أرشيف - غير مصنف

نكبتنا أكبر في ذكرى نكبتنا

 

نكبتنا أكبر في ذكرى نكبتنا
مصطفى إنشاصي
اعتدنا ككتاب فلسطينيين وعرب في ذكرى النكبة الكبرى للأمة ـ ضياع فلسطين 1948 وإقامة الكيان الصهيوني ـ منذ اثنان وستون عاماً على إعادة إنتاج ما كتبناه أو كتبه غيرنا، وتكرار نفس المعلومات والأفكار التي لم يعد الكثيرين من القراء أو المشاهدين للفضائيات يرون فيها جديد، لأن الغالبية العظمى من الكتاب والمحللين والمفكرين يقدمونها بنفس الرتابة التي اعتادوا عليها كل عام، اللهم إلا تغيير في صيغة تقديمها وربطها بما يستجد من أحداث في الواقع لدى بعض المحللين أو المفكرين! وكل عام نسمع ونقرأ ونكتب عن دور بريطانيا في نكبتنا، بدءً من (وعد بلفور) الذي قطعته على نفسها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطيننا، وعن إجماع الدول الغربية على ذلك الوعد، وخاصة الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، التي ربطت تنفيذ الوعد بصك الاحتلال (الانتداب) لبريطانيا على فلسطين، وشرط تهيئة الظروف في فلسطين لإقامة الكيان الصهيوني وغير ذلك.
كما واعتدنا على الحديث عن الخلافات العربية، والدور المتخاذل أو المتآمر للعرب وقصورهم في الدفاع عن فلسطين وضياعها، سواء دور القيادات العربية قبل تأسيس جامعة الدول العربية أو بعد ذلك، ودور الجيوش العربية في إضاعة فلسطين، على تفاوت في ذلك بين الكُتَّاب كلٌ بحسب توجهه وقربه أو بعده عن الأنظمة الحاكمة …إلخ مما له علاقة بالمشروع والمخططات اليهودية ـ الغربية، أو الدور العربي الرسمي! والقليل القليل جداً الذي يتعرض لدور القيادات الفلسطينية في إضاعة فلسطيننا، سواء قصور تلك القيادات في إدراك أبعاد المشروع الصهيوني، والتحالف اليهودي ـ الغربي، أو قصورها أو قل خطأ قراءتها هي والنخب الثقافية والفكرية التي كانت ملتفة حولها لحقيقة الهجمة اليهودية ـ الغربية ضد الأمة والوطن، أو المرور مرور العابر ـ إن حدث ـ على أن من أسباب ضياع فلسطيننا تلك الخلافات الحزبية والصراعات العائلية والعشائرية التي كانت تقود تلك الأحزاب أو بعض جماعات المقاومة، وغيرها التي حكمت العلاقة بين تلك القيادات الفلسطينية التي قادت العمل السياسي أو العسكري، مما أدى إلى ضياع تضحيات الجماهير الفلسطينية ومعاناتها التي سببتها لها سياسات وممارسات الاحتلال البريطاني الوحشية وهي تعمل على تهيئة الظروف لإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، التي ضاعف منها احتضانها للثورة ودعمها لها وتقديم كل ما توفر لها من إمكانيات، ولم تحقق تلك القيادات بسبب صراعاتها وخلافاتها الشخصية والحزبية والعائلية أهداف الجماهير الفلسطينية في الحفاظ على أرضها.
أو قد يكتب أو يتحدث البعض على استحياء ـ ونادراً ما يحدث ذلك ـ عن استغلال بعض قيادات الثورة والمقاومة قبل النكبة نفوذها في تصفية ثارات قديمة لها مع عائلات فلسطينية أخرى، مما تسبب في حالة من الريبة والشك والخوف والعداء عند البعض تجاه المقاومة والثوار، مما أضعف من كسب الثورة لتأييدهم ودعمهم، وتسبب في إحداث حالة من التفكك والتمزق والصراع الاجتماعي في جزء قليل أو كثير من الجماهير تجاه الثورة، وأصاب البعض باليأس من الثورة وقدرتها على الحفاظ على الأرض والوطن، وتحريره من المحتل البريطاني، ووضع نهاية قريبة وحاسمة للمشروع الصهيوني في فلسطيننا.
والأهم من ذلك كله والأخطر؛ أننا لم نجد من أولئك الكتاب والباحثين والمفكرين والمحللين على كثرتهم؛ حضور إعلامي وفكري، ودراسات تاريخية موثقة، وتحليلات سياسية مستمرة، تُركز على خطأ النهج السياسي الذي كان هو النهج الأساس الذي انتهجته القيادات السياسية الفلسطينية منذ الاحتلال البريطاني لفلسطيننا عام 1917، واتخذته وسيلة وحيدة وأسلوباً شبه يتيم لمواجهة المخطط اليهودي ـ الغربي، والعصابات الصهيونية اللذان كانا يؤسسان وطناً لشذاذ الآفاق من اليهود الصهاينة على الأرض الفلسطينية، وما مارسته بعض تلك القيادات من دعم أو تأسيس بعض الجماعات المقاتلة والقيام بحرب عصابات ضد مواقع عسكرية ومراكز شرطة وغيرها للمحتل البريطاني، أو من هجمات على المغتصبات الصهيونية وقوافل المغتصبين الصهاينة هنا أو هناك، لم يكن نابع من خلال قناعة قوية بأنه السبيل الوحيد للحفاظ على الوطن وتحريره ونيل الاستقلال وإجهاض المشروع الصهيوني، ولا من خلال رؤية إستراتيجية وإدراك لأبعاد المشروع اليهودي ـ الغربي ضد الأمة والوطن، وأنه لا يمكن ومواجهته والتصدي له وإفشاله إلا من خلال المقاومة المسلحة والقوة العسكرية، ولكن كانت أعمال متفرقة هنا وهناك لا تنطلق من خلال قناعة أو رؤية، وأن الهدف منها هو الضغط على الصديقة بريطانيا علها تنظر لهم بقليل من العطف على أمانيهم كما نظرت لليهود وعطفت على أمانيهم في (وعد بلفور) الذي أصدرته وتعهدت لهم فيه بإقامة وطن قومي لهم في فلسطيننا!.
أي أن الثورة والمقاومة العسكرية التي مارستها بعض وليس كل القيادات الفلسطينية أيام الاحتلال البريطاني لفلسطيننا؛ لم تكن إستراتيجية لتحرير فلسطين من الاحتلال البريطاني، ولإفشال ومواجهة المشروع الصهيوني والقضاء عليه في مهده، لذلك عجزت تلك القيادات ومن ورائها الأنظمة العربية التي كانت مرتبطة وحليفة للصديقة بريطانية آنذاك، عن منع إقامة الكيان الصهيوني وحدوث النكبة وتشريد أبائنا وأجدادنا من وطنهم وديارهم!.
لا نجد تلك الفضائيات والصحف والمجلات اليومية والشهرية والدورية التي تنتشر بالمئات على طول مساحة الوطن، التي تعج بنجومها المفضلين من الكتاب والمحللين والمفكرين الذين انتفخت كروشهم قبل جيوبهم بدولارات الجهات الممولة لتلك الفضائيات، التي تستضيفهم ليقولوا ما تريده تلك الأنظمة الممولة لتلك الفضائيات، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمشروع الغربي ـ الصهيوني، ولا يكلوا ولا يملوا من التكرار الذي حفظه القارئ والمشاهد غيباً، وأصابه بالتخمة الفكرية والتاريخية، واللامبالاة وفقدان الحس، من كثرة تكراره في أسلوب ممل، لا نجدهم يسلطون الضوء على تلك الأوبئة التي أصابت تجاربنا الثورية السابقة، ويظهرونها ويبرزونها للقراء والمشاهدين حتى تتنبه لها القيادات الحالية، أو حتى تتعري حقيقة تلك القيادات أمام الجماهير والشعوب، وتدرك أنه إن كان ضياع فلسطين شكل نكبة كبرى للأمة، فإن نكبتنا الأكبر تكمن في القيادات المعاصرة التي تكرر نفس أخطاء التجارب السابقة، ولا تريد أن تتعلم أو تعترف بخطئها، طالما بقي أولئك المرتزقة من الكتاب والمفكرين هم قادة الفكر والإعلام في وطننا، يبررون لهذا اليوم، ثم ينقلبون عليه غداً ويتظاهرون أنهم يقفون في صف الجماهير والشعوب، ومع القضية ويرفضون التفريط في أي ثابت من ثوابتها، في الوقت الذي لم يتغير دورهم البتة، فهم كانوا بالأمس يبررون لسياسات وممارسات ولي نعمتهم ومالئ جيوبهم وسادد أفواههم وكاسر أعينهم، ويزينون تلك السياسات والممارسات التي أوصلتنا إلى ما آل إليه حال الجماهير والقضية، وينتقدونها اليوم ويشهرون بأصحابها، وكانوا يعتبرونها عبقرية سياسية، وقمة الإبداع والواقعية، وأنها نتيجة قراءة عميقة وواعية للمشروع اليهودي ـ الغربي، واليوم وهم يتظاهرون بأنهم مع الجماهير ومع المقاومة ويقفون إلى جانب القضية ويدافعون عن ثوابتها، ويهاجمون أولياء نعمتهم بالأمس، ويبررون للقيادات الصاعدة الجديدة السائرة على نفس نهج القيادات السابقة، وتعيد تكرار نفس الأخطاء، يبررون لهم نفس ما سبق أن برروا به لأسلافهم، لأنهم لا يدافعون عن قضية ولا عن أمة  ولا عن وطن ولكن عن جيوبهم ونجوميتهم!.
لو كانت تلك النجوم الإعلامية صادقة حقاً في الدفاع عن ثوابتنا الوطنية، وحريصة على عدم ضياع الوقت في تكرار تجارب ماضية فاشلة، لقاموا بدورهم الذي يجب أن يقوموا به، وكما ينتقدون المفرطين المستسلمين الانبطاحيين الانهزاميين …إلخ من مفردات قاموسهم التي يطربوننا بها وهم يشدون ويغردون بأصواتهم المزعجة على الفضائيات، لو كانوا صادقين حقاً أنهم يدافعون عن ثوابت القضية والأمة؛ لكانوا نصحوا بصدق للقيادات الجديدة والقديمة، ولما انتهجوا أسلوب التهييج لمشاعر الجماهير وتحريضها ضد طرف لصالح طرف، دون مبالاة بعواقب وخطورة ذلك الأسلوب الغوغائي على القضية ووحدة الصف الفلسطيني، خاصة بعد أن حدث الشرخ الذي شرخ قلوبنا، ووحدة قضيتنا، وهم مازالوا ينفخون في نار الفتنة سمومهم من أجل حفنة من الدولارات.
لو كانوا صادقين حقاً لسلطوا الضوء على خطأ النهج السياسي للقيادات الفلسطينية، وخطأ الارتباط بالأنظمة العربية وليس الجماهير قبل النكبة عام 1948، وأبرزوا صحة الرؤية التي كان عليها الثوار والمقاومة، وخاصة الشيخ الشهيد (عز الدين القسام) ورفاقه من بعده، الذين لم يوقفوا المقاومة يوماً، ولم يستجيبوا لا لنداءات الزعماء العرب، ولا لوعود المحتل البريطاني، ولم ينخرطوا ولا انشغلوا في صراع أو خلاف مع القيادات الحزبية والعائلية على سلطة أو منصب، ولم يلوثوا سلاحهم بدم فلسطيني أو عربي، وأنهم كانوا أوفياء بحق لنهج شيخهم القسام، وخير مَنْ صدقوا مع الله ثم شعبهم وأمتهم، ونهجهم الذي رفع شعاره الشيخ الشهيد:
هذا جهاد: نصر .. أو استشهاد
لو كانوا صادقين لقاموا بدورهم في توجيه النصح والإرشاد، وتسليط الضوء على انحراف القادة المعاصرين الذين خدعوا الجماهير برفعهم لشعار القسام وانحرافهم عنه .. لو كانوا صادقين لكشفوا زيف شعاراتهم وحملوهم على العودة لها وتصحيح الانحراف الذي حدث قبل أن يكبر ويستفحل ويستعصي عن العلاج كما هو الآن، بدل أن يقوموا بدور التبرير له كما برروا لسابقيهم!.
لو كانوا صادقين لاعترفوا أنهم أخطئوا في دورهم الذي قاموا به طوال عقود من التبرير للنهج السياسي الفلسطيني والعربي سابقاً، قبل أن يقوموا بمهاجمته الآن، لأنهم هم أنفسهم الذين كانوا أبواقه الإعلامية التي تدافع عنه وتزينه للجماهير على أنه قمة العبقرية السياسية .. وكانوا صححوا اليوم من خلال إدراكهم لخطئهم وخطأ تلك التجربة التي شاركوا في صناعتها وتكريسها نهجاً فلسطينياً وعربياً لتحرير فلسطين، خطأ القيادات الحالية التي تريد أن تعيدنا إلى نقطة الصفر التي بدأت منها تلك القيادات، عندما رفعت شعار الحصول على الشرعية السياسية بعد أن حصلوا على شرعية المقاومة، وكيف أن سعيهم للحصول على الشرعية السياسية كان سبباً في ضياع القضية وما آل إليه حالنا الذي لا يسر لا عدو ولا صديق، وشارفت القدس على الضياع النهائي، والمسجد الأقصى على الهدم وإقامة (هيكلهم المزعوم) مكانه، وهم مازالوا يهاتون بنفس كلامهم وتحليلاتهم السابقة المدمرة للقضية والأمة.
لو صدقوا لقالوا: لا لتكرار تجربة أورثتنا ما نحن عليه الآن، وأن تكرارها يعتبر جريمة في حق الأمة والوطن، وخيانة مِن كل مَنْ يبرر ويروج لها لدم الشهداء وتضحيات الأمة، لو صدقوا لقالوا الكثير والكثير للقادة والسياسيين من كلا الطرفين، ولما صمتوا أو شاركوا في نكبة أكبر للأمة كل عام في ذكرى النكبة لأجل حفنة دولارات…!!!

زر الذهاب إلى الأعلى