الرئيسيةأرشيف - غير مصنف'الربيع العربي' ثورات شعبية بلا برامج سياسية

‘الربيع العربي’ ثورات شعبية بلا برامج سياسية

د. عمار البرادعي

خمس ثورات شهدها وطننا فيما يسمى بالربيع العربي، اختلفت نتائجها من بلد لآخر. منها من نجح ومنها من تعثّر وما زال ينتظر الحسم حتى الآن. لكنها كلها اشتركت في ميزتين أساسيتين. أولاهما أن الشعب كان هو المُبادر، لم يحرّكه حزب ولا تنظيم، بل كان له قصب السبق على كافة القوى والأحزاب بشتى انتماءاتها وأيدلوجياتها، وقد حلّ محلها في تحريك الشارع وإدارة مسيرته بعفوية، وأعلن عن تصميمه على تحقيق هدف واحد وهو إسقاط النظام.

- Advertisement -

أما الميزة الثانية فقد تمثّلت في أن هذه الثورات كلها لم تطرح تصوّرا مسبقا لما تتطلّع إلى تحقيقه بعد نجاحها، ولا تبنّت لاحقا وثيقة مبادئ تُعبّر عما هو أبعد من تحقيق هدف ترحيل النظام. وكان واضحا للجميع أن الخط العريض الذي يجمع كلا من المستقل والإسلامي والشيوعي والقومي .. إلخ، ينحصر في هذا الهدف الرئيسي المعلن دون أية تفاصيل أخرى غير ما يتعلّق به حكما من مزايا النظم الشمولية.

- Advertisement -

وعليه، لم يكن غريبا أن تظهر آثار هاتين الميزتين ولو بنسب متفاوتة في مسيرة هذه الثورات، ولا أن نُفاجأ بسماع تصريحات من أفواه بعض قادة الثوار أنفسهم تؤشر إلى ذلك من خلال تكرار القول أن مرحلة ما بعد الثورة ستكون أصعب من التي سبقتها. كما أصبحنا نسمع كلاما صريحا يعبّر عن اختلاف في الرؤى والأهداف وأسلوب التصرّف داخل مجاميع الثوار وكذلك القوى التي لحقت بركبهم على حد سواء، إلى جانب ملاحظات حول تطلّع هذا الفريق أو ذاك إلى موقع محدد، أو إلى عدد معيّن من الحصص والمراكز التي يرى أنه يستحقها من إرث النظام الراحل.

في ظل استمرار هذه الوضعية مازالت ثورات الربيع العربي تواصل مسيرتها دون منهاج موحد ومتفق عليه يجمع مختلف قواها وجماهيرها، بينما أخذ بعضها يكتفي بعقد الندوات والمؤتمرات وتشكيل المجالس ولجان التنسيق التي مهما ساهمت في دفع عجلة الثورة، إلا أنها لا يمكن أن تحلّ محل التوافق على الجوهر فيما يتعلق بمرحلة ما بعد إسقاط النظام في هذا البلد أو ذاك. 

طبعا، لكل بلد عربي خصوصيته المختلفة عن الأخرى، رغم العديد من أوجه التشابه بينها. لكنني أؤمن كمواطن عربي سوري اكتوَى منذ طفولته بنار الدكتاتورية والتعصّب وسيطرة الشخصنة من رأس النظام إلى أخمص قدم المخبر في أجهزة قمعه، أنه ليس بإمكان أي ثورة أن تُحقق أماني الشعب وتعمل على صيانة مسيرتها إلا إذا تبنّت برنامجا سياسيا محدد الأهداف الأساسية، يؤشر إلى ما ينبغي تحقيقه منها، وما يُعتبر خطا أحمر لا يجوز لأحد تجاوزه أو المساومة عليه. أي يؤشر إلى المطلوب إنجازه والمحظور الاقتراب منه في آن. هذا البرنامج لا يمكن أن يقوم مقامه مجرد إطار يجمع شخصيات ولجان تنسيقية، أو بيان يستعرض عموميات جميلة نتفق جميعا على عناوينها العريضة، لكننا سرعان ما نختلف على تفسيرها وتفاصيل مضامينها عند التطبيق، نزولا عند مقولة ‘الشيطان يكمن في التفاصيل’. 

في رأيي أن أي ثورة بلا برنامج سياسي يُعبّر عنها، وبلا قيادة أو قائد يتمتع بالثقة والمقدرة والتاريخ النظيف، تبدو كالسفينة التي تمخر عُباب البحر بلا بوصلة ولا قبطان .وهذه الحالة بشقيها (غياب البوصلة والقبطان) ميّزت انطلاقة الثورات الخمس، وما زالت تؤثر في مجرياتها اليومية. وهذا ما بدأنا نرى انعكاساته السلبية في نبرة التفريق بين مواقف وطموحات الإسلاميين والعلمانيين وغيرهم، وفي ما يتردد حول بوادر تنافس على المناصب وعدد المقاعد وما شابه في ليبيا ما بعد ‘الجماهيرية’. وعلينا أن نتصوّر ما يُمكن بروزه مستقبلا في مثل هذه الظروف.

والشيء نفسه يمكن أن يقال ولو بصورة مختلفة عما سلف حول الانعكاسات على ساحة ثورتنا السورية. فبعد تشكيل المجلس الوطني السوري الذي اعتبر نفسه إطارا موحدا للمعارضة يضمّ كافة الأطياف السياسية، حسبما أعلن رئيسه برهان غليون في بيانه التأسيسي، رأينا كيف سارع البعض الآخر من قوى المعارضة إلى الإعلان عن أن هذا المجلس لا يُمثّل الكل .وجرى وصفه بأنه مجموعة محدودة من المحترفين الذين تربطهم أيديولوجية واحدة، وهم ليسوا مفوّضين لا من القوى السياسية المعارضة ولا من الحركة الشبابية في الداخل، حسبما جاء على لسان هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطي الذي ذهب في موقفه من إعلان المجلس الوطني نفسه ممثلا لكافة قوى المعارضة الى القول بأنه يعمل ـ بهذا الطرح ـ على بيع الوهم من أجل فرض الوصاية على العمل التوافقي بين مختلف التيارات السياسية. 

مثل هذه الانعكاسات سواء هنا أو هناك كان من الممكن تجنبها، أو التقليل منها إلى الحد الأدنى إذا ما وُجِد البرنامج السياسي المحدد الأهداف والوسائل. ذلك لأن شعار إسقاط النظام وحده لا يمكن أن يشكل برنامجا متكاملا، ولا يُحقق في حال نجاحه إلا خطوة الانطلاق الأولى والرئيسية على طريق الثورة الطويل. أما ما عدا ذلك فيحتاج إلى مشاركة الجميع واقتناعهم، وهنا تبدو ضرورة التوافق على تبنّي الأساسيات المناقضة لممارسات النظام المراد إسقاطه أمرا بديهيا، ولا بد من النصّ عليها لتجنّب أي التباس ومنعا للاجتهاد في تفسير المفَسّر.

لقد عانينا عقودا من استئثار حكم يقوده صنم واحد، بأجهزة أمنه وقمعه وإعلامه المبخّر لشخصه ليل نهار، وقد ترعرع في أحضانه كل متزلف فاسد، مستقو بطائفته أو عائلته أو منطقته، ففقدنا طوال هذه الفترة أهم مزايا ممارسة الديمقراطية التعددية بكل معانيها الأبعد من صندوق الاقتراع المزّيف، كما فقدنا المشاركة الجماعية الفعّالة، ولم ننعم بالعدالة ولا بالمساواة في الحقوق والواجبات. وقد حان لنا الآن القبول ببعض عن اقتناع، والتمسك بخيار تداول السلطة ،والفصل بين السلطات واستقلالية القضاء. وإنهاء دور الأجهزة القمعية ورفض العنف، وعدم إفساح المجال للتخبط والتردد في اختيار الوسائل والخلط بين الإستراتيجية والتكتيك، وهو ما بدأنا نلاحظ مؤخرا أمثلة عليه في مواقف بعض قوى المعارضة السورية. 

ويا ليتنا لا ننسى أيضا وعلى الدوام أننا كنا أحد جناحي أول وحدة عربية تحققت وشكّلت أملا لشعوب أمتنا قبل أكثر من نصف قرن، وأنه منذ الانقضاض عليها ووقوع الانفصال لم تعد كل من سورية ومصر كما كانتا من يومها لليوم. فنعود إلى التركيز على مبدأ الوحدة، فإذا لم يكن من الممكن تكرار تجربتها في ظل هذه الظروف حسبما يرى البعض، فإن هذا لا يحول بالضرورة دون بقائنا أوفياء لها كمبدأ، والتمسك بها والنص عليها كخيار قومي استراتيجي، علما أن المخاطر كالتي نواجهها تفرض على الأمم الاتحاد فكيف الحال على الأمة الواحدة.

 

‘ كاتب سوري يقيم في باريس

اقرأ أيضاً
- Advertisment -spot_img

أحدث الأخبار

منوعات