أرشيف - غير مصنف

قديماً قالوا :- إلك اللحم وإلنا العظم

يوسف جمل

فيما مضى من سنوات ليست بالبعيدة كان المصطلح ( الموقف ) الدارج في ورقة التفاهم والأساسيات ما بين البيت والمدرسة هو ( إلك اللحم وإلنا العظم ) .
المصطلح الذي يعني تقاسم الشركاء شراكتهم على نحو يبني الثقة والدعم وذلك باكتفاء البيت وأولياء الأمور بالعظم وتخليهم عن اللحم للمدرس والمدرسة .
رحم الله أيام زمان لما كنا نوكل قتل ونفرق .
مين كان يستجري أو يسخى يروح يشكي .
مين كان يمر في الشارع ويصادفه المعلم ولا يحسب للغد ألف حساب !
يرحم أيامك يا طابور الصباح  !
انتظم … أسبل ..!
استرح … استعد …!
قيام … جلوس …!
زمن أول تحول !
وليس هذا تصريح صريح بتأييدي للعقاب البدني أو رفضه ولا بأساليب التربية القديمة وطرق التدريس التقليدية عن سواها ولكن منه أنطلق إلى مقصدي في المقارنة مع الماضي الذي تخرج على يد معلميه رجال حملوا مشاعل الفكر والنهضة والعلم وأحسنوا حملها .
ورغم كل الظروف المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وقلة الموارد وأوضاع المدارس الصعبة وشح الورق والحبر والكتب وعدم توفر كل الوسائل التعليمية السمعية والبصرية وكل الطرائق والسبل والخطط التعليمية وضيق العيش في بيت كله عبارة عن غرفة واحدة قديمة تجمع وتحوي كل أفراد العائلة الكثيرة الأفراد وبظروف قاسية وعدم توفر الماء والكهرباء والتدفئة أو التهوئة التي كانت بالطرق البدائية . هذا إلى جانب الأمراض وعدم توفر العلاج وعدم استقرار الحالة الصحية لدى جميع العناصر في المجتمع البدائي الأول .
رغم كل هذه الظروف برز على مر الحقب الزمنية المختلفة الغابرة رجال حملوا لواء العلم والفكر والأدب وخلفوا لنا تراثا وميراثا ما نزال نعتبره مرجعيتنا في الفقه والعقيدة , في التفسير والحديث والنحو والصرف والعلم والأدب والطب والجغرافيا وغيرها .
رجال لم يكن يشغل بالهم الألقاب أو المردود أو المناصب بقدر ما كان يدفعهم حب العلم والرسالة المقدسة التي استشعروها ووعوها وآمنوا بها في سعيهم وبحثهم وعملهم .
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ودفعهم إلى أهدافهم عهدهم مع الله مما جعلهم يعملون ويجدون ليل نهار , يرحل العالم منهم شهورا في طلب حديث , يبذل كل ما يملك لكي يشتري حصانا يعينه على السفر أو محبرة وورقاً  ليخلف لنا نوراً وخبرة وحكمة وموعظة يقدمها لنا على أطباق من فضة أو ذهب .
من هؤلاء الرجال كان عظماء المسلمين وعلماء العالم بشكل أعم وأشمل .
ومن هؤلاء الرجال البعض الذين تتلمذوا على أيدي معلميهم وحفظوا ودهم وفضلهم رغم ما كان يتخلله من شدة وقسوة وصعوبات ولقد تبنوا لأنفسهم تعليلات متنوعة حتى يذكروا كلٌ معلمه بالجانب الناصع والمشرق والمُجل المُبجِّل فقالوا , أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك ونِعْمَ المعلم لقد كان يبذل معنا قصارى جهده , والله يعينه على ما كان يلاقي من عناء وتعب معنا ,
كان يحرص على تعليمنا ويفرح لنجاحنا ويتضايق ويغضب للفاشلين من بيننا , كان مثال الأب والقدوة , وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل والله ذو الفضل العظيم.
واليوم ورغم كل الظروف الحسنة ورغد العيش وتوفر الموارد والتطور السريع في جميع المجالات وارتفاع مستوى المعيشة والنهضة التكنولوجية وكثرة الاختراعات وسهولة السفر والنظر والحصول على المعلومات وطرائق التعليم الحديثة والبديلة وحساب الألف حساب لنفسية الطالب وشخصيته الكريمة ودلاله المتناغم مع عصر العولمة والرقي والحرية وخفوت بريق القيم والمبادىء وطمسها بل الاستخفاف بها والتنكر لها وحتى رفضها وغياب الضمير وتحين الفرص والمحسوبيات والوصول إلى الأهداف بالطرق الالتفافية والغش والخداع وقلة المردود المادي للاستقامة ولأصحاب العلم وحملة الشهادات مقارنة بمن تخلوا عن هذا الدرب واتجهوا للمهن الحرة ولسبل الرزق الأخرى فأحسنوا فيها وأجادوا ونالوا المردود أضعاف ما ناله غيرهم من علمهم وثقافتهم . كل هذا جعل أهمية المستقبل المنتظر الذي حلم به الطالب يخبو ويخفت خاصة والعديد من الخريجين يجلسون على مقاعد البطالة أو في الركن الهادىء ينتظرون تحقيق آمالهم وأحلامهم بوظيفة لتعينهم على الاستمرار في الحياة بمستوى معتدل ومتواضع رغم كل ما تحويه عقولهم من نور وأفئدتهم من حماس وقدراتهم وعلمهم المتأجج الذي لا يجد إلى النور من سبيل .
بالرغم من كل ما ذكر تجد العديد من الآباء يفقد حماسه ويتنازل عن الحلم ويقلل من سقف التوقعات والآمال ويعدل أو يقلل من الطموحات ويشجع بقصد أو بغير قصد على عدم بذل الجهد في التعلم والانضباط والتميز والنجاح لأنه سبيل بالكاد يطعم خبزا جافا بينما سائر السبل تعود على الأبناء في المستقبل بالسمن والشحم واللحم .
ورغم كل ما كان في الماضي من ظروف صعبة كان العلم نوراً وأملاً وقوة
ورغم ما نحن عيه اليوم من ظروف سهلة وتوفر كل الإمكانيات أصبح العلم أمرا ثانويا وجانبا ليس من الأهمية والأولوية لأن نورنا صرنا نستمده من محطات الطاقة والكهرباء نضيء به بيوتاً وغرفاً وأجهزة ومعدات وأدوات تعيننا على حمل لواء الإتكالية والتخلف عن بقية شعوب العالم وتعيننا على الاستمتاع بحياة لا دور لنا فيها إلى دور الاستهلاك والاعتماد على الغير في توفير المتطلبات الأساسية لنا وللأبناء والحرص والإصرار على ملكية اللحم والعظم بالطابو والويل كل الويل لمن يتجرأ على المس أو اللمس أو الهمس للأبناء بما يؤرق مضاجعهم ويقلق بالهم ويحاول أن يثير فضولهم ويؤثر عليهم كي لا يصبحوا من بين الرجال الذين يشتغلون بالعلم والفكر والثقافة ويكون الأمر وبالاً عليهم فيصبحوا كمعلميهم يبحثون عن عقول ينيرونها وأفئدة يشعلون حب المعرفة فيها والذين يشبهون حامل الزيت الذي يبحث عن قناديل يعمرها بزيته فلا يجد لمراده سبيلا .
رحم الله هذه الأيام والأيام المقبلة التي تنذر بسوء الحال والتي صرنا (نوكل فيها قتل ونفرق)  (وما نقدر نشتكي إلا لله لأن الشكوى لغير الله مذلة)!
رحم الله هذه الأيام فكيف سيكون موقفنا لدى الأجيال المقبلة حيث تركناهم يستجدون من الأمم الأخرى والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول :- (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون ) .
وما الغنى بغنى المال بقدر ما هو الغنى الشامل الجامع الذي يشمل العلم والريادة والقيادة والقوة والسيطرة والنفوذ والاستقلالية فنحن خير أمة أخرجت للناس ولا بد أن نبذل اللحم والعظم حتى نظل ونبقى كذلك !
ولن يكون السبيل إلى ذلك إلا بالعلم والإيمان والتعاون والشراكة التامة وتحمل المسؤولية أفراداً وجماعات وتوحيد الصفوف نحو الأهداف وهو المسار الصحيح لحفظ ماء وجوهنا أمام من سيخلفوننا حتى نستحق عندهم وعندها وعلى الأقل أن يقال فينا يرحم أيام زمان .

يوسف جمل 4/4/2010
 

زر الذهاب إلى الأعلى