أرشيف - غير مصنف

الرجعية الحاكمة وتهافت العقل العربي

د . محمد الشحومي

 العالم كله يفكّر و يخمّن ، يحسب ويتوقّع ، يبادر ويعمل حتى يكون حاضرا فاعلا ، في مستقبل يسعى ليكون له فيه موقفا ، يبرز هويته ويظهر ثقافته ويحقق رفاهيته ، كل امة في كوكبنا تحترم ذاتها وتعتز بتاريخها وتدرك أهمية ثقافتها ، تحفّز عقول مثقفيها للتفكير والتدبير حتى تكون على موعد مع المستقبل ، ولا تفاجأ بواقع لا تملك فيه زمام أمرها ولا تحوز حرية إرادتها ، لدرجة يمكننا معها القول إن العقل البشري وصل إلي أعلى مراتب الوعي والتطور بشكل غير مسبوق على امتداد تاريخ الوجود الإنساني المعروف ، يستثنى من ذلك العقل العربي الذي لازال يغطّ في سبات عميق ، هو أقرب إلي الموت منه إلي الحياة ، ولم تفلح النكبات والنكسات والاهانات والركلات واللطمات والصفعات المتلاحقة في إعادة وعيه ، بالرغم من تلك الصحوة الهائلة التي أحدثتها ثورة 23 يوليو بقيادة الزعيم عبد الناصر ، الذي كان أحد أهم نماذج الوعي العربي وعقله المفكّر المدبّر ، وبالرغم ممّا حققته تلك الحقبة من مكاسب هائلة ، استقلت بفعلها من الاستعمار القديم جميع الأراضي العربية المحتلة من عدن إلي الجزائر ، ومن شنقيط إلي البحرين ، مرورا بجميع المحطات العربية ، وكانت الطريق حتما ستقود لتحرير فلسطين لولا سياسة التحريك والاستسلام ، والاستماع لنصائح الرجعية ، والأهم أن الصحوة الناصرية فجّرت طاقات العقل العربي الذي أبدع الروائع ، وتألّقت في سمائه نجوم ، لازالت تشع بأنوارها تقاوم ظلاما أرخى سدوله على واقع الأمّة ، فكان الإعلام الملتزم والانجازات الكبرى  والفن الأصيل  والأدب الراقي والصحافة المتألقة والذوق الرفيع ، تيارا ثقافيا جارفا ، في كل الميادين والمجالات ، من السد العالي إلي تأميم قناة السويس ، من أم كلثوم إلي عبدالحليم ، من بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأمل دنقل ونزار قباني إلي صلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم ، من هيكل إلي بهاء الدين وعبد الرحمن الخميسى ، من نجيب محفوظ إلي يوسف إدريس والطاهر وطار وعبد الرحمن منيف ، من سعد الدين وهبه الى نعمان عاشور وسعدالله ونّوس ومحمد الماغوط ، من سميحة أيوب الى سناء جميل وسعاد حسني ونادية لطفي ، من كمال الطويل الى محمد الموجى والشيخ إمام ، ومن صلاح ابوسيف الى يوسف شاهين ، من جميلة بوحيرد وليلى خالد إلى عائشة عبد الرحمن وآمال عثمان ، من مالك بن  نبي  وعلي فهمي خشيم إلى الصادق النيهوم وخيري بشارة ، من الشيخ محمود شلتوت إلى الشيخ محمود عبد الحليم والشيخ محمد متولي الشعراوي  وجيش جرار من علماء الأزهر الذي لم يتحزب أو يتخون أويتزندق .

 

     لقد كان  التألق في جميع المجالات ، لكنه لم يسلم من التآمر الخسيس الذي أظهرته ولازالت تظهره الرجعية العربية وصنائع الاستعمار ، حتى تمكنت من تحريف المسار ، وإفساد الذمم ، وتدجين الهمم ، وإعاقة اندفاع التيار الذي كاد ان يتوقف كلية عن الحركة ، لولا صمود ثورة الفاتح العظيم وثبات قائدها الأمين على القومية العربية .

 

      ما نريد أن نختم به ، بعض من الأسئلة الكبرى ، أولها أين المثقف القومي الذي تحرر عقله من أسر الدولة ؟!!!! فأدرك أن الوطن أكبر من الدولة ، وعرف أن مصر مثلا دولة وليست وطنا وكذلك ليبيا وسوريا والمغرب والجزائر واليمن ……إلى آخر القائمة كلها دول في وطن واحد اسمه الوطن العربي ؟ . ونسأله بإلحاح عن  دوره في الأحداث التي يشهدها وطننا العربي هذا ؟.

 

     نحن لا نطلب منه ، ولا نملى عليه ، ولكننا نبحث عن موقفه النابع من قراءته الصحيحة للتاريخ ، لا نريده أن يؤجر قلمه لكل من يدفع ، ولكننا نريده أن يكون ذاته ، معبرا عن انتمائه لأمته وثقافته وهويته ، المستهدفة بشكل واضح جلىّ ، نريده أن يحكم بحق وعدل بين التيار القومي المؤمن التقدمي ، والتيار السلفي الرجعي ، بين عشاق الحرية ،  وصنائع العمالة ، بين المهمومين بقضايا المواطن البسيط والمؤمنين بحقه في الحياة الكريمة فوق أرضه ، وبين أنظمة جاثمة على صدره لتعيق كل حركة تخدم مصالحه ، إننا نبحث عن العقول القادرة على الوصول إلي الصورة الحقيقية للمنهج الفكري النابع من أصول الإسلام وثوابت العروبة ، نريد تلك العقول التي لا تهيمن على  بصرها وبصيرتها ضلالات الأموال الآثمة ، نريد بصائر لا ترى إلاّ الحقيقة كما هي ، وليس على صورتها المشوّهة التي لا وجود لها إلا في أراجيف تيار التخلف الذي تدفعه أموال النفط المغتصب والملوث ، نتمنّى  أن نرى المثقف العربي يقف الموقف المعبّر عن انتمائه لذاته  وأهله ، يومها سنجد أنفسنا معا في ساحة واحدة على درب الوحدة العربية ولن يجد أحد في نفسه غضاضة أن يقف تحت راياتها ويتبع خطى القائلين بها ، يومها سيدرك القوم انه  لا حل ممكن لإنقاذ الأمة العربية من الاندثار في عصر العولمة والقطب الأوحد والنظام العالمي الجديد والفضاءات الكبرى ، إلا الوحدة سفينة النجاة في عصر الطوفان ندخل بها الفضاء الأفريقي العظيم نحتمي به ونحميه من استغوال الفضاءات الأخرى .

 

       ألا ترون أن الشارع العربي من محيطه إلي خليجه يدين جامعة أنظمة دوله ، فباسم من تنطقون ، وعن مشاعر من تعبرون ، المواطن العربي ، ام تآمر وخنوع الأنظمة ، التي مهما فعلتم لن تستطيعون إنقاذها من قبضة الثورة العربية آجلا أم عاجلا ، أم أن لكم رأى مخالف ، لاختلاف مجالات الرؤية ، إننا على استعداد للحوار شريطة أن يكون القصد والمقصد إنقاذ الأمة العربية وأهلها ورسالتها ، وليس إنقاذ أنظمتها التي أكل الدهر عليها وشرب، وتبث بما لا يقبل مجالا للشك أنها السبب الرئيس في فقدان الوعي وتهافت العقل العربي                                  

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى