استيقظ فى الصباح وهو يشعر أن قلبه خال من أى شعور إلا انقباض غريب..التفت بجانبه فلم يجدها فاعتدل وقد تذكر…لقد غادرت أمس..ظل جالسا فى فراشه ينظر لمكانها الخالى..كانت لتتمطى بجانبه وتفتح عينيها لتبتسم وتقول له ” صباح الخير ” ثم تتعلق برقبته قليلا كأنها افتقدته ..ثم تقفز من فراشها كالقطة هو يتابعها فى خطوها الرشيق متجهة لحجرة الولدين..
تنهد ثم قام من فراشه ليأخذ حمامه اليومى وخرج ملتفا بمنشفته فلم يسمعها تدندن بأغانى فيروز ولم يشم رائحة خبزها الشهى وهى تعد الإفطار ولاصوت الصبيين يتشاجران وضحكتها الطويلة الرائقة التى يهرع دوما ليضع يده على فمها ليسكتها فتتملص منه ضاحكة وهى تقول ” كئيييب “..
دلف للمطبخ ليعد كوبا من الشاى فوجده بلارائحة شهية وبلا دندنة ..كانت تسرح كثيرا وهى واقفة..يرقبها أحيانا تتمايل كطفلة لاهية مع أغنية أو منهمكة فى شىء ما كامرأة طاغية الحضور مسيطرة على كل ما حولها حتى الجماد..
ها هو مطبخها الآن خاو على عروشه يبكى ربته الأثيرة..عاد لحجرته وقد عافت نفسه الإفطار بدون نغمات صوتها الضاحك.. ارتمى مرة أخرى على سريره وقد تذكر سحر تواجدها..كانت لتهرع اليه الآن وتستلم رأسه لتريحه على صدرها الحانى وتتخلل روحه وكل مسامه عطورها الحلوة وتتخلل شعره بأصابعها الدقيقة الناعمة وتهمس له بثقة ….لاتحمل هما..
ماذا يريد أى رجل أكثر من هدأة على صدر امرأة تحتويه…هذه والله لحظة بعمر كامل..و..كانت لتضاحكه برقتها وخفة ظلها حتى ينسى همه ويغرق معها فى وصلة حب جميلة وسعادة خالصة ..و..
ذهب إلى عمله ذاهلا وما إن جلس على مكتبه حتى داهمته صورتها على مكتبه مع الولدين تبتسم بثقة ودلال ..تلفت حوله فاخترقته نظرات مختلفة من زملائه من شماتة لإشفاق لاحتقار..فطأطأ رأسه…
اقتربت منه ” نجوى ” فى دلال مصطنع فهاله أطنان التبرج على وجهها واظافرها الطويلة الشيطانية المضرجة بلون الدم وشعرها المصبوغ بلا ذوق..وتذكرها هى بنظافتها واظافرها النظيفة المهذبة وقدميها الصغيرتين الناعمتين وشعرها الغجرى برائحة الياسمين على أطرافه..تذكرها كلها ..عنايتها الشديدة بالتفاصيل..يا إلهى كم يحب وجهها صباحا وعطورها التى امتزجت حتى بملابسه هو..شعر بغثيان شديد فغادر مسرعا..
كان يقود سيارته وكلماته بالأمس تدق فى رأسه ..هذا أنا ولن أتغير وهذه حياتى…اقبلى او ارفضى..كان يعلم أنها لاحظت ما بينه وبين زميلته وسكتت لتراقب فى هدوء حذر..الجميع يلومه ..لكنه قد سأم امتداح الناس لها وحسد زملائه على زوجته وإسهابهم فى وصف رقتها وتميزها..
لا يدرى كيف تورط مع نجوى وهو لا يحبها ولايعرف ما كان يريد اثباته لنفسه والآخرين..كان فى البداية يتباهى بها بزوجته… .ثم بدأ يحاول إخفائها …ثم يضجر من التفاف الناس حولها فى كل مكان..مهما اجتهد فى إخفائها..جبارة حقا..لم يكن لمثلها أن يختفى..تتابعها الأنظار أينما وجدت ليس لفرط جمال فهى جميلة ولكن هناك شىء غامض اعمق من الجمال الظاهر..إنها روحها..لها جاذبية شديدة ..أحدهم يدعوها ما قل ودل ..هذا الصفيق لم يكن يخجل من تكرار تلك العبارة أمامى عنها..
سكتت على ما يحدث ولكن وجهها خفتت ضحكته..ثم بدأت تشير لغيابه بعزة نفس وقوة..ثم شعر بهدوء مخيف..نعم ها هو يتذكر كان يعود يلا ليجدها قد وضعت الولدين فى فراشها وهى تتوسطهما وعلى وجهها تقطيبة حزينة ودمعة ربما حاولت أن تخفيها فسالت رغما عنها أثناء النوم على جانبى خديها..كان شعوره خليط من الإشفاق والتشفى الغريب..
كانت تلميحاتها بنفس الرقى والثقة من نفسها وسطوتها كانما كشفته وتوغلت بداخله ففضحت دوافعه الخفية وما يريد إثباته..ومع الوقت بدأت تهمله وتتعمد حرمانه من رعايتها بسحب كل اللمسات الفارقة التى صنعتها له فى حياته وأبقت على الضرورى فقط..
يا الله من أين أوتيت تلك القوة والثبات والصبر..توقع انهيارها وانصياعها له وللأمر الواقع ولكنها رويدا رويدا لملمت روعتها من حياته واختفت فجأة..
حزمت حقيبتها واصطحبت الولدين وغادرت دون أن تنظر خلفها….توقع أن يعيدها أبوها فى نفس اليوم فمر اليوم والليلة ولم يتصل أب ولا أخ وهاهو نهار آخر يمر وليل ىخر يهجم عليه بوحشته..عاد للمنزل وأدار المفتاح ودخل..لم يسمع صوتا للولدين وهى تستذكر لهما ولا وجد كتبها الأثيرة على الكومود بجانب السرير..
كم كان يحب أن يدخل فيجدها مستلقية على ظهرها واضعة ساق فوق ساق وعلى وجهها ابتسامة أو تقطيبة حسبما تقرأ…أحيانا كان يدخل فيجدها مستغرقة فى النوم محتضنة وسادتها وشعرها مسترسل وعنقها له بهاء وضىء..كيف الهرب من تفاصيلها..
جلس على كرسها الهزاز وهو يفكر فى أمرها وكيف نجحت فى أن تستحوذ عليه بسطوة هائلة وهو الذى جرب النساء وصال وجال شرقا وغربا منذ صباه..
مد بصره نحو المائدة المتأنقة بفضل صاحبتها فوجد دفترها الوردى ظل يتأمل لونه ثم تناوله وفتحه فوجدها كتبت بخطها الرقيق عبارة غريبة ” هناك امرأة تملأ حياة الرجل كاملة بالتفاصيل الرائعة وتترك بصمتها على كل شىء وهناك امرأة تملأ بعضا من حياته وهناك امرأة تتركها فارغة باردة كالموتى وهناك من تملأها نكدا وهما وتفاصيلا مقبضة مليئة بالقرف والبرود ” ..ثم إمضائها الرقيق واسمها الأرق…
يا الله..إنها تضع إمضائها على صفحة حياتى…تختمها بتأثيرها الباذخ..تؤرخ لنفسها فيها….وضعت بصمتها على كل شىء…لن أفلت منها…ما الذى كنت سأضيعه منى..خبط على جبهته وقام مسرعا إلى الخارج متجها إلى بيت حميه وهو يتساءل ..ترى هل ستقبل اعتذارى..!