أرشيف - غير مصنف

التغيرات الدراماتيكية في الساحة الدولية ورياح الاغتنام الفلسطيني. عملية تحول أم مجرد اختراقات محدودة في الجدار المنيع؟

بقلم/ فهمي شراب*
مقدمة:
تتراكم الأحداث تباعا، وتتزاحم المواقف تلو المواقف، لتتكون قناعات جديدة لتمحو قناعات قديمة كنا نظنها قدر ثابت لا يتغير، ولا ينفع معه ابتهال أو تفاؤل أو أمل، جزء غير يسير من النظرية القدرية ترى أن الإنسان مُخَيَر، وعليه، فان نظرية المؤامرة والتسليم الأعمى بان هناك أيد خفية تحيك خيوط المؤامرة تتعدى حدود قدرتنا، وتتجاوز عقولنا، أصبح ضرب من الوهم، وملاذ ومهرب لدعاة الاستكانة والسبات الشتوي الغير معلوم الأجل.
يتجلى ذلك للناظر والراصد لما يطرأ على ساحة الأحداث اليومية ومن خلال تسارع وتغير في  الأفكار والتصورات النمطية، مناطق كثيرة أصبحت مستباحة للمرة الأولى في الجسد اليهودي الإسرائيلي،  فبعد أن كانت فكرة التعرض للحديث عن مجرد عدم دقة الرواية الإسرائيلية للمحرقة والتشكيك فيها يعتبر من التابوهات، وقد يتعرض لملاحقة وأذى مثلما تعرض "روجيه جارودي"، هناك الكثيرون الآن يتحدثون عن كذب الرواية الإسرائيلية ومنهم يهود غربيون، وينادون بتفكيك الدولة الإسرائيلية ووقف سياسة الاستيطان، إذن، نحن سنشهد رؤية نسخ كثيرة من أمثال المفكر المعارض للسياسة اليهودية والذي مات في صمت ولم يرثيه احد من اليهود "إسرائيل شاحاك". 

مرحلة تحول هامة تترجمها الأحداث: (إرهاصات التآكل من الخارج):
مثلما ساعد العالم الخارجي والقوى الخارجية في إقامة دولة إسرائيل والتي لولاها ما قامت إسرائيل، فقد تكون هذه القوى سبب إضعافها والقضاء عليها إذا ما أحسن استخدامها وتطويعها.
كتب كثيرة ككتاب "كيف تم اختراع الشعب اليهودي" للمؤلف والأستاذ الجامعي اليهودي "شلومو صاند" تغوص في حقائق لم يكن مسموح بها أبدا. كتب تؤلف ودراسات متعددة في بريطانيا وأمريكا وغالبية دول الغرب تأتي على ذكر اليهود كمخربين ومشوهين للحقائق وكمحتلين وكنازيين وكدولة إرهاب، على مستوى الدول وعلى مستوى الأفراد والجماعات، فمؤخرا وبسرد رمزي بسيط للوقائع، وعلى مستوى الدول جاء خبر بعنوان "ايطاليا تسحب تأييدها المطلق لإسرائيل بعد أن تحولت إلى دولة منبوذة" ووصفت ايطاليا ب " البطة القبيحة" اثر تأييدها المطلق لإسرائيل في السابق من قبل دول الاتحاد الأعضاء وليس من دول عربية. إضافة إلى مواقف دول أوروبية متقدمة مثل السويد في الإصرار على كشف أن إسرائيل تسرق الأعضاء البشرية للشهداء، والنرويج التي تتبنى حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية.
وعلى مستوى الأفراد فقد عبرت "سيسيل موزا" سيدة فرنسية تدير فندقا صغيرا في النرويج عن كرهها وغضبها من اليهود ورفضت استقبال يهودي وزوجته في فندقها تعبيرا عن رفضها لسياسة إسرائيل العدائية والعنصرية والتي تعتبر خطر على السلام العالمي والتي تمارس أبشع أنواع عمليات الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وأنها ليست الوحيدة بل هناك الكثير والأغلبية لديهم نفس القناعات، والكثير يرفض استقبال اليهود كما ورد في جوانب أخرى من الخبر أن أطفال النرويج يقاطعون البضائع الإسرائيلية، إضافة إلى مقاطعة الاتحاد العام لنقابات العمال البريطاني المنتجات الإسرائيلية بعد العدوان على غزة .

وعلى مستوى الجماعات فالفرق الرياضية اليهودية تعاني عزلة تامة ولا يفككها مال ولا أي إغراء إلا التخلي عن سياسة الدولة الإرهابية.
ناقوس الخطر يدق وجاري البحث عن أمريكا بديلة :
ليس فقط جماعة ناطوري كارتا الذين يعارضون فكرة إقامة الدولة الإسرائيلية فهناك جمعيات وجماعات في الداخل والخارج تعارض سياسة إسرائيل وتنذر بان إسرائيل بدأت في التآكل ليس فقط من الداخل ولكن أيضا من الخارج، فإسرائيل تؤمن بنظرية الولاء للأقوى، وحين تسقط النظرية الرأسمالية كما سقطت النظرية الاشتراكية ستكون كارثة بالنسبة لليهود، حيث إن نفوذهم وتكتلهم في الولايات المتحدة جعل البعض يقول بان نسبة اليهود في أمريكا 350 مليون يهودي ( أي عدد الأمريكان) للتعبير عن شدة التداخل في المصالح والانسجام التام والتأثير اللوبي والذي يقدر البعض أن نسبة اليهود تمثل 5 بالمائة وبعض التقديرات تذكر بان عدد اليهود يقارب من ال 7 مليون يهودي فاعل يقابله اقل من مليونان في أوربا كلها والأكثر نسبة عددا وتأثيرا في فرنسا.
وبعد الأزمة الاقتصادية التي هزت الولايات المتحدة لتكشف عن خلل في المنظومة الرأسمالية توقع كثير من علماء المسلمين بها منذ زمن، كما توقعوا بانهيار المنظومة الاشتراكية بدأ اليهود يبحثون عن منطقة نفوذ أخرى وشدوا الرحال إلى الصين، حيث بدأ كثير من اليهود بنقل استثماراتهم إلى الصين كقوى صاعدة لها مستقبل واعد في التأثير على العالم ولعب دور إقليمي و دولي على المستوى القريب.
إسرائيليا: اتسع الخرق على الراقع

لأول مرة تنشط حملات مناهضة للعنصرية الصهيونية بشكل علني، وبشكل جريء لم يعهده المجتمع الدولي، فالمشاهد يلحظ أن تغير كبير قد طرأ وطفرة كبيرة قد تحققت،بشأن الصورة النمطية عن إسرائيل، فبعد عملية الرصاص المصبوب في قطاع غزة، نشطت حملات التضامن مع القضية الفلسطينية بشكل عام وكشف الزيف اليهودي بشكل خاص، فقد أصبحت عمليات المقاطعات والتشويش على كل سفير أو مسئول إسرائيلي يلقي كلمة في أي جامعة غربية يقابله اعتراض جماهيري طلابي عريض أمر طبيعي ومتوقع، لدرجة إلغاء الكلمة والخروج بشعور الإحباط جارا أذيال الخيبة في كثير من الأحيان، فقد ضُرب السفير الإسرائيلي في السويد بالحذاء بينما كان يحاضر في جامعة استكهولم، وضرب السفير الإسرائيلي بالبيض في إحدى الجامعات التركية وطرد وهو يولي الأدبار، وحتى في جامعة كاليفورنيا فقد فشل السفير الإسرائيلي مايكل أورين في إلقاء خطابه بسبب الطلاب المعترضين على السياسة الإسرائيلية وأصبحت فضيحة على الملأ.
تداعيات جولدستون وتداعيات اغتيال المبحوح أيضا كانت لها انعكاسات كبيرة لم تكن تتوقعها الحكومة الإسرائيلية، حيث هربت سيفي ليفني بأعجوبة من الاعتقال في بريطانيا ومعظم قادة الجيش الإسرائيلي ملاحق قضائيا ومحظور عليهم السفر والتنقل كما كان في السابق وفي سابقة لم نشهدها في تاريخنا المعاصر بسبب نشاط قوى المجتمع المدني المتزايد، وهيئات حقوق الإنسان ومنظمات القانون الدولي الإنساني..

أمم نهضت من تحت أنقاض الركام: 
لم يأت المفكر والمؤرخ الأمريكي " ارنولد تونبي" بمقولة " أن الدرس الوحيد الذي قد نستفيده من التاريخ هو أن لا احد يستفيد من التاريخ" من فراغ، فها هي الدول العربية تمثل اكبر دليل على صدق هذه المقولة، ولكن في المقابل هناك نماذج أخرى غربية قد قامت من تحت الركام كالعنقاء التي تنتفض من تحت الركام، لتمثل نموذجا رائعا للإرادة الشعبية الحية وسياسات تنموية و تخطيط استراتيجي حكومي ناجح.
العديد من الأمم نهضت بعدما منيت بهزائم كبيرة وويلات عظيمة، إذ العنصر البشري هو الأهم صاحب العقيدة والقناعة، ولدينا من التاريخ كثير من الأمثلة منها:
ضربت اليابان في الحرب العالمية الثانية وأبيد اغلب سكانها، وحتى هذا اليوم يعاني البعض منها من اثر العدوان،  وها هي الآن قوى اقتصادية عظمى تنافس الولايات المتحدة ينقصها فقط "ضغطة زر" أي قرار لتكون قوى نووية.

كما ضربت ألمانيا وفرضت عليها شروط مجحفة وها هي قوة عالمية، لا ينقصها سوى أن تكون عضو مجلس امن دائم ولكن حظها كانت من دول المحور ولم تكن من دول الحلفاء.

في روسيا راح ضحية الحرب أكثر من30 مليون نسمة وها هي رغم إتباع سياسة  "البيروسترويكا" و"الغلاسنوست" تبقى قوى عظمى.

كانت الهند تأتي في مراحل متأخرة مقارنة بمصر غير أن الهند الآن برغم فقرها وندرة مواردها قفزت وتخطت مصر بمراحل حيث تعتبر قوة اقتصادية رئيسية صاعدة بسرعة في الساحة العالمية، وتستطيع أن تقول "لا" للولايات المتحدة الأمريكية عند تهديد مصالحها. ولا تعتمد البتة على معونات سنوية ثابتة.

الصورة الفلسطينية: تهب رياح ولا احد يغتنمها:
تحدث قبل أعوام قليلة على قناة الجزيرة البروفيسور أكمل الدين اوغلو وذكر بان الدول العربية تتقدم وان كان ببطء نحو الازدهار، وضرب مثلا بالنمور الأسيوية والتكتلات الأسيوية التي حققت عدة نجاحات و تتسابق الآن مع الدول العظمى في عدة مجالات، وهكذا فسوف تذوب الفوارق بيننا وبين إسرائيل ونملك بعد عدة سنوات ما تملكه إسرائيل ويصبح السلاح الذي بين يديها لدى الجميع وستفقد عنصر الاحتكار، وبهذا الشكل تحقق الدول العربية أهدافها ويكون حل قضية فلسطين سهل التحقق. يحمل هذا الكلام في طياته الكثير من الرؤية الصحيحة ولكن يعوزه أيضا جهد كبير في لم شمل الأسرة العربية، فهذه الأسرة ما زالت هشة وعلاقاتها البينية ضعيفة ولا تملك تمثيل قوي من خلال تجمعات وتكتلات مثل ما نراه في جنوب شرق آسيا، إن كانت مباراة لكرة القدم بين دولتين عربيتين شقيقتين فعلت ما فعلته من تصدعات وانتكاسات في العلاقات، ويضن كل طرف على الآخر بمجرد اعتذار لإذابة جبل الثلج، ولم يسوى الخلاف بعد، فكيف سيكون الحال لو طلب التنازل من كل دولة عن جزء من سيادتها من اجل تكتل واتحاد كبير مشابه للاتحاد الأوربي؟
فحجم العلاقات العربية- العربية ما زال لا يتخطى 7 %، وتداعيات الاختلاف والفرقة بين الدول الأشقاء، وانسحبت تداعياته على القضية الفلسطينية بشكل جلي، وحتى لدرجة انه اثر في النسيج المجتمعي الفلسطيني الداخلي، فماذا ننتظر كفلسطينيين؟ اقل ما نفعله أن لا نكون متفرقين مشتتين يشمت فينا العدو ويعطف على حالنا الصديق معنويا.

 

لا احد يستطيع أن يكون فلسطيني أكثر من الفلسطينيين:
لا يمكن لأحد فعل شيئا لنا على طريق التحرر إلا إذا كانت هناك وحدة بين الفلسطينيين وجاهزية لاقتناص الفرص، من بين سياسات الاتحاد الأوربي الخطيرة انه يسعى لإنشاء علاقات بينه وبين كل دولة عربية على حدة ليحسن استغلالها والتحكم بها، والانقسام على الساحة الفلسطينية واستمراره مطلب وهدف يهودي اسرائيلي استراتيجي، وإسرائيل تسعد لو بقينا طرفين فلسطينيين تزرع ما تريده من بذور الفتنة كيفما تشاء، وتنمي مشاعر الكره بين الأطراف المختلفة، وكل يوم يولد في عمر الانقسام يطيل في اجله ويصعب من نجاح فرص المصالحة، وقد كان كل ما اسعد "شمعون بيريز"  حسب ما ذكره ، هو حدثين في كل حياته، الأول، يوم أن أصبح رئيس وزراء لإسرائيل، والثاني، يوم أن انفصلت الضفة عن غزة…
 ولعل ما لم تنقله وسائل الإعلام انه عندما زار وكيل وزارة الخارجية الجنوب إفريقي/ إبراهيم إسماعيل إبراهيم غزة قبل أيام، إذ قال: "لا أريد سماع صوتين فلسطينيين، أريد سماع صوت واحد، وأنا لا استطيع تحريركم انتم حرروا أنفسكم" هو عين الواقع الفلسطيني المرير، وعين الحقيقة.

ماذا نحتاج لإدراك واقعنا الحالي ؟

بعد هذا الإدراك لحقيقة المأساة الفلسطينية، نحن نحتاج لمعجزة من اجل الخروج من هذا الواقع المأزوم، وبشكل ابسط نحن نحتاج للوصول أولا لمرحلة الصفر من اجل انطلاقة صحيحة.
 هذا الواقع المأزوم لم يكن يتمناه أي فلسطيني وطني حر، وهذا يحتم أن تتضافر جميع الجهود، من اجل إتمام المصالحة الفلسطينية، وبعد ذلك، وان تمت المصالحة، والتي أراها بعيدة التحقق بسبب عوامل داخلية وعوامل خارجية، فنحن أمام أزمة جديدة اكبر وأعمق وهي الاصطدام بالواقع الدولي الذي يريد أن يفرض إرادته وشروطه على جميع الأطراف الفلسطينية، ويحدد من يبقى في الحكم ومن يخرج من الحكم، بشكل انتقائي جائر، الأمر الذي سوف يتطلب إما تغير في طرف من  الأطراف الفلسطينية ليتواءم مع المطالب الدولية و ليفقد بالتالي هذا الطرف الفلسطيني المبرر الذي يقوم عليه، ويستمد شرعيته منه، إما تغير في اللجنة الرباعية وشروطها المنحازة لإسرائيل، وهذا الأخير شيء ليس مستحيلا بل يتحقق مع الوقت وحسن استخدام أدوات القوة المتاحة ، والحديث بصوت واحد و يحتاج لجهد جماعي وتوافق وطني فاعل وهذا الأمر الأخير غير متوقع في الوقت الراهن لعديد من الأسباب التي نعرفها ولكن ليس ها هنا مجال الحديث عنها.

فهمي شراب
أستاذ محاضر في الجامعات الفلسطينية – غزة
باحث في العلاقات الدولية
[email protected]
 

زر الذهاب إلى الأعلى