العصيان المدني آخر الدواء الكيّ
على منوال الألاعيب التي مارسها نظام بشار طوال الأشهر الثمانية الماضية ، جاء توقيعه الإحتيالي صباح 19 الجاري على البروتوكول المتعلق بمهمة المراقبين ، وسط جملة من الإدعاءات الكاذبة التي أطلقها وزير الخارجية السوري وليد المعلم في مؤتمر صحفي عقده بعد إتمام عملية التوقيع ، بالتزامن مع مؤتمر آخر عقده الأمين العام للجامعة العربية .، كان من أبرزها قوله ” وقّعنا اليوم على البروتوكول بعد إدخال تعديلا ت أخذا بالمطالب السورية ، ولم نكن لنوقع عليه مهما كانت الظروف لو لم تُدخل هذه التعديلات عليه . وبهذا أصبحت السيادة السورية مصانة في صلب البروتوكول” .
جاء هذا الكلام في الوقت الذي كان فيه أمين الجامعة يجيب على سؤال وُجّه إليه حول ما تردّد عن هذه التعديلات فقال بالنص “كانت هناك بعض التعديلات في الكلمات مثل المدنيين التي تحوّلت الى مواطنين عُزّل “.إنه مجرّد مثل من مجموعة أمثلة تحتاج إلى إفراد مقال لتغطيتها وقراءة “الحالة” التي تكمن وراء أصحابها. فإذا كان مجرد تعديل كلمة أو حتى عشرة يقتضي المماطلة والتسويف ، مع استمرار القتل بالمئات ، فماذا يمكن أن نقول لو أن التعديل كان يقتضي نسف البروتوكول بأكمله وصياغة غيره من جديد ؟
وقياسا على ذلك ، إذا كانوا يقولون “يكاد المريب أن يقول خذوني” ، فكيف بمرتكب الجريمة المعروف والموصوف والثابتة عليه أمام أعين العالم ، كما هي حال نظام بشار الذي ما زال يلفّ ويدور محاولا التغطية عليها بشتى طرق التحايل لكسب الوقت ، رغم إدراكه أن كل هذه الأساليب المفضوحة لن تحول دون مصيره المحتوم على أيدي أبناء شعبه .
في البدء ، لم يُفاجئنا نظام بشار برفضه التوقيع على هذا البروتوكول ، بل على العكس كان يمكن أن يُفاجئنا لو قبل بذلك . لأنه لو سأل نفسه وقتها : ماذا سيراقب هؤلاء ، وكيف ستكون الصورة أمامهم إذا سارعوا بالقدوم قبل تجهيز الأرضية التي تثبت لهم بالعين المجردة وجود إرهاب وإرهابيين ، وليس مجرد متظاهرين مدنيين يتعرضون لعمليات قتل وقمع ؟ ماذا سيسجلون عندها عن أرتال الدبابات التي تقتحم المناطق السكانية وجثث القتلى التي تبقى في الشوارع إلى حين التمكن من انتشالها ، ناهيك عن جنازات التشييع بالجملة ، والدمار الذي يستحيل أن تُحدثه بنادق”المتآمرين” من أفراد الشعب ، على فرض أنها استُعملت في كل أنحاء سورية لمواجهة آلة التدمير الرسمية ؟
من المؤكد أن كل ما ستراه عين المراقب من جرائم بحق المواطنين هو من صنع أجهزة النظام المدرّبة على قمع المواطن في الأساس بدل مواجهة الأعداء ، فهل يمكن والحالة هذه أن يكون الحاكم الدكتاتور ضدّ نفسه حتى يوافق على استقدام من سيكبّل يديه ورجليه بالقيود ، وهو الذي يدرك أنه بمجرد توقيعه على البروتوكول يكون قد بَصَمَ سلفا بإبهامه على لائحة إدانته المعززة بكمّ من الوثائق وشهود العيان ، اللّهمّ إلا إذا كانت ماكينة النظام قد استعدّت لفبركة أحداث على الطبيعة تؤكد وجود أياد إرهابية بالفعل تقوم بتفجير أنابيب النفط والغاز وتشنّ هجمات تستهدف الأبرياء والمقار والمؤسسات الرسمية ؟
قبل تجهيز أرضية الفبركة كان رفض النظام بديهيا ومتوقعا ، ولم يأت بدافع الحرص على السيادة ولا الكرامة كما تُردّد أبواقه الإعلامية ، ولا ردا على شعوره بالإهانة من قبل الجامعة العربية التي أثبتت وقائع الأسابيع الأخيرة أنها ـ وبتوجيهات من معظم حكامنا ـ حريصة على عدم إسقاط نظام بشار بأيدي شباب الثورة الشعبية ، ليس بدافع حبّ هؤلاء الحكام له ، بل حرصا على بقائهم في كراسي الحكم وتحسّبا ليوم يصل فيه كل واحد منهم الى وضع بشار الآيل الى مصير القذافي ونظامه ، بدليل هذا الكرم الرسمي والإستثنائي في منحه العديد من المهل المتتالية ، وعدم قطع الجامعة الإتصالات معه لتبادل الآراء حتى بعد أن”زاد على قائمة شروطه السابقة أمورا جديدة لم نسمع بها من قبل” ، حسبما قال أمينها العام نبيل العربي ، إلى درجة أن كل مهلة”أخيرة” منها كانت تتبعها على الفور “أخيرة أخرى” ، حتى وصلت حدود المماطلة الى منحه بعد استنفاذ هذه المهل “مهلة إضافية ” !
ورغم كل هذه المراعاة التي لم تلق من النظام إلا التلاعب وفرض الشروط الإحتيالية المستفزّة التي تمثّلت حتى بعودته التكتيكية للموافقة على البروتوكول بصيغة أوقح من الرفض وأكثر مغالاة في المكابرة بالمحسوس ، عاد أمين عام الجامعة مجددا إلى الطلب من السلطات السورية توقيع هذا البروتوكول لكي يجري رفع العقوبات عنها ، دون أن ننسى أن شرط رفع العقوبات الذي تقدم به النظام يقضي بفورية الرفع بعد التوقيع ، وليس بعد التنفيذ كما يُفترض .
هذا المسلسل بكل تعقيداته كان من الممكن اختصاره وتفادي نتائجه من قبل النظام ، قبل الوصول إلى “زنقة” المراقبين وخيار القبول أو الرفض ، لو تخلّى عن عقدة المكابرة واتخذ قرارا بوقف عجلة التقتيل وتعامل بإيجابية وتعقّل مع مطالب الإنتفاضة الشعبية التي سرعان ما حوّلها بعناده وجبروته الإجرامي الى ثورة شاملة وصلت الى حد إعلان لجان التنسيق المحلية عن بدء”إضراب الكرامة” المفتوح ، واعتباره الخطوة الأولى نحو مرحلة العصيان المدني الشامل الذي سيفضي إلى شلّ كل جوانب عصب النظام .
كان بإمكانه ذلك بدلا من الإصرار على نعت شعبه بالمتآمر والإرهابي والعامل على تنفيذ مؤامرة خارجية. وكان بإمكانه أن يُقلل من حجم كارثته القادمة لا محالة ، وربما كان بإمكانه عندها المطالبة بضمان نهاية له تختلف عما حصل للقذافي ، بدل أن يُصبح من المستحيل عليه اليوم أن ينال نهاية كعلي عبد الله صالح الذي تحايل كثيرا ثم اضطر الى التنازل ، ولو بصيغة لا تخلو من الخبث والتحايل أيضا . لكنه آثر الإستمرار بلعبة المماطلة حتى يتم تجهيز مسرح جريمته الجديدة التي يُتوقع أن تتمثُل بإعداد مجموعات إرهابية تقوم بأعمال القتل واستهداف المرافق العامة وماشابه أمام أعين المراقبين ، إن لم يتم استهداف المراقبين أنفسهم .
ولا نأتي بجديد هنا إذا قلنا أن التحايل والخبث لا يكمنان في المعلم وغيره من موظفي النظام وأدواته ، بل في بشارالرأس الحاكم بأمره . والغريب في هذا الرأس الذي استغربت من تصنّعه الهدوء وإنكاره كل الحقائق أثناء الحوار الذي أجرته معه لمحطة إم بي سي ، تأكيده من خلال أجوبته الإستهبالية على الأسئلة التي وُجّهت إليه أنه فعلا كما وصفه الناطق باسم الخارجية الأميركية ” إما منفصل عن الواقع وإما أنه كما قال هو:” ليس هناك حكومة تقتل شعبها إلا إذاكانت تحت قيادة شخص مجنون” . فهل يُعقل مثلا أن يكون جوابه على السؤال الذي طرحته عليه باربرا : كيف تصف ما يحصل الآن (في سورية) ، بالرد مندهشا :” ..وما الذي يحصل؟ ” .
وحتى عندما رأيناها تسايره على تجاهله وتقدّم له بعض الأمثلة على الجرائم التي ارتُكبت بحق شخصيات معروفة ذكرت ثلاثة منها بالإسم ، ادعى أنه لا يعرف أحدهم ولم يسمع عن الآخر لأنه “غير مشهور!”، ولم يُعلّق على الثالث . ثم ارتفعت وتيرة استهتاره بهذه الحقائق ووعي الدنيا لها فادّعى أن هذه الأمثلة ليست إلا حالات فردية ، وأن أكثرية الذين قُتلوا هم من الموالين للحكومة !
لم يفكّر بشار لحظتها أنه إذا كانت أكثرية الذين يُقتلون هم من موالي النظام على حد ادعائه ، فلماذا يحجب سورية عن كل وسائل الإعلام ، ولا يفتح لها الأبواب كي تُسجّل بالكلمة والصورة كيف أن الشعب يُمارس حرب الإبادة ضد الحكومة “المسالمة”ورجالاتها ؟ أليس من مصلحته ومصلحة نظامه في هذه الحالة أن يُبادر هو ـ لا الجامعة ـ إلى المطالبة بإيفاد مراقبين ، ويُسارع الى توقيع بروتوكول يُنظم هذه العملية دون وضع العراقيل والشروط التي لا يرمي من ورائها غيرالعرقلة والتسويف ؟
ثم ، إذا كان الشعب السوري إرهابيا ومتآمرا وهو الذي يقوم بعمليات القتل الجماعي ، فماذا يقول النظام في وصف أولئك الذين التزموا بالمشاركة في الإضراب ـ وهو بالمناسبة تعبير سلمي بأسلوب سلبي ـ حين اكتفوا بإغلاق محلاتهم ولزموا بيوتهم تجاوبا مع نداء اللجان التنسيقية ، على الرغم من إقدام عسكر بشار وشبّيحته على كسر أقفال المحلات لإرغام أصحابها على الإسراع بفتحها كي لا يجري نهبها ، فهل يُعقَل أن يكون الشعب إرهابيا ومتآمرا لمجرد تجاوبه مع نداء الإضراب ؟
من هذه الزاوية جاءت عملية التوقيع وكلام المعلّم في مؤتمره الصحفي بعد أن استعدّت السلطات السورية بكل أجهزتها لكي تثبت للمراقبين أن كل حبائلها وادعاءاها حقائق لا تشوبها الظنون !
السؤال الملحّ الآن : وماذا بعد ، وكيف سيكون الحل ؟
في محاولتها الإجابة على ذلك روّجت أبواق بشار نقلا عن لسانه أن الثورة ستستهلك ذاتها وسيصيبها الإرهاق مع مرور الأيام ، وأن الجيش سيبقى مواليا له ، وتناسوا أن أجهزة بشار القمعية باتت تجهد بكل الوسائل كي لا تنتقل مشاهد الثورة في المحافظات السورية إلى قلب العاصمة وأحيائها .
وروّج آخرون بأسلوب”المحايد” الحريص على البلد بأهله ونظام حكمه معا ، أن توازن الرعب بين المتصارعين يفتح باب استمرار الوضع على حاله إلى ما لا نهاية . وخلصوا من وراء ذلك إلى أنه لابدّ من إيجاد حل متوازن في المقابل يستند إلى مقولة “العفو عمّا مضى” ، وتناسوا أنه لا يمكن المساواة بين المجرم والضحية .
وليس بعيدا عن هذا الطرح خرج علينا بعض قادة المعارضة كرئيس المجلس الوطني السوري بتصريحات متشعبة ومختلفة الصياغة لكنها تصبّ في نفس السياق . فهو لا يريد التدخل الخارجي ، ولا يريد في الوقت نفسه أن يُواصل الجيش السوري الحرّ تصدّيه لآلة النظام . وعندما يُعرب عن تخوّفه من الحرب الأهلية يُقرن كلامه بالدعوة الى حلّ سلمي ( بين النظام وضحاياه ) . ومع أن أبرز نشاطاته تنحصر في سفرياته المستمرة والتنقّل بمؤتمرات مجلسه من بلد لآخر ، إلا أنه لم يتمكن حتى الآن من تحقيق إنجاز عملي يُذكر، لا لجهة توحيد قوى المعارضة أو توسيع دائرة الإعتراف بها ، إلى آخر المهام التي يُفترض أن ينجح في بعضها أو واحدة منها على الأقل ، بل أتحفنا في الساعات الأخيرة بموقفين : أولهما عرضه على بشار ضمان سلامته وانتقاله إلى أي بلد آمن يختاره ـ بعد كل الإجرام الذي ارتكبه ! ـ ثم مطالبته باستقدام قوات الردع العربية ، متغافلا تجربة هذه القوات في لبنان ، وكيف بقيت شاهدا على المجازر والحرب الأهلية التي استمرت تحت أنظارها ثلاثة عشر عاما بعد دخولها ، أي من العام 1976 الى العام 1989 عندما تم التوصل الى اتفاق الطائف .
ولكن هذه الأطروحات وما شابهها لا تعكس وجه المعارضة الفاعلة التي تمثلها ثورة شعبنا في الداخل ، وما على الباحث عن الحقيقة إلا متابعة سير ما يجري يوميا لجهة تصاعد فعل الثورة ، إلى جانب اتساع دائرة انشقاق الأحرارعن جيش ومؤسسات النظام ، حتى يرى الوجه الحقيقي الذي لا يريد أن يعترف به النظام ، ولا أن تحسم أمرها تجاهه جامعة الحكام العرب.
*كاتب سوري يقيم في باريس