رائحة التعفن ورائحة الأجسام المتحللة لا تزال عصية على الإزالة (الأوروبية) |
دفعت مدينة سرت -مسقط رأس العقيد الليبي الراحل معمر القذافي– ثمنا باهظا لإيوائها له في معركته النهائية مع الثوار الليبيين, إذ دمر جل أحيائها وغدت شبيهة -حسب البعض- بحال مدن دمرت في حروب سابقة مثل لينينغراد وغزة وبيروت.
فقد تم تدمير جل هذه المدينة الواقعة على ا…
رائحة التعفن ورائحة الأجسام المتحللة لا تزال عصية على الإزالة (الأوروبية) |
دفعت مدينة سرت -مسقط رأس العقيد الليبي الراحل معمر القذافي– ثمنا باهظا لإيوائها له في معركته النهائية مع الثوار الليبيين, إذ دمر جل أحيائها وغدت شبيهة -حسب البعض- بحال مدن دمرت في حروب سابقة مثل لينينغراد وغزة وبيروت.
فقد تم تدمير جل هذه المدينة الواقعة على البحر الأبيض المتوسط وذات الطرق والشوارع المزينة بأشجار النخيل, فلم تعد أحياء بكاملها صالحة للسكن, بعد أن أحدثت فيها القذائف حفرا ضخمة وحولتها إلى ما يشبه المداخن, لا ماء بها ولا كهرباء, وقد غمرت شوارعها بحطام الأنابيب الممزقة والشظايا المتناثرة.
“كانت مدينة جميلة, بل كانت أجمل مدن ليبيا“, هكذا يتذكر الأستاذ الجامعي رجب زروق عبد الله (42 عاما) مدينته وهو يقف خارج منزل أهله الذي تعرض لأضرار بالغة, قبل أن يضيف “إنها اليوم لينينغراد, أو غزة أو بيروت عندما مزقتها الحروب”.
لا شك أن سرت حظيت بمعاملة تمييزية في الاستثمارات، كما في الوظائف خلال فترة حكم القذافي, غير أن ستة أسابيع من القتال تركت الكثير من سكانها البالغ عددهم 140 ألفا يغلون من الغضب بسبب ما يعتقدون أنه تدمير متعمد انتقامي من قبل الثوار المناهضين للقذافي لمدينتهم.
الدمار كان هائلا في سرت (الأوروبية) |
صحيح أن البعض يوجه اللوم فيما حل بسرت للقذافي لاختبائه هناك في أيامه الأخيرة، لكن ما يجمع عليه الناس هنا هو أن إعادة الإعمار ستمثل تحديا كبيرا بالنسبة لهم، وأنهم لا يتوقعون الكثير من المساعدة من الحكومة الليبية المؤقتة.
ويبدو اليوم أن جثث معظم القتلى قد أزيلت أو دفنت على عجل، غير أن رائحة التعفن ورائحة الأجسام المتحللة لا تزال عصية على الإزالة حتى بعد أسبوع من وفاة القذافي، التي مثلت نهاية الحرب التي دامت ثمانية أشهر للإطاحة به.
ويوم الخميس شوهد متطوعون, يلبسون قفازات وأقنعة واقية يحفرون قبورا ضحلة, يعيدون فيها دفن القتلى بعد التعرف على هوياتهم.
وهنا خلف عيادة بالحي رقم 2 بسرت يقف معيتيق الغزالي على ربوة يتابع نقل الجثث وها هم عدة رجال يسحبون جثة ملفوفة ببطانية. يرفع الغزالي البطانية, ثم يقول بهدوء “إنه علي” يعني ابنه البالغ من العمر ثلاثين عاما.
لقد كانت المقاومة في مدينة سرت شرسة للغاية، ولم تتمكن القوات المناهضة للقذافي من التقدم خلال ثلاثة أسابيع على بدء المعركة إلا لبضع مئات من الامتار داخل المدينة “ |
بدأت معركة سرت في منتصف سبتمبر/أيلول، أي بعد حوالي شهر من سيطرة الثوار على معظم ليبيا، بما في ذلك العاصمة طرابلس, وسرت واحدة من المعاقل الأخيرة للموالين للقذافي.
لقد كانت المقاومة في مدينة سرت شرسة للغاية، ولم تتمكن القوات المناهضة للقذافي من التقدم خلال ثلاثة أسابيع على بدء المعركة إلا لبضع مئات من الأمتار داخل المدينة.
ومع تصاعد القتال، فر معظم المدنيين، ولم يبق سوى الموالين للقذافي في تلك المدينة التي تبعد حوالي 400 كلم جنوب شرق طرابلس.
والواقع أن القذافي كان يختبئ في سرت في الأسابيع الأخيرة من الحرب، حيث كان يتنقل بين منازل مهجورة في الحي رقم 2 مع حاشية من حوالي عشرين شخصا، بينهم ابنه المعتصم.
وفي يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول، طوق الثوار المنطقة، وحاول القذافي وأتباعه الفرار في قافلة، لكنها تعرضت لقصف من طائرات حلف شمال الأطلسي (ناتو) على طريق سريع على مشارف المدينة.
أناس يبحثون بين الجثث عن أقارب لهم (الفرنسية) |
وحاول القذافي -الذي كان يعاني بعض الإصابات- الفرار سيرا على الأقدام، ولكن تم القبض عليه، وتعرض للضرب على يد بعض من اعتقلوه، وتوفي في وقت لاحق من ذلك اليوم في ظروف غامضة، مما دفع المجتمع الدولي إلى مطالبة القادة الجدد في ليبيا بالتحقيق في وفاته.
لقد كان زمام معركة سرت ومحاولات القبض على القذافي بيد مقاتلي مصراتة, تلك المدينة الساحلية التي انتفضت في وقت مبكر ضد القذافي وفرضت عليها قواته حصارا خانقا لأسابيع عدة.
وهم الذين عرضوا جثة العقيد في مصراتة كما لو كانت نصبا تذكاريا لمدة أربعة أيام قبل دفنه الثلاثاء في مكان مجهول بالصحراء.
ويتهم سكان سرت مقاتلي مصراتة بأنهم إنما تعمدوا تدمير مدينة سرت وأوقعوا بها أضرارا تجاوزت ما يمكن اعتباره أضرارا جانبية بغية تسوية حسابات قديمة.
يقول الميكانيكي علي مصطفى (26 عاما) وهو يقف في حطام فيلا من طابقين في الحي رقم 2 بسرت “أنا غاضب للغاية من الثوار, انظروا إلى ما سببوه من دمار”, لقد سووا هذه العمارة بالأرض لأن أحد الجيران ذكر أنها كانت آخر مخبأ للقذافي.
وأضاف “كلما أطلقت رصاصة واحدة من أحد البيوت فإنهم يقومون بتدمير البيت كله”.
الثوار بذلوا قصارى جهدهم لحقن الدماء من خلال إعطاء المدنيين وقتا كافيا للمغادرة “ إبراهيم بيت المال |
وخلال عطلة نهاية الأسبوع، تم العثور على أكثر من خمسين جثة متناثرة في الفناء المقابل للبحر من فندق المهاري, الذي كان حسب منظمة هيومن رايتس ووتش، بأيدي ثوار مصراتة خلال القتال.
ويقول فراج الحمالي -وهو من سكان سرت وكان من بين الذين اكتشفوا القتلى- 25 ممن عثرنا على جثثهم كانت أيديهم مقيدة وراء ظهورهم, وكان بينهم مدنيون وموالون للقذافي، وكان معظمهم قد قتل برصاص في الرأس أو الصدر.
وقد دعت هيومن رايتس لإجراء تحقيق في ما وصفته بأنه “إعدام جماعي واضح”.
وقد نفى المتحدث باسم المجلس العسكري لمصراتة إبراهيم بيت المال مسؤولية قوات مدينته عن تلك المجزرة, وقال إنه يعتقد أن القتلى قضوا على يد رفاقهم, بعد أن رفضوا أوامر بمواصلة القتال.
وأدعى بيت المال كذلك أن الدمار الذي تعرضت له سرت كان على يد القوات الموالية للقذافي لتشويه صورة الثوار.
وأضاف أن الثوار بذلوا قصارى جهدهم لحقن الدماء من خلال إعطاء المدنيين وقتا كافيا للمغادرة، مشيرا إلى أن الذين أصروا على البقاء في الأيام الأخيرة كان واضحا أنهم موالون متعصبون للقذافي.
غير أن الأستاذ الجامعي زروق عبد الله سخر من مثل تلك المزاعم, قائلا إن الثوار قتلوا أخاه هشام البالغ من العمر 34 عاما والذي وصفه بأنه كان مدنيا.
وأضاف أن شقيقه بقي في سرت لحماية منزل العائلة, لكنه اعتقل قبل أن يقتل مع آخرين في فندق مهاري, ولم يوضح عبد الله كيف حصل على معلوماته تلك.
عبد الله توقع أن يلجأ الناس للانتقام إلا أنه أعرب عن عدم رغبته في إراقة مزيد من الدماء “ |
وحذر عبد الله من تصفية حسابات قد تبدأ في الأيام القادمة، قائلا “الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد, وستبدأ في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني أي بعد أن تغادر قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو)”, مشيرا إلى نهاية مهمة التحالف العسكري الدولي الذي كان يفرض حظرا على الطيران بليبيا ويعمل على حماية المدنيين من قوات القذافي.
ورغم أن عبد الله توقع أن يلجأ الناس للانتقام، فإنه أعرب عن عدم رغبته في إراقة مزيد من الدماء.
ويقول بيت المال إن مسؤولين من مدينته يعملون حاليا مع قوات الثوار في سرت للمساعدة في استعادة الخدمات الأساسية، بما في ذلك المياه والكهرباء.
ومع ذلك فإن الحمالي نفى حصول سرت على أي مساعدات من الخارج, معتبرا وعود المسؤولين الزائرين من المدن المجاورة بوصفها مجرد “كلمات جوفاء”.
وأضاف الحمالي -وهو مالك محل لغسيل السيارات- إن الأضرار التي لحقت بسرت كبيرة إلى درجة لا يمكن فيها لمصراتة أن تدافع عن نفسها أو تعتني بها.
وحسب المتحدث باسم السلطات الليبية الجديدة جلال الجلال فإن الحكومة الليبية التي ستشكل في الأسابيع القادمة ستضطلع بعملية إعادة البناء لكن لا يوجد حل سريع.
وأكد أن جميع المدن التي دمرت خلال الحرب سيتم إعادة بنائها، غير أن الحكومة المؤقتة الحالية عاجزة عن فعل أي شيء حاليا, والحكومة الجديدة ستوفر مساكن مؤقتة للمتضررين.
أما سائق الشاحنات مفتاح مبارك (42 عاما) فإنه يعتقد أن نظام القذافي وفر الأمن وفرص العمل, منحيا باللوم فيما حصل من قلاقل على التدخل الأجنبي بما في ذلك تدخل حلف ناتو.
ووصف مبارك من حاربوا ضد القذافي بأنهم “جرذان”, مضيفا أن توفر السلاح بكميات كبيرة في ليبيا اليوم كفيل بأن يؤدي لحرب أهلية أخرى.
وفي بادرة تحد واضحة, أخرج مبارك رأسه من نافذة مقعد السائق وهو يبدأ رحلته, مكررا “الله, ليبيا معمر وبس”.