أرشيف - غير مصنف

أبي .. البطل

 

تقول الأسطورة إن البطل الحقيقي هو بطل ميت، شهيد، ضحى بنفسه. لكن، لو نظرنا حولنا فقط، هل يمكن أن نجد في تاريخنا أبطالاً من الحياة اليومية؟
 
أبي كان بطلاً بالنسبة لي، ليس لأنه مشى على سطح القمر أو أنه تعارك مع أسد في كينيا، لكنه كان بطلاً عادياً، رجلاً مثل رجال آخرين، كان شجاعاً وجابه الأقوياء. لم يكن شخصاً مسيّساً. وخرج، مثل الكثيرين من جيله، في مظاهرات للمطالبة بإنهاء الحماية الفرنسية على المغرب. ما أحببته فيه هو كرامته.
 
أتذكره يوم صرح بكل الحقائق لمدير مدرستي الفرنسي الذي كان يريد أن يحولني إلى المدرسة المهنية. وقتها، بداية سنوات الخمسينيات، وحدهم أبناء الطبقة البرجوازية كان لهم الحق في مواصلة دراستهم والحصول على مناصب عمل مهمة.
 
أبناء الحرفيين والعائلات البسيطة كانوا مؤهلين للعمل فقط في السباكة أو الحدادة. والدي لم يكن معترضاً على ممارسة هذه الحرف، لكن، من منطلق كونه تاجراً بسيطاً، فقد تمنى أن يرى أبناءه يدرسون في كبريات المدارس وينجحون أكثر منه.
 
ما زلت أتذكر كلماته مخاطباً بروتانياً مفتخراً بوجوده الكولونيالي: "ابني، وكل أبنائي سينجحون، أنا أعمل بكد لينجحوا في دراستهم". الرجل البروتاني أعجب به. وأسر لأبي: "لو إن كل الآباء مثلك، فلن تعرف المدرسة يوماً مشكلاً". أبي كان بطلاً. في صغره، اضطر للعمل بشكل شاق في منطقة الريف التي كانت تعيش غلياناً.
 
كان يضحي بحياته، المنطقة نفسها كانت تعيش حقبة الحرب الإسبانية، ووصل إليها جمهوريون للانتفاء في الجزء الإسباني من المغرب، ومقاومة الديكتاتور فرانكو. لما كان يحدثنا عن تلك السنوات، كان يشعر بمرارة وحزن، فقد شهد وقتها موت واحد من أعز أصدقائه في الطريق بين مليلة والناظور. ونجا هو بأعجوبة من طلقات الحرس المدني. أبي كان بطلاً لأنه كان متبصراً في كلام رجال السياسة.
 
لم يكن معجباً سوى بشرشيل والجنرال ديغول. لما وصل جمال عبد الناصر إلى الحكم في مصر، آمن، في لحظة ما، بفرضية الرجل المعجزة الذي كان سينقذ العالم العربي. ثم، سريعاً جداً، خاب ظنه. غضب كثيراً يوم 29 أغسطس 1966، يوم أعدم ناصر زعيم الإخوان المسلمين سيد قطب، وهو شاعر، كاتب وقائد سياسي أيضاً.
 
لم يكن أبي متعاطفاً مع الحركة الإسلامية، لكنه يؤمن بأن قتل معارض ليس سوى فعل شنيع. من هذا المنظور، أبي كان متقدماً على زمانه. كان مسلماً ملتزماً، وإيمانه منطقي وعقلاني. كان ضد توظيف الدين لغايات سياسية.
 
ذات يوم، بعدما لاحظ أنني أهملت الصلاة، أخذني من يدي على انفراد وقال لي: "هل تعرف أن بينك وبين الله، لا يوجد أحد؟ لك مسؤولية أمام الله وليس أمام العباد، إذا صليت فأنت تصلي لضميرك واذا لم تفعل فهي قضية لا تخص سوى العلاقة بينك وبين الله". هكذا علمني المعنى الحقيقي للمسؤولية الفردية. يكفي هذا لأقول إن أبي بطل حقيقي. فقد حررني. لاحقاً، لما اكتشفت نصوص السيرة النبوية، فهمت أفضل مفهوم المسؤولية.
 
أبي كان بطلاً لأنه دائماً كان ينتقد سياسة الحسن الثاني. وككل المغاربة، كان يخفض صوته لما ينتقد الملك. كان يخافه لكنه يعبر بصراحة عما يعوق تطور البلد.
 
الأمية، الرشوة، الفقر كانت مواضيع يتحدث عنها أبي بغضب. كان يدرك أن هنالك مخبرين ينقلون كل صغيرة وكبيرة للشرطة. يوم جاء دركيون للبيت، على السادسة صباحاً، بحثاً عني لأخذي إلى ثكنة عسكرية انضباطية، ذلك اليوم، أمي مثل أبي، نددا عالياً بالنظام القمعي. فقد عوقبت، رفقة 94 طالباً آخرين، من طرف الجنرال أوفقير بسبب تنظيم مسيرات شهر مارس 1965. بقيت في الثكنة 19 شهراً. أمي كانت مريضة. أبي ظل صامتاً.
 
وعاش الواقعة باعتبارها ظلماً مبيناً. بعد إطلاق سراحي، وجدت أن والدي قد أضاع بعضاً من حيويته. لم يعد يتجرأ على انتقاد النظام علناً. كانت له روح فكاهية، وكان يلف حول الأشياء دونما أن يتفوه بها مباشرة. ذات مرة، خاطب صحافياً جاء للحديث مع أولياء أمور الطلبة «المعاقبين»، بذكاء قائلاً: «لما قتل كينيدي، شخصان فقط قتلا».
 
كان أبي بطلاً إلى أقصى حد أو تقريباً كذلك. يوم شهد الموت يقترب منه، انتفض. كان موجوداً في عيادة بعد تعرضه لسقوط. الطبيب أخبرنا: "لن يعيش أكثر من أسبوع". أبي سمعه فأخذ يعد الأيام والساعات. لم يكن يريد مغادرة الحياة. متيقناً بأن أمامه أشياء كثيرة لم ينهها بعد. كانت تلك المرة الأولى التي رأيت فيها على خد أبي دمعة. أغمض عينيه وسلم روحه لملائكة الجنة. حينها انهزمت بطولته أمام الواقع. واقع الحياة والموت المر. أفكر فيه كل يوم. بقدر ما أفكر فيه أدرك أنه حي. ليس كبطل ولكن كرجل، متبصر، شجاع، متواضع، راءٍ، رجل كريم باختصار.
 
الطاهر بنجلون / كاتب ومفكر مغربي (مجلة الدوحة الثقافية)

زر الذهاب إلى الأعلى