ولكن، لحظة من فضلك. يحتاج الأمر شيئا من استعادة العقل، وشيئا من مساءلة الوقائع عما انتهت اليه في هذا البلد.
انظر الى الأمر مقلوبا، أولا، لعلك تراه أوضح.
لو كانت توجد في إسرائيل حكومة فساد وفوضى، وانتهاكات ضد حقوق اليهود، فمن سيكون المستفيد الأكبر منها؟
أقصى "التشدد" الفلسطيني سيكون هو المستفيد قطعا. فوجود حكومة كهذه سوف لن يجعل الكيان الصهيوني مهترئا، فحسب، بل انه سيصيب بالهزال كل مشروعه السياسي أيضا. ومهما كان خطابه في عين أهله مشروعا وجديرا بالبقاء، فان "حقه في الوجود" سوف يتبدد ويقلب "الإمكانية" الى وهم.
والحال، فان أقصى "التشدد" الصهيوني والاستعماري هو المستفيد الأوحد من أي نظام فساد وفوضى وانتهاكات، حتى إذا كان يتبنى سياسات يزعم انها مناوئة "للإستعمار والإمبريالية"، بل وخصوصا إذا كان يغطي فساده بها.
وفي المقاربة بين الفساد والمشروع القومي، فالشاعر يقول: لا تربط الجرباء قرب صحيحة- خوفي على تلك الصحيحة تجربُ.
فربط المشروع القومي بنظام فوضى وفشل، إنما يصيب المشروع الصحيح بالجرب.
أحد وجوه مأساتنا هي ان المشروع القومي يواجه مأزقا، وخيارات صعبة. وحيث لم يبق لنا إلا القليل من الخيل التي نسرجها في السعي لتحقيق تطلعاتنا القومية، فان التعويل على الوهم يبدو، بالنسبة لبعضنا، نوعا من أمل الغريق الذي يتعلق بقشة.
بالرغم من كل خطابه القومي وشعاراته المناهضة للإستعمار والإمبريالية، يجلس الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي على عرش إمبراطورية فساد وانتهاكات وجرائم.
البعض يحاول تبرئته من المسؤولية. وهو يستحلي الفكرة. ولكنه راع. والراعي مسؤول عن رعيته.
والرعية في ليبيا تفقر وتجوع وتعاني من البطالة. وليس من المعقول ألا يكون الراعي مسؤولا.
لا يخدم القوميون إلا أعداءهم عندما يعولون على مؤسسة فاسدة ومهترئة، بشهادة أبطالها أنفسهم. فما بالك بالتقارير الدولية التي تضع ليبيا بين الدول الاكثر فسادا في العالم (المرتبة 130 حسب تقرير منظمة الشفافية لعام 2009).
القوميون لا يهينون إلا قضيتهم عندما يتخذون من مؤسسة سلطة كهذه مرجعا، أو مصدرا للمساندة والدعم.
والقضية القومية لا تهزم إلا نفسها عندما تنتهي بخطاب عشوائي وفوضوي كالخطاب الذي يتبناه العقيد القذافي.
وعندما يرى الكل انه خطاب لا ينطوي، بالأحرى، على أي قيمة فكرية، فأن الإتكاء عليه يجعل من المستحيل لهذه القضية ان ترسي أساسا لرؤية تحررية صادقة.
نعم، احزابنا وحركاتنا الثورية بحاجة بالفعل الى دعم ولكنها، بالتأكيد، ليست بحاجة الى "أي دعم".
لقد دعم الزعيم الليبي الكثير من الأحزاب والحركات "الثورية". ولكن أنظر الى النتيجة، وسترى أين انتهى الجميع.
من الحق تماما أن يقول قائل: وما ذنب العقيد القذافي، إذا ظهر ان الثوريين الذين ظل يدعمهم لم يكونوا ثوريين كفاية، بل وما ذنبه إذا تكدست عليهم الضغوط فتراجعوا أو فشلوا؟
وهذا كلام حق. ولكي لا يكون المراد منه باطلا، فمن الحق أيضا أن ليبيا لم تقدم نموذجا جديرا بالاحترام، لا بمشروعها التحرري، ولا بمشروعها التنموي. ومثلما انتهت الى نظام يقوم على الإرتجال والعشوائية، فقد انتهى خطابها السياسي الى كلام يسير في اتجاه، ووقائع تسير في الاتجاه المضاد.
هذا الواقع هو الذي حوّل الدعم الى رشوة.
فالمشاريع الثورية قد تحتاج الى المال، إلا أنه يفسدها ويمزق صفوفها إذا انتهى بضياع النموذج وتداعي الأفكار وخسارة الرؤية.
والرشوة، قد تنتج ثوريين فاسدين، إلا انها لا تبنى مشاريع، ولا تؤسس لأعمال تحررية حقيقية.
ومثلما انتهت ليبيا من دون نموذج، فقد انتهت رشاويها الى فساد سياسي تام، حوّل أعتى التحررين الى رجال مساومات وتنازلات ورهانات بائسة.
لو كانت ليبيا تعرف ماذا تريد، ولو كانت تعرف ماذا يتطلب مشروعها التحرري لكي ينتصر في ليبيا نفسها، قبل الخارج، لكانت قد شكلت ركيزة للمشروع التحرري العربي برمته.
ولكنها فشلت.
أفسدها فقر الرؤية، فزادها غنى المال فقرا!
الدول حتى ولو كانت فقيرة، فانها يمكن ان تنهض إذا عثرت على رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية ثاقبة للتنمية. ولكنها تنهار وتنهزم إذا تعثرت رؤيتها حتى ولو كانت غنية.
وقد بدت ليبيا لنفسها غنية لبعض الوقت. ولكن غناها كان زائفا. فالنفط لم يكن ثروة معرفة، ولا ثروة موارد بشرية، ولا ثروة انتاج متجددة، بل مجرد "ثروة" تنقيب واستخراج. وحتى هذه، فغالبا ما تكفلت بها خبرات أجنبية. فانتهينا من "الثروة" بحساب يكبر في المصارف الأجنبية، لا بمجتمع يكبر بالموارد التي ينتجها أبناؤه.
وأين يذهب حساب المصارف عادة؟
أولا، الى شركة انتاج الأسلحة.
ثانيا، الى "شركات" تمويل الأيديولوجيات الثورية.
ثالثا، الى جيوب بيروقراطية الفساد.
رابعا، لشراء قصور لأركان البطولات الإصلاحية (في الخارج، لا في وطنهم، ومن دون خجل).
خامسا، لتمويل مشاريع سياسية سوريالية في أفريقيا.
سادسا، للمضاربة في بورصات الاستثمارات الخارجية.
سابعا، لرهن مصير النفط نفسه بشركات اجنبية….الخ.
حتى لم يبق لليبيين إلا اللظى، وليجد هذا الشعب نفسه يتقلب بين رمضاء الكلام التحرري الذي لا مدلول عملي له من جهة، ونار الفشل الاقتصادي الذي تتراكم بلاءآته كل يوم من جهة أخرى.
أولى بالتحرريين العرب أن يأخذوا من ليبيا العبرة.
والعبرة هي: من لا خير له بأهله، لا خير فيه لأي قضية. ولا يجدر تصديقه بأي أغنية.
وحال الليبيين بالويل اقتصاديا واجتماعيا. وخطابهم السياسي يعدهم بالثبور، وبمؤسسة سلطة لم تعرف كيف تدير مدارس لأبنائها، ولا أن توفر لهم ضمانات من قبيل الحد الادنى، وذلك حتى وهم ينتجون ما يناهز مليوني برميل نفط يوميا، على مدى 40 عاما! فانتهوا بمنشآت لا يكتمل بناؤها، وطرقات محفرة، وأحياء لا أسماء لها، وبطالة من أعلى المعدلات في المنطقة، وفقر يشمل شريحة واسعة، ومتضخمة، من المحرومين.
أكانت هذه هي الثورة؟
راجع الأرقام الرسمية الليبية لتعرف حدود الكارثة التي ترزح تحتها ليبيا.. الثورية، والقومية.
وأسأل نفسك: هل في هذه الأرقام ما يستحق أن يكون مصدرا للثقة بخطابها القومي؟
المشروع القومي الذي ينتهي الى أن تكون ليبيا (بفشلها الاقتصادي والإداري) سنده وراعيه، من الأولى التخلي عنه. فأي شيء آخر سيكون أنفع وأبقى.
وعندما يجلس العقيد القذافي على عرش دولة فساد وفوضى وانتهاكات، فان آخر ما يمكن انتظاره منه هو أن يقدم خدمة لأي قضية تحررية.
أولى بالتحرريين، إذا سمعوا أناشيده، على هذا الرصيف، أن ينتقلوا الى الرصيف الآخر.
فهذا أضمن لأفق تطلعاتهم التحررية، وأكثر جدوى من الناحية المادية. على الأقل، فان تحاشيه سيكون مصدرا لفوضى أقل، ولرؤية أكثر نضجا.
وما لم يكن المشروع التحرري مشروعا تنمويا ناجحا، تبرهن عليه دلائله الاقتصادية والاجتماعية، فالعيش من دونه أفضل. لأن فشله سيكون بمثابة إهانة للفكرة، وإطاحة للأمل.
لقد عادت ليبيا لتنشد لقضايانا القومية. والفقر فيها ينشد أيضا. فأي النشيدين أولى بالإهتمام؟
كن صادقا، وأجب، وستعرف ما إذا كنت ثوريا أو قابض رشوة.
www.mutawassetonline.com