في رواية " الحروب الصليبيّة كما رآها العرب " يطلّ الكاتب " أمين معلوف " (1) على حروب " الفرنجة " متتبعا خطواتها منذ وصولها إلى تخوم دولة السلاجقة الأتراك ، و حتى احتلالها القدس ، و فشل هذه الحروب.. معتمدا في تتبعه على التقويم الزمني الغربي ( الميلادي ) .. مدققا ، و محققا في بطون كتب التراث التاريخي العربي التي تحدثت عن هذه الحروب ..ناقلا بأسلوبه السلس غير الممتنع عن ابن القلانسي " ذيل تاريخ دمشق " و ابن الأثير " الكامل في التاريخ " ، و ابن العديم " تاريخ حلب " ، و أسامة بن منقذ بالإضافة إلى ابن شدّاد ، و أبي شامة و عماد الدين الأصفهاني.. و لقد استطاع ، و بدون نزعة عنصريّة مذهبيّة أن يقدم صورة واضحة ، و جليّة عن هذه الحروب ، و حال المسلمين ، و العرب ( خصوصا ) في تلك المرحلة التي لا تختلف كثيرا عن هذه المرحلة التي يعيشها هذا الوطن من ويلات جلبها عليه نمط معين من الحكّام " نصف آلهة ، و نصف مخلَدين " رهنوا مقدرات دولهم .. و شعوبهم التي يحكمونها بالحديد ، و النار ، للدول الصليبيّة الغربيّة ..و استعانوا على أمورهم ببطانة فاسدة ، حاقدة .. يقودها أيضا نمط معين من رجال امتهنوا " الأمن ، و المخابرات " ، و كأنّما خلقوا لهذا العمل ..
أين تكمن مصيبة المسلمين ؟؟ :
إن امتداد رقعة الدولة المسلمة التي بسط نفوذها " أمراءُ مؤمنين من قريش " جلبت الويلات على الشعوب المسلمة .. فقتل من المسلمين على مذبح المطامع الشخصيّة لهؤلاء الأمراء أكثر مما قتل في حروب مدّ السيطرة " أو الفتوح الإسلامية " ..
تكمن المصيبة الأولى في العدد الهائل من الجواري ، و المحظيّات ، و ما ملكت الأيْمان حيث أنّ هذه " الشعوب العربية و المسلمة " لم تستطع أن تضع رقابة واضحة على " الجهاز البولي التناسلي " لأمراء المؤمنين ( مع اعتذاري من الدكتور راغب السرجاني ) .. فلعبت الجواري " التركيّات ، و الفارسيّات " لعبتهن في عقل ، و جهاز " أمير المؤمنين هذا ، أو ذاك " ..فأصبحن هؤلاء الجواري ، و خصيانهن ،و أخوالهن ، و أعمامهن ..في غالب الأحيان مسؤولين عن وريث العرش الذي ما إن يبلغ الحلم حتى لا يتورع عن قتل " أبيه " ، أو " أخيه من غير مولّدة " أو " ابن عمّه " .. و أصبح لدى المسلمين خليفة خصيّ " يحكم باسم أمير المؤمنين الذي لم يبلغ الحلم " ، أو وزير فارسي ، أو وزير تركي أو عبد أو مملوك .. أو أم مملوك تقتل بالقباقيب .. و أصبحت قصور أمراء المؤمنين ملعبا يتنافس به " حب السلطة .. و شهوة الحكم، و الدسائس ، و المؤامرات ، و الجنس ، و الشذوذ ، و الحالات النفسيّة المرضيّة للحكام ، و تحكّم الأهواء ، و غيرة النساء ، و رُكب الغلمان ، و كشّ الحمام ، و كثرة المحظيّات ) و كلمة السرّ بسيطة .. واضحة أن يكون أمير المؤمنين " قرشيّا " سواء كان حاكما فعليّا ..أو كان جواز مرور لحاكم غير قرشي يركب على ظهور المسلمين ، و يجعلهم وقودا لماكينة أطماعه الشخصيّة ..فأصبح رأس السلطة فاسدا كائنا من كان …
المصيبة الثانية تظهر في الكثير من الانقلابات على السلطة المركزيّة ( في بغداد ) .. فأصبح كل قائد ، أو أمير أقتطع له خليفة المسلمين أرضا .. أو ولاّه قطرا .. طامعا ، و متأليّا .. ما إن تلوح بوادر الضعف على الساكن بغداد حتى يستأثر بما منحه إيّاه الخليفة .. فتقسّمت ارض الخلافة إلى ممالك ، و أمارات ، و تشرذم الشعب .. و كلّما قوي أمير هنا ، و اشتدّ عوده هناك ، و كثر جنده ، و مرتزقته .. ركب على ظهر الخليفة في ( القصر ) ، و دعا له على المنابر في ( المساجد ) .. و كَثُرت الألقاب ، و حمي وطيس الانتسابات .. فمن ركن الدين إلى ركن الدولة ، و من عماد الدين إلى عماد الدولة .. عبّاسيّون ، و بوهيون ، و سلاجقة .. و إخشيديون ، و أدارسة ، و فاطميون ، و كرد ، و ترك و فرس ، و روم …
و فوق ذلك ، و ذاك أصبح هناك جيش من العاطلين عن كل شيْ إلاّ الفتوى لهذا الأمير ، أو ذاك السلطان .. و هنا تكمن المصيبة الثالثة .. و أصبح لدينا " كتبة السلطان ، و فقهائه ، و الآكلين على مائدته " .. يفتون .. و يُزَينون .. و يقضون بما يريد الأمير .. لا بما يريد الله .. و عليه كانت ارض الخلافة مطمعا لكلّ آفّاق .. انتشر فيها الوهن ، و فُتّ فيها العضد .. و أصبح الناس فيها على دين ملوكهم …
ماذا عن ابن الخشاب :
أ – يقول د . الصلابي ( تبرز شخصية القاضي أبو الفضل بن الخشاب قاضي حلب المعروف في هذا المجال ، فعندما اشتد الحصار الصليبي على حلب عام 13هـ /1119م أقبل القاضي ابن الخشاب يحرّض الناس على القتال ، و هو راكب على حجر وبيده رمح حيث ألقى فيهم خطبة بليغة ، استنهض بها هممهم ، و ألهب مشاعرهم ، فأبكى الناس وعظم في أعينهم ، حتى أقدموا على قتال الغزاة ) .. طبعا (عبارة قاضي حلب ينقصها " الشيعي ") ..و الصلابي هو مرجع راغب السرجاني ( في الحديث عن الحروب الصليبيّة ، و التحريض الفتنوي على الشيعة ) ..و ها تبرز الاستنسابيّة في لَيْ عنق النص التاريخي ..فالصلابي على ( عكس رئيس دولته القذافي ) يشنّ هجومه على ( الدولة الفاطميّة ) ، و يسقط من خلالها كل حقده على الشيعة ، و يتجاوز كتّاب التاريخ العرب المسلمين الكلاسيكيين .. بل يستطيع أن يزوّر الحقائق ذاتها ، أو ينقصها في سبيل مشروعه الفتنوي القائم على قدم ، و ساق ( السرحاني لا يقلّ حدة عنه ) .. و الأمر بكل بساطة هو إطلاق صفة الباطنيّة على كلّ ما هو " غير سنّي " ، و ( الأفضل أن أقول غير وهابي ) لأنّ الصلابي ، و السرجاني ( ينتميان إلى المشروع الوهابي الفتنوي الذي تقوده المخابرات السعوديّة ، و المصريّة ، و الأمريكيّة ) .. و عليه فحتى لا يناقض الصلابي طرحه الفتنوي .. اغفل " الشيعي " عن قصد ، و عن سابق تصميم
ب – " مقاوم بعمامة " هكذا يُعنون أمين المعلوف الفصل الخامس من روايته ( الحروب الصليبيّة ) ، و الحقيقة أنّ أوّل من أشعل جذوة المقاومة الإسلامية على الإفرنج هو " أبو الفضل ابن الخشاب " الذي سار على خطى سابقه " القاضي الهروي " ، حيث استطاع بفضل قوّة شكيمته ، و متانة خلقه أن يوقظ العملاق الغارق في سباته الذي هو العالم العربي (2) .. فتحوّل دخوله إلى مسجد السلطان العبّاسي ، و كسره المنبر (3) إلى بداية الغليان الشعبي الذي سيخرج القيادات الشجاعة التي ستحطم أسطورة الغزو الإفرنجي .. و هو كان يحرّك الشعب ضد تصرفات حاكم حلب السلجوقي المختّل ( رضوان ) ، و خصوصا في موضوع رفض رفع الصليب على مئذنة الجامع الكبير في حلب ، الذي فرضه بكل صلافة ( طنكري الإفرنجي ) على حاكم حلب .. إضافة إلى موضوع الجزية .. و عندما خلت حلب من حاكمها إثر موته ، و خلت من " ألب أرسلان المختلّ أكثر من أبيه " بعدها ، و خلت من الخصيان ، و العبيد الذين تولوا الوصاية على الملك بعدهما .. لم يلجأ أبو الفضل إلى الدولة الفاطميّة ( التي على مذهبه ) ، و قد كان بإمكانه ذلك بعد أن خلت الساحة إلاّ منه ، و من مقاوميه أن يفعل ذلك .. بل ، و أن يستولي على الملك .. و إنّما أخذ يفتش عن قائد مسلم ( لم يهمّه المذهب ) يستطيع أن يكمل مسيرة المقاومة التي بدأت شعلتها تتوهج بعد أن أصبحت حلب الحدوديّة طليعة مجاهدة الفرنجة .. و لم يكن أمام هؤلاء إلاّ " أيلغازي " الذي ألحق جيشه أوّل هزيمة منكرة بالجيوش الإفرنجية التي قاعدتها انطاكية .. هزيمة كان لها تأثير على مسيرة الكفاح التي أخرجتهم من البلاد العربيّة …. و بعد أن توفي الأمير " أيلغازي " توجه " ابو الفضل أبن الخشاب " إلى ابن أخيه " بلك " الذي الحق جيشه هزيمة منكرة ثانية بالجيوش الإفرنجيّة التي قاعدتها الرها … و عندما توفي " بلك " لم يكن أمام حلب المحاصرة ، و قاضيها أبن الخشاب بعد ذلك إلاّ أن يستعينوا بـ " البرسفي " والي الموصل الجديد .. الذي كان له أهمية كبيرة في فكّ الحصار … و إقامة نواة وحدة كبيرة بين إمارتي الموصل ، و حلب … و هؤلاء جميعهم أمراء ، و سلاجقة ، و سنيّون
جـ – في عام 1125 م .. تمّ اغتيال أبن الخشاب بعد أن حمل عبء مقاومة المحتّل أكثر من 14 عاما من قبل ، و قد قامت باغتياله " فرقة الحشاشين " التي أسّسها "حسن الصباح " .. وهذا دليل آخر على أنّ ما كان يحرّك هذه الفرقة ليست شيعيتها ، أو باطنيّتها بقدر ما هي ظروف سياسيّة كانت تحكم تلك الفترة .. فابن الخشّاب " الشيعي " كان قد أثخن في هذه الفرقة ، و استأصل شأفتها من ولاية حلب لأنّه أحسّ بخطرها على المسلمين .. و تتبع رجالها في الشوارع ، و البيوت ، و الخانات .. و ما كان لينسى هؤلاء بعد أكثر من عشرة سنوات ما فعله بها هذا القاضي الفاضل ..
إنّ الظروف المحيطة بالدولة المسلمة الممزّقة ، و التي يقع جزء لا يستهان به منها تحت الاحتلال .. كانت تخضع لمزاجيّة الحكّام ، و الولاة الذين تحالفوا مع المحتّل ضد بعضهم ، و والوا فرقة الحشاشين رهبة منها ، و خوفا .. حيث كانت تضرب في كل مكان ، و استخدموها لغاياتهم .. و يستطيع الصلابي ، أو السرجاني ، أو أي وهّابي ، أو أي مستشرق أن يستنسب من كتب التاريخ الكلاسيكيّة ما يلاءم هدفه ، و أغراضه عندما تكون غالبية المسلمين غارقة في ظلام الأميّة ، و لا تقرأ تاريخها ، و عندما تكون مخترقة إعلاميا من قنوات الفتنة " الوهابيّة " ، أو القنوات المدعومة برؤوس الأموال الوهابيّة .. و عندما تصبح ساحات المواقع الإلكترونية مستباحة من مريدين متعصّبين .. فيقدم لهم راغب السرجاني وفق خياله المريض ، و المأزوم الصورة واضحة في تحالف هذه " الفرقة " مع المحتّل لأسبابها الباطنيّة ، و يبرر للسلاجقة خياناتهم لأسباب سيّاسيّة ، و يجد لهم الأعذار .. يقول السرجاني في موقعه على صفحة .. " قصّة الاسلام " : ( فقد اشتهر الباطنية بحوادث الاغتيال والمؤامرات؛ ولذلك آثر الحكّام المسلمون السلامة ، ولم يتقدموا بأي جهد لتغيير الواقع الأليم ، حتى رأينا تسلطًا من زعماء الإسماعيلية على مجريات الأمور في دمشق إلى الدرجة التي جعلت حاكمًا مثل طغتكين – على حُبِّه للجهاد ورغبته في نصرة السُّنَّة – لا يستطيع الوقوف في وجه الشيعة الإسماعيلية، فأعطاهم قلعة بانياس بناءً على طلبهم ليتحصّنوا بها ) .. و عليك عزيزي القاري أن تفهم من هذه الهرطقة التبريريّة حبّ طغتكين " للجهاد " ، و" نصرة أهل السنّة " ، و " موالاته " للشيعة الإسماعيلية .. هذا مع العلم أنّ الخليفة العباسي حين أرسل جيشه في عام 1115 م لمجاهدة الإفرنج .. كان أمير دمشق " طغتكين " هذا قد أقام حلفا مع " بغدوين " ملك القدس لمواجهة هذا الجيش !!! مستعينان بكلّ عساكر، و جند أصحاب " أنطاكية ، و حلب ، و طرابلس " فما كان من هذا الجيش إلاّ أن عاد أدراجه لتكون آخر مرّة يفكر فيها قوّاده فيما بعد بالعودة للجهاد ..
فماذا إذا كان راغب السرجاني في موقعه " قصة الحضارة الاسلاميّة " ، و تحت أزمته النفسيّة يقول مثل هذا الكلام : إنّ الدولة العبيدية قد باعت القضية تمامًا (… ) وهذا كان أمرًا متوقعًا منهم بعد أن شاهدنا تخاذلهم في القدس ( … ) وشاهدنا أيضًا تخاذل علمائهم في حلب ودمشق ؟!!! .. في مواقف ابن الخشاب ، و الدور الذي قام به الردّ لمناسب على كلّ تخرّصات السرجاني ، و أكاذيبه ، و تزويره لحقائق التاريخ .
1 – الحروب الصليبيّة كما رآها العرب – أمين معلوف – ترجمة عفيف دمشقيّة – المؤسسة الوطنيّة للنشر و الاشهار
2 – النصّ كما ورد في كتاب الحروب الصليبيّة
3 – عادة كسر المنبر تعني أنّ أمور المسلمين بلغت حدودها الدنيا من التقتيل ، و الذل ، و الهوان .. قام بهذه العملية قاضي دمشق الهروي ، و تبعه ابن الخشاب ..