقف المبدأية… ناهض الريس وداعاً
بقلم: زياد ابوشاويش
عندما دعانا الرجل إلى بيته في منطقة الزاهرة بدمشق لتناول طعام الغداء على شرف أحد القادمين من قطاع غزة قبل اكثر من خمسة عشر عاماً كان أبو منير لا يزال على فتحاويته دون انحياز لهذا الطرف أو ذاك بعد أن أصبحت حركة فتح في لجة الانقسام منذ منتصف عام 1983، ورغم كل المغريات بمكانة مميزة لدى الذين تمردوا على قيادة فتح وكانوا في البدء أغلبية التنظيم سواء في لبنان وسوريا أو في باقي الأقاليم، ورغم وجوده في سورية لسنوات طويلة إلا أنه رفض ذلك رغم قناعته بأن هؤلاء المنشقين كانوا على حق في معظم ملاحظاتهم واعتراضاتهم على سياسة الراحل عرفات ومن بقي في صفه من اللجنة المركزية، ويعود السبب الرئيسي في موقف أبو منير لكون هذه الحركة المتمردة والانتفاضية مدعومة من سورية وليبيا وبدت أمام الفلسطينيين كما لو كانت صناعة هذه الدول رغم أن الحقيقة غير ذلك.
ناهض الريس المواطن الفلسطيني الذي بقي حتى آخر يوم في حياته متمسكاً بالمقاومة ومنافحاً عن مشروعيتها في مواجهة اتفاق أوسلو التفريطي بذل كل ما يملك من جهد للبقاء ممسكاً بمباديء ومنطلقات حركته فتح، هذه المباديء والمنطلقات التي مثلت مع إطلاق الرصاصة الأولى أهم دعامات البناء الفتحاوي العتيد، وجمعت حول الحركة الرائدة جموع الشعب من كل الأطياف والمنابع الفكرية، وقد فقدت قسماً رئيسياً منها بتوقيع اتفاق أوسلو والعودة غير الميمونة للداخل تحت سلطة الاحتلال ورقابته اللصيقة.
عاد ناهض الريس وفي ذهنه أن ساحة الصراع ربما تتيح لأمثاله فرصة التفوق بما يحملون من قيم وإرادة على تمثل هذه القيم، لكن الواقع كان أقوى فعمد الرجل للابتعاد عن المواقع القيادية والوزارة وغيرها من إفرازات اتفاق كان هو شخصياً يرفضه بشدة.
من يعرف الشهيد ناهض لابد قد شعر بالدهشة من قبوله الانخراط في لعبة أوسلو وهو الموقف الذي كان المرحوم والرجل الكبير حيدر عبد الشافي قد اتخذه بالانخراط في الانتخابات التشريعية كأحد تبعات الاتفاق المشؤوم وفي ظنه أيضاً انه يستطيع من خلال مؤسسة شعبية أن يعدل الوضع، وحين عجز غادر المضمار وتبعه ناهض الريس على ذات المبدأ ونفس التقييم والمقاربة لواقع السلطة في ظل اتفاق أوسلو.
إن تعديل الموقف من جانب الرجل الصادق والمستقيم وإن تأخر قليلاً إلا أنه أعاد الأمور إلى نصابها بالنسبة لمحبي هذا الرجل ومريديه وهم كثر.
منير الريس الذي لم يكن يفصل بين سلوكه الشخصي كإنسان وسلوكه كشخصية عامة مثل نموذجاً محترماً للقائد الفلسطيني الحريص على تقديم كل ما يملك من طاقة وإمكانيات من أجل قضيته الوطنية، فعمل حيث تسمح له الظروف وقدراته على تأهيل الشبيبة والأطفال من أبناء شعبه اللاجيء لتحمل مسؤولية المواطنة والعمل لاستعادة حقنا في وطننا.
كان أديباً وشاعراً ومفكراً عمل حتى رحيله لكي يرسخ مفاهيم النزاهة الوطنية والبقاء على الأسس التي قامت من أجلها حركة فتح وفي رأسها اعتبار إسرائيل دولة طارئة على المنطقة ويتوجب قتالها تحت كل الظروف. وفي أسوأ فترات الانقسام الفلسطيني لم تقده فتحاويته للانقلاب على احترامه للحق والعدل والقانون حين قام بتفنيد ادعاءات زملائه في رام الله بما يخص شرعية الرئيس عباس والمجلس التشريعي والتمديد وغيرها من القضايا الفقهية موضع النقاش والخلاف بين حركتي فتح وحماس، وظل على مبدأيته وولائه لقيمه وما عرف عنه من أخلاق ونزاهة.
يغادرنا أبو منير والفلسطينيون يواجهون حملة شرسة من جانب العدو تهدف لاقتلاعهم من وطنهم ، وفي نفس اليوم الذي يبدأ فيه سريان القرار العسكري الصهيوني بإبعاد عشرات الآلاف من أبناء شعبنا في الضفة المحتلة خارج وطنهم وكأن وفاته ترمز لرفضه ومقاومته لهكذا قرار جائر وعنصري.
ناهض الريس لا يمكن للمرء أن يعلم برحيله دون كلمة وداع، ورغم تعطل يدي اليمنى بسبب مرض النقرس اللعين منذ يومين والآلام الحادة التي تجتاحني بسببه وبسبب وعكة صحية ألزمتني أمس الأول غرفة العناية الفائقة بمشفى فلسطين باليرموك إلا أن وفاة أخينا وحبيبنا أبو منير أرغمتنا على التحامل لتوديعه وهو الرجل الذي علمنا جميعاً كيف يكون الوفاء للقيم والمباديء وكذلك ما جرى مع المناضل والصديق العزيز حمزة يونس في الجزائر وقصته مع السفارة الفلسطينية هناك.
أخي ناهض ستبقى على الدوام رمزاً لكل ما هو صحيح ونقي في شعبنا وسيظل اسمك كما أبيك الفلسطيني الكبير والمعلم الأول علماً من أعلام فلسطين الكبيرة والخفاقة والمشرفة ونعدك بالوفاء للمثل والمباديء التي مثلتها، ولأسرتك الكريمة ولشعبنا الفلسطيني في كل مكان خالص العزاء…تغمد الله الفقيد بواسع رحمته… وإنا لله وإنا إليه راجعون.