الإنتلجنسيا المقاومة والجماهير المسلوبة
الدكتور المحامي عادل عزام سقف الحيط
تتميز الإنتلجنسيا بوعيها النقدي، وبقدرتها على المفاصلة الشعورية والحركة بالمفهوم داخل مجتمعاتها. ومن ثَمَّ فالمثقف الثوري لا يستهلِك طاقته في تسيير حياته اليومية، وإنما يشغله الهم العام والعدالة؛ وهو يفكك الأحداث ثم يعيد تركيبها، ويربط المشكلات العملية المتولدة في مختلف مناحي الحياة بأسبابها الموضوعية، وفق منهج علمي يهدف إلى فهم كل منابع الظلم الوجودي ومحاربته. وهو يعيش بين الناس مغترباً ومتفرداً في فهمه للحياة وفي بناء تصوراته والإعداد للتغيير، غير أنه، وعلى الرغم من غربته وغرابة مسلكه، دمث ومحبوب بين الناس، بل هو مناط ثقتهم.
إن أكثرية الناس تشغلهم الظواهر والأحداث الآنية المباشرة، ولا استثناء على ذلك سوى في مفاصل تاريخية معينة تتَّحدُ فيها جموع الشعب بالإنتلجنسيا في نشاط ثوري منظّم يهدف إلى تغيير السلطة المستبدّة، أو دحر الاحتلال الأجنبي. ولا تُدرك الأغلبية الشعبية كُنْهَ القوى الأساسية الكامنة وراء الأحداث التاريخية، أو التصورات الأيديولوجية التي تدفع إلى تغييرها. وواقع الأمر أن أكثر الناس يحصرون تطلعاتهم في ذواتهم، ويشغلون بمقاصد قصيرة المدى تتصل بمصالحهم المباشرة، الفردية والعائلية، بعيداً عن آلام أمتهم والمثل السامية الجديرة بالكفاح والتضحية. أما الإنتلجنسيا، فإلى جانب خوض غمار الحياة الخاصة، تشغلها القضايا الكبرى، وتتطلع إلى إدراك موقع الإنسان في مجتمعه إدراكاً نقدياً، وتحلل علاقات القوى والتحولات التاريخية، وتتحرك وفقاً لدورها الطليعي في كل مرحلة. وتمتاز الإنتلجنسيا أيضاً بحساسية إنسانية عالية تجعلها تأبى بنفسها عن الانغماس في المشاغل والاهتمامات اليومية العابرة، وهي عادة لا تمارس هذه الأنشطة إلا بالقدر اللازم لمسايرة احتياجاتها الواقعية، وغالباً، يتمتع المثقف الثوري بشيء من القدرة المادية، بما يعوض ذويه، ويموّل انشغاله في قضايا الفكر والبحث العلمي والقتال من أجل التحرر. وتُفني الإنتلجنسيا نفسها في معارضة النظم السلطوية القائمة، والعمل على تغييرها، ومقاومة الاحتلال، والعمل على دحره، والثأر من أعداء الإنسانية والخونة، وتوعية الناس وتنويرهم؛ وتتحمل في سبيل ذلك المشقّة والملاحقات الأمنية، والعقوبات السالبة للحرية، والتعذيب، والاستشهاد ثمناً للثبات على المبدأ.
وفي حين أن أغلبية الناس غير معنية بسيرورة التاريخ، أو التأمل النقدي، إلا بالقدر المتصل بكسر الرتابة والتسري، أو استجابة لتحديات تفرضها الحروب والكوارث؛ فإن الإنتلجنسيا يشغلها هذا التأمل والعمل من أجل القضايا الأممية بشكل مستمر، والسبب في ذلك أن التفكير بوصفه استراتيجية طويلة الأمد يمثّل آلية مؤلمة تستنزف طاقة الإنسان على المدى الطويل، وأغلب الناس غير قادرين على ممارسته بشكل منظم ودائم، في إطاره العام والشامل، لأنه نمط وجودي مرهق.
وبالتالي يقسَّم كل مجتمع إلى أقلية تقدمية يقظة مبدعة ومتحفزة للتغيير، وأكثرية لامبالية وغير مستعدة للتضحية من أجل التقدم الاجتماعي، أو الدفاع عن أوطانها، ولا يشغلها سوى النشاطات اليومية والمصالح الضيقة، ويحرّكها حب البقاء والرفاهية، وقد وصفها المفكران "جيمس فرايزر" و"نديم البيطار" بمصطلح: "الثقل الميت للأكثرية البشرية".
الإنتلجنسيا ترفض كل أشكال الظلم في العالم، وترى أنه لا يتجاوز قدراتها البشرية، فهي تؤمن بأن كل مرحلة تاريخية لا بد أن تنضج زمانياً وصولاً إلى فرض الشعوب لإرادتها الحرة العادلة ضمن علاقة حية ديناميكية ومتأصلة في ثنايا التاريخ، و تؤمن الإنتلجنسيا بإمكانية تحويل قناعاتها إلى واقع حي قابل للعيش، ضمن رؤية وحدوية مرتبطة بمصير أمة ذات خصائص إنسانية معينة، تستلهم من العلم، ومن تاريخها وحضارتها، وحب الإنسانية، أسباب تقدمها.
ولا تتحرك الجماهير باتجاه التغيير إلا عندما تصبح مصالحها الخاصة وحياتها المعاشية اليومية مهددة بالخطر، فذوات أفرادها لا تستجيب إلى النداء الثوري الإنساني، وتبقى منغلقة في إطار خمولها وانشغالها بمصالحها اليومية ونفعها المادي ومصالحها الملحّة، حتى تتغير الظروف باتجاه تأزم حياتها وعدم قدرتها على العيش دون الانقضاض على السلطة الجائرة. ومن هنا تبرز أهمية المعرفة العميقة بطبيعة الجماهير والصراع المادي الوجودي، وعلى الإنتلجنسيا العمل على إذكاء ذاك الصراع، وتقديم الأطروحات والبدائل العلمية لإشباع الحاجات المادية للجماهير، وصياغة فكرها التقدمي في صور مبسطة، تختزن في جوهرها الأهداف الأيديلوجية بعيدة المدى. فالإنتلجنسيا عليها عبء التثقيف الأيديولوجي الثوري للجماهير، ضمن نشاطها الحزبي والنقابي والصحفي وما إلى ذلك، وعليها أيضاً المساعدة في تحقيق هذه المكاسب بعد قيام دولة الثوار على الأرض، وإلا تحولت إلى سلطة مستبدة جديدة.
ويعيش المثقف الثوري متشككاً في كل الأفكار والطروحات القائمة، وفاقداً للثقة بالناس، فهم إما حرس للسلطة المستبدة وعملاء للمحتل، أو ضحايا مقهورون أذلاء لا يقوَوْنَ على التمرد طلباً للعدالة والحرية. وكلما استقرى المثقف الثوري هذه الحقائق في الأحداث التاريخية التي يعاصرها، كلما ازداد اغتراباً، وازداد في ذات الوقت تمسكاً بأيديولوجيته الراديكالية وإيمانه الثوري، أما الكتابة والبحث العلمي والمقاومة المسلحة، فهي أسلحته اللازمة لمقاومة تمزق ذاته، ولتحويل وهنه إلى قوة، وحيرته إلى يقين. ووفق هذه الرؤية ليس من الإنتلجنسيا من يعلم ومن يريد فقط، ولكن من يعمل على محاربة الظلم فكراً وواقعاً. والإنتلجنسيا التي تعبر عن نفسها في أطر جماعية منظمة، كالأحزاب والمجاميع الفكرية أو المسلحة، تكون أقل اغتراباً، بعد أن تخلق مجتمعها النقي داخل المجتمع الآسن، وهي أكثر راديكاية وأقدر على إحداث الفعل الثوري والتغيير.
الإنتلجنسيا يكبر في أعماقها إحساس دفين بالظلم، يشكل في مجمله، ونتيجة لتعاظمه وتداعياته، سبب اغترابها، ويمثّل محرّكها ودافعها للتغيير؛ في حين أن الحرمان المادي، وتهديد المصالح الشخصية هو سبب اغتراب البروليتاريا والجماهير ضد الظلم، ثم هو سبب انتفاضتها. لذلك تشكل الإنتلجنسيا ضمير أمتها والقوة الحقيقية الدافعة للتغيير وإحقاق الحق، في الثورة والحكم، وهي لا تتوقف عن الكفاح والتحريض على التمرد ومقارعة الظلم حتى تحقق العدالة منهجاًً وواقعاً في مدينة فاضلة.
الكاتب حاصل على دكتوراة في القانون الدولي الإنساني
[email protected]