حقائق التاريخ لا بد من اعادة قرائتها ونحن نطل على مشهد مفزع فيه كم غير مسبوق من الارتباك السياسي على ارض العزيزة مصر , نظام مبارك – البائد جزئيا – جرف الحياة السياسية المصرية واتبعها بتجريف معظم بؤر التميز الذي دأبت مصر على انتاجه وتصديره الى محيطها العربي والاسلامي فقد مضت عقود لم تعرف مصر فيها قامات ونخب في اي مجال تعدل ما سطره التاريخ من اسماء يمكن بسهولة استحضارها ولسنا هنا لمناقشة هذا الأمر , لكن المؤكد ان صناعة جيل من القامات المتميزة يستلزم بالضرورة مجتمعا خصبا وادارة غير قامعة للمتميزين .
من البديهي في ظل هذا المفهوم ان يتبين المرء ان جل النخب السياسية المتحكمة في المشهد المصري اليوم هي صناعة النظام المصري الذي ساد منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم فنظام مبارك الذي جرف الحياة السياسية في مصر ونقل معظم الثروة القومية الى ايدي نخبة فاسدة انما قام بذلك اعتمادا على عصر من التزييف السياسي لهوية مصر السادات الذي غير بوصلة مصرالرسمية وحتى نشيدها الوطني وهذا انما بني على فترة من الوهم السياسي في العصر الناصري ما لبث ان انكشف مع رحيل ناصر .
ما سبق كان خارطة الطريق التي انتجت معظم النخب السياسية المتواجدة حاليا في المشهد المصري لذلك فقد يجوز لي القول ان السواد الأعظم من رجال السياسة في مصر اليوم هم بالاساس ضحايا وهم وتزييف وتجريف اقترفتها الانظمة السابقة الا من رحم ربي , لذلك فليعذرني القاريء ان التمست بعض العذر لبعض الذين يدفعون مصر نحو هاوية لا يعلم مستقرها الا الله .
حال مصر اليوم يدفعني بالضرورة للترحم على مصر الملكية ولا اخفي سرا اذا قلت ان معظم ما ادهشني في مصر يوم زرتها كان صنيعة العهد الملكي , وانسجاما مع هذا السياق يستلزم ان يتذكر المرء ان مصر كانت دولة دائنة لبريطانيا العظمى في يوم من الأيام ومن لديه شك في ذلك فليراجع كتب التاريخ .
في ثورة يناير المجيدة رفع المصريون شعارا ينطبق حرفيا على اشكال الحكم الثلاثة التي ادارت مصر منذ خمسينات القرن الماضي , فالعيش اضاعه نظام ناصر بامتياز والحرية اطاح بها نظام السادات وابتدع حرية مزورة على مقاسه اما نظام مبارك فقد عصف بالعدالة الاجتماعية وبدلا من النهوض بالطبقة المتوسطة اطاح بها لأسفل سافلين مبقيا على مجموعته من صفوة الشيطان , ولا ننسى ان كل نظام من هؤلاء ابقى على مصائب سابقه وكانها انجازات وطنية .
ازعم ان الثورة المصرية فاجئت حتى مطلقي شرارتها الأولى وازعم ايضا ان فيها من توفيق الله ما يشبه المعجزة وشعارها الثلاثي ( عيش , حرية , عدالة اجتماعية ) كان تعبيرا عن معاناة المصريين من الأنظمة الثلاثة التي سبقت وهذا يعني بالضرورة ان من سيأتي بعد مبارك عليه ان يحل تراكمات كل من سبقوه بعجرها وبجرها , فهل هذا ممكن ؟
عشية ازاحة مبارك كان على الساحة ثلاثة قوى منظمة وذات بعد شعبي مؤثر وقوة لا يستهان بها , الجيش والاخوان وفلول مبارك , الغريب هنا ان باقي جسم الثورة عدا الأخوان كان يتشكل من زخم شعبي وقوى ناشئة اضافة الى احزاب متهالكة لا رصيد شعبي لديها وهذا ما حكم المشهد واثر فيه ولا زال .
عندما الت الأمور الى المجلس العسكري لم يكن امامه من فصيل ذو ادارة وفعالية سوى الاخوان وكان واضحا للجميع ان كل الكرات ستسقط حتما باتجاه الكرة الاثقل وان مسألة حكم الاخوان كانت مسالة وقت شاء من شاء وابى من ابى بما في ذلك الاخوان انفسهم وبالرغم من كل محاولات تاخير استحقاقات الصندوق بدا للجميع ان مصر ذاهبة باتجاه الاخوان فلا احد يقبل بحكم العسكر وبالتاكيد لا احد سيقبل بعودة حكم مبارك من شباك شفيق بعد ان اخرجه الشعب من باب عمر سليمان .
القى الصندوق ما عنده واستفاق الاخوان المسلمين على حجم الكوارث التي تركتها انظمة ناصر والسادات ومبارك , هكذا دفعة واحدة بلا مقدمات , اضف الى ذلك سقف التوقعات العالي الذي اصبح المصري العادي يامله , فالنخب ورجال السياسة وعدوا المصريين بجنة عدن صبيحة اليوم التالي للثورة وهذا خطا اهل الثورة الذي اقترفوه قبل نجاح ثورتهم فقاموا بتسويق الثورة بصورة رومانسية ابعد ما تكون عن الواقع .
الأدهى من ذلك ان المعارضة المصرية والتي كانت شريكة في تسويق الثورة بتلك الصورة اصطفت مع من خدعتهم من الشعب واصبحت تطالب الرئيس بما وعدت به الناس سابقا بل واشتدت في ذلك حتى طالبت باستبدال الرئيس باحد منهم طبعا وكانهم لم يتعلموا شيئا من الدرس السابق .
كم كان ساذجا ان يظهر علينا مرشحوا الرئاسة ومنهم مرسي طبعا ويقذفون اسماعنا بقنابل صوتية بصورة برنامج عمل لانقاذ مصر والصعود بها الى حارة تركيا وماليزيا على الورق طبعا , اقول كلهم كانوا سذج لا يعلمون حجم ما ينتظر احدهم عندما يجلس على مقعد الرئيس ولا املك الا ان اضحك بمرارة وانا استحضر وعود مرسي في المئة الاولى وكيف كان واثقا من ان مشكلة مصر هي مشكلة رئيس لا ياخذ قرارا , هكذا بكل بساطة ظن مرسي ومنافسيه ان الامر لا يتعدى ان ياخذ الرئيس قرارا بان تصبح مصر افضل دولة في العالم فتصبح كذلك لان الرئيس ببساطة قد امر بذلك.
اتخيل ان الدكتور محمد مرسي شد شعره كثيرا وهو يستمع من معاونيه الى حجم المشاكل بل الكوارث التي تمر بها مصر ولا اظنه كان سيترشح للمنصب لو استقدم من امره ما تأخر ولكن الرجل وقد وقع في فخ مبارك ابت عليه كرامته الا ان يصبر وهذا جيد ولكن اسوأ ما فعله مرسي انه صمت ولم يشرح للمصريين ما تناها الى علمه بعد الجلوس الميمون على سدة الحكم .
اظن ان الرئيس يعلم اليوم حجم ما ورط به نفسه واظن ان حزب الحرية والعدالة يدرك حجم السذاجة في التحليل الذي ادى بهم لترشيح رئيس حزبهم لمقعد الرئاسة واستلام ميراث الشيطان الذي لا يكاد يحصره احد .
ايها السادة , انها مصر التاريخ والاهرامات وعمر بن العاص ومصر العروبة ورمانة الميزان في كل امر جلل فلا يسمح لكم باضاعتها , نعم بكل بساطة مصر خط عربي واسلامي احمر بلون الدم واذا سقطت لا سمح الله فليس من سبيل الا الدم ولدى المسلمين منه كثير .