تنازلات تفاوضيه
دكتور ناجى صادق شراب
ترتبط المفاوضات فى أحد أهم أبعادها بالسلوك التنازلى ، ولهذا توصف العملية التفاوضية بالتنازلات ـ وتعرف النفاوضات بأنها عملية تبادل للتنازلات. وعليه لا تستقيم أى مفاوضات دون تنازلات ، لكن المسألة تبقى فى حجم هذه التنازلات ، وطبيعتها وجوهرها ، وثانيا فى التوازن فى عملية التبادل ـ فلا تكون المفاوضات مفاوضات حقيقية إذا أقترنت بقيام طرف بتقديم تنازلات أكبر بكثير من الطرف ألأخر ، وثالثا ما الذى يمكن أن يقدمه كل طرف للآخر من مطالب ، ورابعا هذه المطالب غالبا ما ترتبط بمفهوم المصلحة الوطنية ، وترتبط هذه النقطة بما يسمى بسلم التنازلات ، فهناك حد أدنى لا يمكن لأى طرف تجاوزه ، وقد تزيد درجة التنازل من طرف لآخر ، لكن المهم أن لا تتجاوز نقطة البقاء الوطنى . وتتوقف عملية التنازل على عوامل كثيرة بعضها يتعلق بحاجة كل طرف لما يريده من ألأخر ، وبعناصر القوة المتاحة لكليهما ، وبالعوامل الخارجية ، والداخلية لكل طرف . وتتعدد تكتيكات التنازلات التى قد يلجأ لها كل طرف ، فهناك تكتيك البدء بعرض متطرف ، وتكتيك التكرارات التنازلية ، وأخيرا تكتيك الفرصة ألأخيرة . ومن القضايا المهمة قبل الحديث عن أشكالية السلوك التنازلى فى المفاوضات الفلسطينية ألأسرائيلية ، عامل ضغط الوقت ، وأنتهت الدراسات فى هذا الشأن الى ان معدل التنازل يتناقض مع الموقف ، وينخفض بزيادة قيود المساوم، وأن معدل التنازل يكون كبيرا فى ظل ضغط زمنى عال ، وبالعكس مع ضغط الزمن المنخفض، ومن العوامل المهمة أيضا معرفة كل مفاوض بما يريده الطرف التفاوضى ألأخر، ولا ننسى هنا كذلك عامل ألأدراك والتوقع من كل طرف تفاوضى ، فبقدر سرعة اللاعب فى توقع تنازل الخصم بقدر ما تزيد المطالب الضغوط التى تفرض على الطرف ألأخر، وبقدر أقناع الخصم ان هذا أقصى ما يمكن تقديمه ، بقدر أستجابة الأخر، وتقديم تنازل من جانبه. هذه المقدمة كان لا بد منها ونحن نتحدث عن أشكالية المفاوضات الفلسطينية ألأسرائيلية. وأبتداء هذه المقدمة تنطبق ألى حد كبير على السلوك التفاوضى التنازلى الفلسطينيى وألأسرائيلى. فلسلوك التفاوضى ألأسرائيلى من النوع الذى يمكن تسميته بالسلوك ألأسترجاعى الشكلى ، ولذلك تجييد أسرائيل فن أفتعال ألأزمات ـ التى قد توظفها للضغط على الجانب الفلسطينى لتقديم مزيد من التنازلات ، فالمفاوضات الفلسطينية بدأت بسلم عال من التنازل ، فمقابل ألأعتراف وهو ورقة تنازلية كبيرة ، سمحت أسرائيل بقيام سلطة حكم ذاتى ، وكان يفترض أن يكون المقابل ما هو أكبر من قبل أسرائيل ، وبعدها لم تشهد المفاوضات قوة دفع ذاتية ، لأنها وصلت درجة من التصادم فى الحدود الدنيا لكل منهما ، ويلاحظ فى تتبع مسار هذه المفاوضات أن الفلسطيينيين يفاوضون تحت ضغط عامل الزمن ، وهو الذى يفسر لنا التنازلات ألأكبر التى يقدمونها ، وهنا المقارنة مهمة ، فالفلسطينيون لا يملكون ما يقدمونه من تنازلات ألا فى القضايا والمسائل الجوهرية ، كالقدس واللاجئيين ، والمستوطنات ، والحدود وشكل الدولة الفلسطينية ، لذلك التنازلات الفلسطينية من النوع ألأستباقى والحقيقى ، فمثلا الفلسطينيون لا يملكون فرض الحصار ، او إقامة الحواجز ، أو ألأعتقال اليومى ، او التحكم فى ما يدخل وما يخرج من سلع ، أو التحكم فى المسارات المالية ، وكل هذه المسائل تملكها أسرائيل وتوظفها توظيفا جيدا ، وهى مسائل لا تكلفها أى ثمنا سياسيا ـ بل على العكس مقابل أى تنازل فيها مطلوب من الجانب الفلسطينى أن يقدم مزيد من التنازل ، وخصوصا فى القضايا الجوهرية التى أشرنا أليها. وهذا السلوك التنازلى هو الذى قد يفسر لنا لماذا وصلت المفاوضات الى حالة من حالات ألأنسداد التفاوضى. ولمحالة ايجاد مخرج لا بد من مراجعة هذا السلوك التنازلى لكلا الطرفين، وربط هذا السلوك فى أطار الرزمة النهائية ، وفى أطار التصور النهائى للحل ، والبعد عن السلوك التنازلى التجزيئى ، او مسألة تكرارية التنازلات ، فلم يعد الطرف الفلسطينى يملك ما يقدمه من تنازلات فى ظل هذا السياق التفاوضى ، قبل ان تكون لدية رؤية سياسية حقيقة للدولة الفلسطينية الحقيقية ، وهذا يستلزم من أسرائيل بوصفها سلطة أحتلال ، وفى يدها الكثير الذى يمكن تقديمه أن تقوم بمبادرات جوهرية فى هذا الشأن حتى تعطى للمفاوضات قوة الدفع المطلوبة ، ولذلك ليس المهم البدء بالمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة ، بقدر توفر الضمانات ألأقليمية والدولية التى توفر للمفاوض الفلسطينى المبرر للدخول فى عملية تفاوض محددة الهدف، ومقيده زمنيا ، أما الدوران فى حلقة تفاوضية مفرغة من مضمامينها ستقود بلا شك لمفاوضات غير مجدية فلا يكفى التمسك بالمفاضات والسلام كخيار أستراتيجى ، ولا خلاف على ذلك ، ولكن فى نفس الوقت لا بد من تغيير البيئة التفاوضية ، وتغيير قواعد اللعبة ، وعدم جعل عامل الزمن سيف مسلط على رقاب المفاوض الفلسطينى . وأخيرا أن يعرف المفاوض الفلسطينى ماذا يمكن أن يقدم ومتى ، ومقابل ماذا ؟
دكتور ناجى صادق شراب|أكاديمى وكاتب عربى
[email protected]