القذافي، مشروع قومي فاشل وتنموي أفشل.. بقلم: علي الصراف
"نحن أمام كارثة، فهؤلاء الشباب قاموا بثورة ولكنهم لا يعرفون ماذا يفعلون".
هذا ما قاله محمد حسنين هيكل لجمال عبد الناصر لدى عودته من بنغازي بعد أول لقاء عقده مع قادة "الثورة الليبية" عام 1969.
واليوم، بعد مرور أكثر من 40 عاما على تلك "الثورة"، فان "الكارثة" ظلت كارثة! وأبعادها ما تزال توغل عمقا في تدمير مقومات الحياة في ليبيا، فوق الفشل المدّوي الذي جلبته لمشروع الوحدة القومية.
إذا شئت أن تبدأ "من الآخر"، فالزعيم الليبي العقيد معمر القذافي يقف اليوم على رأس مؤسسة القمة العربية. وهذا وضع يتيح له ان يقود مبادرات ويقوم بتحركات وينظم فعاليات ويطلق دعوات ويرتب اجتماعات من اجل تحقيق أهداف تخدم التطلع من اجل تعزيز التعاون والعمل العربي المشترك.
إلا انه اكتفى بالزفّة. فمنذ انتهاء القمة التي عقدت في سرت أواخر آذار-مارس الماضي، الى يومنا هذا، فانه لم يقم بأي شيء من الناحية العملية. وإذا أخذت المخاطر التي تحيط بالقدس بعين الإعتبار، فان المشروع التوسعي الإستيطاني الإسرائيلي يمضي قدما من دون أن يبدو على رئيس القمة العربية انه راغب بالقيام بأي تحرك عربي أو دولي من أجل وضع حد للتدهور.
ومع نهاية العام، أي حتى تنتهي رئاسة القذافي للقمة، فان الكارثة سوف تصبح جلية بدرجة يصعب معها القول انه سيبقى من القدس أي شيء.
لقد وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المؤسسة الصهيونية، عشية القمة العربية، بان لا يعود هناك شيء اسمه "القدس الشرقية" في غضون عشرة أشهر. وهذا يعني أن كل يوم يمضي من دون تحرك، يجعل التمدد الصهيوني أقوى وأكثر ثباتا على الأرض.
لا شك أن الثورة الليبية كانت "مشروعا" تحرريا عملاقا. ولا شك أنها كانت وجها من وجوه الرد على هزيمة 5 حزيران-يونيو 1967. ولا شك انها أسهمت، عبر تحرير ليبيا من القواعد الأجنبية، في هزيمة أحد آخر وجوه الاستعمار الحديث في المنطقة. ونجح العقيد القذافي في أن يضع إسمه، في سجل الثوار، الذين يندفعون الى معركة التحرر، بإخلاص وعزيمة ونوايا طيبة. واستحق أن يحظى ليس بدعم عبد الناصر وحده، ولكن أيضا بدعم الليبيين الذين أرادوا لبلدهم ان ينخرط في المشروع القومي للوحدة العربية من أوسع الأبواب، وأن ينعموا بثروات بلدهم من أوسع الأبواب أيضا.
ولكن الى أين انتهينا من تلك النوايا الطيبة؟ وماذا سجل "المشروع القومي" من نتائج؟ وهل حقق التطلع الوحدوي أي تقدم، حتى ولو في المحيط المغاربي الأضيق؟ وماذا جنى الشعب الليبي من "الثورة" على صعيد التنمية؟
الجواب، إذا شئت الصدق، مخزٍ. وهو تعبير عن كارثة متواصلة تكاد لم تنقطع تقلباتها عن إعادة انتاج نفسها في كل مرة تحاول فيها الزعامة الليبية ان تستأنف مدخلا جديدا للعلاقة مع محيطها القومي، أو للعلاقة مع متطلبات البناء والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
كن صادقا مع نفسك، وستجد أن الثورة التي بدأت بشعار "البيت لساكنه" انتهت بمئات الآلاف ممن يعيشون في ما يشبه مدن الصفيح، وبنشوء احياء عشوائية يغزوها الفقر والحرمان من كل جانب.
كن صادقا مع نفسك، وستجد أن الثورة التي بدأت بالدعوة الى توزيع الثروة على الليبيين، انتهت بتوزيعها على الشركات الأجنبية المفلسة (في إيطاليا وبريطانيا خاصة) تحت ستار "إستثمارات" لا يعلم الشعب الليبي عنها أي شيء تقريبا، سوى تلميحات مسؤولين يزعمون (بصلف) أن بلادهم (من دون كل الدنيا) لم تخسر أموالا في الأزمة الاقتصادية العالمية.
كن صادقا مع نفسك، وستجد أن الثورة التي رفعت شعار "شركاء لا أجراء" انتهت بتوزيع الفقر والبطالة على الليبيين (حسب الكثير من الاحصاءات الرسمية الليبية)، حتى لكأنهم انتهوا بواقع يقول انهم "لا شركاء ولا حتى أجراء". وحتى لكأنهم عادوا من الغنيمة بالضياع، لا بالإياب.
وكن صادقا مع نفسك، وستجد ان المشروع التحرري الذي أخرج الاستعمار من الباب، أعاد إدخاله من الشباك تحت غطاء مشاريع تقوم بتنفيذها شركات اجنبية، صارت "شريكا" للشعب الليبي في ثروة بلاده.
والى أين انتهى المشروع القومي؟
لقد انتهى الى.. (وهذا واقع وليس نكتة) مشروع "افريقي" يسخر من العروبة، ينكرها، وينكر عليها، ويلقي عليها باللوم على الفشل.
لقد قدمت الثورة الليبية نوايا طيبة. وفي الكثير من الأحيان، بدت تلك النوايا مجرد أفكار عشوائية وفوضوية يتم استرجالها "خبط لزق". فلما أدار العرب لها ظهورهم، بسبب عدم كفايتها العملية، ردت ليبيا عليهم بالتنكر والحرد، وامضت اكثر من عشر سنوات في الإنفاق على مشروع افريقي اتضح انه فاشل هو الآخر.
ليس من الإنصاف، بطبيعة الحال، إلقاء كل اللوم على ليبيا ولا على العقيد القذافي، في فشل مشروع قومي تقف في مواجهته قوى استعمارية كبرى، كما يقف ضده (في خندق المواجهة الامامي) كيان صهيوني يعرف جيدا كيف يخترق ويدمّر أي مسعى لبناء علاقات عربية – عربية جديرة بالاعتبار.
ولكن، وانت تطرح مشروعا كبيرا كهذا، فان النزق الصبياني هو آخر ما تحتاجه في التعامل مع تعقيداته العملية والواقعية.
ثم، وبما أنك تعرف حجم وطبيعة القوى المعادية لهذا المشروع، فان آخر ما تحتاجه هو أن تكتفي بالنوايا الطبية، وان تحاسب غيرك على "فشلهم" في قبول الفوضى التي تقترحها عليهم.
ولعل آخر، آخر، ما يمكن ان تفعله، إذا كنت صادقا، هو أن تدير للمشروع ظهرك بسبب الفشل.
وعندما تقدم للآخرين نوايا طيبة، فبدلا من أن تحولها الى "منّيّة"، تعاتب عليها الآخرين، فتنسحب لترضي نرجسيتك النزقة بعمل مضاد، فقد كان من الأولى ان تقدمها كمشروع يخطو الى الأمام، خطوة خطوة، بإصرار مُحارب، وثبات مُرابط يعرف ما يريد.
لقد كان الأمرُ يتطلب رؤيةً واعيةً، وتخطيطاً عقلانياً، وشبكة مشاريع وبرامج تجعل الوحدة القومية علاقات مصالح بنيوية متداخلة ومتعددة المستويات ومتنوعة الأبعاد بحيث لا يمكن الاستغناء عنها.
هذا خيار لا يفشل. وحتى إذا فشل جزءٌ صغيرٌ منه، فان الأجزاء الأخرى يمكن أن تبقى حية ومؤثرة.
ولكن، هذا ما ظل ناقصا على الدوام حتى مع مشروع الاتحاد المغاربي. فعلى الرغم من أن الكل يعرف أن النزاع المغربي الجزائري بشأن الصحراء يحول دون تحقيق تقدم، إلا أن السؤال الذي كان لا بد من التصدي له هو: كيف يمكن تلافي هذا النزاع، وكيف يمكن تحويله من عقبة كأداء الى نزاع ثانوي وصغير قياسا بالمصالح الكبرى المشتركة بين دول وشركات وشعوب المنطقة؟
ومثلما فشل المغرب في أن يكسب الجزائر والصحراء معا، فقد فشلت الجزائر في أن تكسب المغرب والصحراء معا. بينما فشلت ليبيا في أن تقدم قوة الدفع والرؤية والوسيلة، وظلت ثورتها تهذي بالشعارات الفارغة.
تمويل سكة حديد، وبناء جامعة مغاربية، والتشجيع على انشاء شركات (بأي حجم) برأسمال أهلي مشترك، واستقطاب عمالة مغاربية لمشاريع تنفذ هنا وهناك، وإنشاء مركز بحوث ودراسات، وإقامة ندوات، وتنظيم معارض، واختلاق مبادرات ثقافية، وعقد لقاءات شعبية… كل هذه وغيرها من الأعمال ذات الطبيعة "التحتية" كان يمكن ان ترسي أساسا للعمل القومي (المغاربي أو العربي) تجعله أبعد من مجرد أفكار ونوايا طيّبة.
ولكننا لم نجن، في واقع الحال، إلا الحَرَد، وإلا الفوضى، وإلا التصرفات الصبيانية التي تقول: إما أن ألعب معكم بطريقتي، أو أخرب اللعبة.
فحلت الكارثة. وبقيت الكارثة مستمرة، لأن الشاب الثوري ذا النوايا الطيبة، لم ينضج أبدا. وظل يحمّل الآخرين "منّيّة" نواياه. كما ظل مُطالِبا باللعب على طريقته، ومُهدِداً بتخريب اللعبة.
اليوم، تكاد لا تمر مناسبة من مناسبات الاختلاف في وجهات النظر مع مصر، حتى تنط قضية العمالة المصرية في ليبيا لتبدو وكأنها أداة للإبتزاز اللاقومي.
ولكنها، مع ذلك، تقدم مؤشرا عظيم الدلالة على مدى الفشل الذي انتهت اليه الثورة الليبية ليس في مشروعها القومي وحده، بل وفي مشروعها التنموي أيضا.
كيف تعامل العراق، في ظل قيادة الشهيد صدام حسين، مع العمالة المصرية؟
لاحظ الفرق، وستجد أن المشروع القومي الذي كان ينطلق منه صدام حسين، ما كان ليسمح بالنظر الى العمالة المصرية على انها "مصرية". لقد كانت في العين القومية، عمالة عربية، تعمل في أرض عربية، وتخدم (بكل التفاصيل الصغيرة للمجالات التي تم توظيفها بها) مشروعا قوميا عربيا كبيرا.
الامتيازات التي حصل عليها المصريون في العراق فاقت في الكثير من الاحيان الامتيازات التي يحصل عليها العراقيون أنفسهم. وحتى عندما كان لا يسمح للعراقي بتحويل أموال الى الخارج، فقد كانت قيادة صدام حسين تسمح للمصريين بتحويل أموالهم، لانها كانت تنظر الى ما تعنيه تلك الأموال للتنمية في… مصر!
والأمر لم يكن يقتصر على رؤية قومية صحيحة للعلاقة بين "المصري" و"العراقي" و"السوري"، باعتبارهم مواطنين في بلدهم أينما حلوا، ولكنه يمتد الى مشروع تنموي قادر على امتصاص ما وصل الى خمسة ملايين عامل.
المشروع التنموي الناجح، الذي وظّف ثروة العراق الوطنية لبناء العراق، هو الذي جعل من "العمالة المصرية" تبدو مظهرا "وطنيا" و"عراقيا" من مظاهر القوة.
وبمقدار ما كانت تطلعات هذا المشروع قومية، فانه كان، في الوقت نفسه، مشروعا وطنيا من الطراز الأول.
"القومي" كان يتكامل مع "القطري" بمستوى من الإنسجام لم يتحقق في أي وقت من قبل.
فقط عندما غرق العراق في دوامة الحصار صارت تلك العمالة عبئا في نظر قلة من العراقيين. ولكنها لم تُهدد ولم تُطرد. بل وشارك المصريون العراقيين شظف العيش، وآثر كثير منهم البقاء في العراق.
اليوم، عندما تشعر العمالة المصرية في ليبيا بالتهديد، فماذا يعني ذلك؟
انه يعني أن المشروع القومي الذي تنطلق منه الثورة الليبية هو مشروع فاشل في رؤيته وثقافته وتطلعاته. ولكنه يعني انه مشروع تنموي أكثر فشلا أيضا.
فالعمالة المصرية، تبدو "أجنبية" في بلدٍ كان يجب ان يكون امتداداً لأي بلد عربي آخر. وهي تبدو عبئا في نظر فقراء ليبيين يكاد بلدهم لا يعطيهم شيئا، حتى أصبح من الطبيعي في نظرهم أن يستكثروا على "العمالة المصرية" أن تشاركهم "البطالة"!
أما الدولة (وهي ليست سوى فوضى وقعت في حفرة العشوائية) فانها لا تخجل من طرح مشاريع "لإعادة تنظيم العمالة" لابتزاز العمالة المصرية، قبل أن ينشف حبر الأوصاف القومية المزيفة التي ترطن بها الثورة الليبية صباح مساء.
هذا الحال، ما كان ليصل الى هذا المستوى من التدهور لو كانت الثورة مشروعا للبناء والتنمية الداخلية.
وهذا الحال ما كان ليصل الى مستوى الكارثة، (حسب أرقام ومعدلات تم جردها سابقا من مصادر رسمية ليبية) لو كانت الثورةُ رؤيةً استراتيجية متكاملة.
ومن منقلب الى آخر، في الاقتصاد كما في العلاقات مع الخارج، فان الكارثة لا تني تسفر عن كارثة أصعب من التي سبقتها.
كن صادقا مع نفسك، وستجد أن الشباب الذين قاموا بثورة وهم لا يعرفون ماذا يفعلون، ما يزالون، حتى بعد مرور 40 سنة، لا يعرفون ماذا يفعلون.
وخشيتي هي ان النضج قد يتأخر سنة، سنتين، أو عشرة، ولكنه لا يتأخر 40 سنة إلا ليُعبّر عن مصيبة متأصلة.
ويا ويلي وسواد ليلي، فهذا وضع لا يبشر بالخير للقدس، ولا للعلاقات العربية، ولا لليبييين أنفسهم.