شهيد الثورة الذي قتلته محطة تلفزية

كانت الأيام الأولى  لفرار مخلوع تونس أياما عصيبة على الشعب التونسي فقد لزم أغلب وحدات قوات الأمن منازلهم إلا ما ندر وترك المجال واسعا للفوضى والانفلات فكانت الفرصة مواتية لبعض المجرمين لممارسة هواياتهم المفضلة في السرقة والنهب وقطع الطرق ولم يكن ذلك إلا أمرا متعمدا ومدبرا  من رؤوس المكر والخبث السياسي الذين كانوا يستعدون للانقضاض مجددا على إرادة الشعب التونسي .

لقد كان الشعب التونسي على عكس ما يصور البعض على درجة فطرية عالية من التيقظ والوعي وأحس بالخطر المحدق على أمنه ومصيره فأنتظم تلقائيا في لجان شعبية  في كل  حارة وكل حي  تحرس الأرزاق والممتلكات وأنتشر الشباب في المفترقات والطرقات يضعون الحواجز و يتفقدون السيارات وينظمون حركة مرور السيارات.

   
حدث ذلك تلقائيا وفطريا في كل أنحاء البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وتناوب الشباب على الحماية والحراسة  فيذهب البعض منهم لأخذ قسط من الراحة في حين يتمركز البعض الآخر في المفترقات الحساسة لمواصلة مهام الحراسة والحماية .

وقد زاد من حدة التوتر وبث الرعب الجماعي بعض وسائل الإعلام من فضائيات وإذاعات المرتبطة تاريخيا وعضويا برموز النظام الفاسد  فقد إنخرطت الاذاعات والمحطات التلفزية في برامج بث الرعب والبلبلة  بطريقة متوازية ومنظمة من خلال برامج مباشرة تحت عنوان : نداء إستغاثة أو صيحة فزع .
وتوالت نداءات الاستغاثة عن طريق الهاتف من كل حدب وصوب وكنا لا نسمع إلا كلمة : أنقذوني … لقد هجموا علي في عقر داري … النجدة النجدة …عصابات هراوات سكاكين سواطير ….

في تلك الأيام العصيبة كان صديقنا وحبيبنا عيسى  تاجر الأقمشة أمام التلفاز يشاهد نداءات الرعب والاستغاثة ولا يكاد يصدق نفسه فقد كان عيسى رجلا طيبا وتاجرا ناجحا يحبه الجميع ويحظى بتقدير أغلب أهالي "المرسى" المدينة الجميلة المطلة على ضفاف البحر الابيض المتوسط  لقد كان يبجل الكبير ويقدر الصغير وسمحا في معاملاته مع الحرفاء .

بعد أن قضى  عيسى يوم 16 يناير 2011 كالعادة في متجره  أغلقه في المساء مبكرا أخذا بقانون منع الجولان في تلك الأيام العصيبة ولما وصل إلى منزله وأستقبلته زوجته الشابة بالابتسامة المعتادة  داعب إبنه الرضيع لفترة من الزمن ثم تناول العشاء ليجلس بعد ذلك أمام التلفاز ليواكب آخر الاخبار وآخر الأحداث .

وفجأة  أتى نداء إستغاثة تلفزية من مكان يعرفه جيدا  لقد كان صاحب المكالمة الهاتفية يصرخ :(لقد هجموا علي بالسكاكين والسواطير وخلعوا أبواب متجري وعاثوا فيه سرقة و نهبا … النجدة النجدة))
لم يكد عيسى يسمع هذه المكالمة التلفزية حتى إنتفض ولبس ملابسه بسرعة وهم بالخروج  فنداء الاستغاثة الذي سمعه كان في مكان لا يبعد إلا بضعة أمتار من متجره أو يكاد .هرول عيسى مسرعا ولا يلوي على شيء ونسي أو تناسى أنه خرج في ظل قانون الطواريء ومنع الجولان فقد غلب عليه الخوف على  سلامة متجره  مورد رزقه  ولم يقدر جيدا مخاطر الخروج في مثل هذا التوقيت الخطير.

لقد حمد الله  وأستبشر خيرا حين وصل قرب المتجر ووجده في أحسن حال ولا تظهر علية أي علامة من علامات الاقتحام أوالخلع  وبقي مدهوشا لفترة من الزمن  حين شاهد االمحل التجاري المحاذي له موضوع  نداء الاستغاثة  التلفزي الذي دفعه للخروج في هذا التوقيت الخطير هو نفسه لا تظهر عليه أي علامة من علامات الاقتحام أو الخلع  ولم يكن يدر بخلده أبدا أن نداأت الاستغاثة هذه إنما هي نداأت وهمية  ولعبة سياسية  خبيثة لبث الخوف والبلبلة لدى الشعب التونسي ليلازموا منازلهم ريثما يتمم بقايا بن علي الطبخة السياسية الجديدة

لكن لما هم عيسى بمغادرة المكان مستبشرا  بسلامة محله  سمع صوت صارخ عن بعد … قف قف وأرفع يديك ……. وعوض أن يقف عيسى ويمتثل للأوامر هم بالهروب السريع فقد كان يعتريه الخوف الشديد وغير متعود على مثل هذه المواقف الطارئة …. وفجأة إنطلقت رصاصتين غادرتين سكنتا في أعلى فخذه الآيمن. وأصابته بجروح بليغة على مستوى الحوض…وتوفي بعدها بأسبوعين وألتحق شهيدا بشهداء الثورةالتونسية .
إنتقل عيسى شهيدا إلى الرفيق الأعلى وترك وراءه أرملة في عز الشباب وطفل رضيع سوف يكبر يوما وسيعرف المجرم الحقيقي الذي  قتل أباه .

هذه قصة أحد شهداء الثورة التونسية  الذي نعرفه إسما ورسما والذي ذهب دمه هدرا ضحية كذب الآلة الإعلامية ونداأت الاستغاثة الوهمية التي بثت خلال الأيام الأولى لهروب المخلوع أما الضحايا الذين لا نعلمهم فهم كثر ولا يحصيهم إلا الله
وفي الأثناء مازالت المحطة التلفزية سيئة الذكر ترفع شعارات الثورة وتخصص برامجها الصباحية والمسائية لإيهام الناس أنها ساهمت في الثورة وأنها  لم تنتظر يوم 14 يناير  يوم فرار المخلوع  لتنخرط في المسار الثوري.

بقلم عادل السمعلي
كاتب من تونس

 

Exit mobile version