-الجزء الثاني-
((هذه –بعد مشيئة الله- سلسلة مقالات تتناول شأننا الفلسطيني، هي جهد المقلّ، ربما ستغضب البعض، وسترضي البعض، وسيتحفظ عليها البعض، ولست أدري – ولا يهمني- أي الفرق أكبر عددا، ولكن كإنسان ينتمي لهذا الشعب ويعشق أديم هذه الأرض أرى وجوبا علي طرح فكرتي لألقى الله بلا حمل يثقل صدري، وبلا مأثم نابع من سكوت أو تردد أو كتم علم…والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين))
(5) نحن والشعوب العربية
التعاطي الجماهيري -العربي والإسلامي- مع الفلسطيني الإنسان وقضيته كان عائـقا أو عامل تأجيل لنقد المسيرة؛ فغالبية الجماهير تتعاطف مع الفلسطيني، ولفلسطين مكانة خاصة في قلبها ووجدانها، مما جعلها تضع الفلسطيني في قالب أسطوري مفرط في مثاليته، وظهر هذا في الآداب والفنون والتعبيرات العفوية للناس التي شاهدنا شيئا منها عبر الشاشات ولمسها العديد ممن يسافرون إلى بلاد إخوتهم أو حتى في رحلات العمرة أو الحج إلى بيت الله الحرام، وهذا الحب والعشق كان في إحدى جوانبه قيدا منعنا من نـقد ذاتنا؛ إما للحفاظ على «العشاق» وعدم إحباطهم، أو لأننا لربما صدّقنا أننا قوم لا يأتـينا الباطل من بين أيدينا ولا من خلفنا!
و أصبح للفلسطيني صورة نمطية جاهزة في الوعي الجماهيري العربي؛ فحين يردد الشقيق العربي:«كلنا محمد الدّرة» وتتلى ملاحم شعرية، وتعزف ألحان لأغان لها أوّل ما له آخر عن طفل الحجارة، ولاحقا عن حامل الحزام الناسف، والرغبة العاطفية بإبقاء الفلسطيني ضمن هذه القوالب دون أن تمتد له يد تساعده أو تحميه، بحجة العجز بسبب إجراءات النظم، أو الحساب الخاطئ بأن ذرف الدموع ونظم القصائد والأشعار وبعض التبرعات المادية والعينية تـفي الفلسطيني حقه عند شقيقه العربي والمسلم…ويا دار ما دخلك شر!
هذه النظرة التي تضع الفلسطيني في مصاف أبطال الأساطير القديمة وتخرجه من إطار الإنسان الذي يصيب ويخطئ، وتوحي بأنه منزّه عن كل نـقص فُطر عليه البشر، ومبرّؤ من كل عيب يعتري أي فرد من كل شعب، تـقابلها نظرة متطرفة عكسية ترى بأن الفلسطيني إنسان انتهازي باع أرضه لليهود وهو عالة على إخوته العرب، والفلسطيني يقاتل ابن شعبه من أجل أمور تافهة، وهو حيثما حل جلب معه الخراب والدمار، ومقاومة الفلسطيني للاحتلال لا طائل منها وهي كذب أو تجلب له ولأخوته العرب الدمار والبوار!وهذه النظرة المجحفة المتطرفة لا تـقتصر على بعض العوام، لأن هناك كتبة تـفرد أمامهم صفحات الجرائد وتستقبلهم استوديوهات الفضائيات يتبنون مثل هذه النظرة الظالمة للفلسطيني، وأخص منهم –دون ذكر أي اسم- صحافيون برزوا في عهد نظام حسني مبارك.
وأمام هذه وتلك اضطر الفلسطيني لتأجيل أو تناسي نـقد ذاته، لأنه يريد أن يحافظ على صورته المشرقة أمام الفئة الأولى، ولا يريد أن يشمت به الفئة الثانية التي تحب الاصطياد في الماء العكر.
والآن وبعد الثورات العربية، وفي ظل وجود وسائل اتصالات وإعلام متطور ينبغي على الفلسطيني أن يحرص على عرض صورة فيها نوع من الواقعية و التوازن أمام شقيقيه العربي والمسلم؛ فالفلسطيني مرابط صامد صابر في فلسطين، أو شرّد منها بقوة السلاح، و دعمه واجب شرعي وقومي، و صمود الفلسطيني هو الذي حال دون تمدد المشروع الصهيوني، ويجب اعتبار الفلسطيني رأس حربة في مواجهة السرطان القاتل، وهذا هو بيت القصيد فيما يجب أن ترانا به عين الشقيق العربي والمسلم؛ فلا يجوز أن تغلق الأبواب في وجه الفلسطيني، ولا يجوز أن يعامل الفلسطيني في المعابر والمطارات بازدراء واتهام حتى يثبت براءته، ولا يجوز -بل عيب- أن تفتح البرازيل أبوابها أمام اللاجئ الفلسطيني ويغلق دونه باب بلاد العرب الواسعة، وجريمة أن يذبح اللاجئ الفلسطيني في العراق، ومنع اللاجئ الفلسطيني من العمل في عشرات المهن في لبنان أمر يندى له الجبين….والقائمة الطويلة للمظالم التي دقت ساعة تمزيقها من أحرار العرب، مثلما وُجد في مكة من أراد أن يمزّق صحيفة المقاطعة التي أكلتها الأردة، بعد سنوات ثلاث، فكيف بعشرات السنين؟!
أما إذا كان ثمة إساءات في الماضي أو الحاضر أو المستقبل من بعض الفلسطينيين فهي حالات فردية بالتأكيد، ولا ينبغي تعميمها، وأمام الحسنات الكثيرة يفترض أن تذهب بعض السيئات غير المقصودة، وقد تكشّف عن أن بعض أجهزة الأنظمة المخابراتية هي التي سعت لتشويه الفلسطيني أمام شقيقه العرب، وإلى تضخيم بعض الأخطاء الفردية والإيحاء بأنها صفات راسخة فيه!
ولا أرجع عدم نقدنا لذاتنا أو لثوراتنا وانتفاضاتنا فقط لهذا السبب(نظرة العرب والمسلمين لنا) فهناك أسباب أخرى، إلا أن هذا كان سببا رئيسا وأنا أراه السبب الرئيس!
(6) لم تكن سلمية
يبدو أن المهللين للانتفاضة الأولى والمطبلين والمزمرين لها من منطلق سلميّتها المزعومة ينسون، في غمرة الانفعال والهجوم على الانتفاضة الثانية، أن الشبان والفتيان لم ينثروا الأرز والزهور على جنود الاحتلال ومركباتهم، بل رشقوهم بالحجارة والزجاجات الفارغة والحارقة، وكانوا أحيانا يستدرجونهم إلى أماكن معينة فيلقون عليهم صخورا أو طوبا أو أكياس اسمنت من بعض الأسطح، وقد تعرض رابين أثناء توليه وزارة الحرب لعملية كهذه في غزة (سنة 1988م) ونجا بأعجوبة، فهي لم تكن انتفاضة سلمية تـقتصر على المقاومة السلبية، وحين كانت تنظم مظاهرة أو مسيرة كان معروفا سلفا بأنها ستتطور إلى مواجهات سيرتـقي فيها شهداء، ويسقط جرحى.
وهذا ما أجبر الاحتلال على استدعاء حتى الاحتياط، لتعزيز لوائي جولاني في الضفة وجفعاتي في غزة ومن معهم من قوات حرس الحدود وتحصين الأفراد والمركبات؛ فارتدى الجنود الخوذ الحديدية المزودة بواقيات من البلاستيك الشفاف المقوّى أو الجلاتين تغطي منطقة الوجه، وتم وضع شبك حديدي قوي وله ثقوب صغيرة على مقدمة ومؤخرة وجوانب المركبات والجيبات العسكرية، ووضع قضيب حديد مائل(بينسة) في مقدمة الجيبات الصغيرة التي لا سقف لها( عرف هذا الجيب بالشاتوح أو الصرصور أو الطرّاد حسب تسمية كل منطقة)لمنع إصابة الجنود حيث كان الشبان يربطون سلكا معدنيا بشكل عرضي على جانب الشارع بارتفاع مواز لعنق الجندي الجالس فيه.
الخلاصة هي أن الانتفاضة الأولى لم تكن سلمية بمجملها، بل قيل صراحة أن سبب لجوء الشعب للحجارة هو عدم توفر وسيلة أخرى لديه، ثم تطورت الانتفاضة واستخدمت الزجاجات الحارقة(المولوتوف) بشكل مركّز دفع سلطات الاحتلال إلى فرض عقوبات قاسية على من يلقيها كالسجن عدة سنوات مع هدم أو إغلاق منزله، وإطلاق النار بلا تردد على رأس كل من يشتبه بنيته إلقاء المولوتوف، بل عقاب جماعي لكامل المنطقة التي تلقى منها زجاجات حارقة مثل منع التجول أو المداهمات العنيفة، بينما كان الحكم على ملقي الحجارة يتراوح ما بين ستة شهور إلى سنة مع غرامة مالية، ولا حقا (خاصة في 1990م) اشتعلت حرب السكاكين وازدادت دعوات عسكرة الانتفاضة الأولى وهدد شامير بأنه لن يبق للفلسطينيين أثر إذا استخدموا السلاح!
والسؤال الموجّه إلى من يطرحون فكرة العودة إلى الانتفاضة الأولى –بأساليبها- هو:هل هذا مقصدكم، أي استخدام ما ورد أعلاه؟ أم أن الأمر التبس عليكم وحسبتم أن الانتفاضة الأولى كانت مسيرات وتظاهرات فقط، وهل –في حال كانت الإجابة نعم- ترون الظرف والواقع الحالي مناسب لمثل تلك الوسائل والفعاليات؟!….يتبع
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
السبت 21 محرم الحرام-1433هـ ، 17/12/2011م
من قلم:سري سمور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين