روى صحفيان يعملان لصالح وكالة أنباء "رويترز" مشاهداتهما عن طريقة حكم الإسلاميين لمدينة الرقة التي تعتبر أول محافظة تم تحريرها بالكامل من قوات الأسد.
وينقل الصحفيان صوراً، ربما، قد تعطي صورة مغايرة لما يتم الترويج له عن تلك الكتائب، لاسيما جبهة النصرة التي أدرجتها الولايات المتحدة على قائمتها للإرهاب. ويقول التقرير:
يبدو التوتر والانفعال على أوجه صبية سوريين.. فمنذ ثلاثة أشهر سقطت مدينة الرقة الصحراوية في شرق البلاد التي ينتمون إليها في أيدي الجيش الحر وكتائب الثوار.
والآن يطلي الصبية الأربعة الذين يرتدون السراويل الجينز الضيقة والقمصان القطنية زاهية الألوان جداراً لإعداده لرسوم جرافيتي ثورية.
وأبلغ أحد الصبية اثنين من الصحفيين "سيكون هذا الرسم عن دور الأطفال في الثورة".
لاحت سيارة ميتسوبيشي بيضاء وقفز منها رجل ملثم يرتدي سراويل مموهة وطلب من الصحفيين تعريف نفسيهما. قال الرجل إنه من جبهة النصرة.
التزم الصبية الصمت حتى ابتعد الرجل ثم بدأوا الحديث عن كيف تغير وجه الحياة في المدينة التي يقطنها نحو 250 ألف نسمة منذ رفع الإسلاميون رايتهم فوق مكاتب المحافظ السابق.
قال صبي "يريدون دولة إسلامية لكن معظمنا يريد دولة مدنية.. نخشى من أن يحاولوا أن يحكموا بالقوة".
وبينما كاد ينتهي من جملته عادت نفس السيارة لينزل منها هذه المرة رجلان ملثمان يحملان بندقيتين كلاشنيكوف.
قال أحد الرجلين "الرسم ممنوع هنا". كان الجرافيتي قريباً للغاية من مقر المجموعة. أبدى أحد الصبية احتجاجاً سريعاً يكاد يكون غير مسموع.
أضاف الرجل "نعتذر.. لكن الرسم حرام". تحسس زميله لحيته الطويلة وقال "لسنا إرهابيين. لا تخافوا منا. بشار هو الإرهابي".
يجسد هذا الموقف تحولاً مهماً يجري في المناطق التي يسيطر عليها المقاتلون في سوريا. فمن خلال الاستعانة بمزيج من التخويف والتنظيم تملأ التحالفات بين كتائب إسلامية الفراغ في المناطق التي انسحب منها جيش الأسد وفشل المقاتلون الأكثر علمانية في تحقيق النظام كما أظهرت زيارة قام بها صحفيون من "رويترز" استمرت عشرة أيام للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
تضم الجماعات الإسلامية تنظيمات تابعة للقاعدة وجماعات أخرى أكثر اعتدالاً لذا فإن طبيعة حكمهم معقدة. فهم يديرون المرافق والمخابز وفي مدينة قرب الرقة يشغلون سداً كهرومائيا. كما يجرون المحاكمات ويطبقون العقوبات على المدانين.
وتساند الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى الائتلاف الوطني السوري وهو مجموعة تضم شخصيات معارضة مقره القاهرة. لكن الائتلاف لا يتمتع بنفوذ يذكر على الأرض في سوريا لذا يلجأ السكان المحليون بشكل متزايد للإسلاميين كأفضل بديل عن الفوضى.
وتسعى جماعات إسلامية مثل جبهة النصرة وحركة أحرار الشام إلى إقامة دويلة إسلامية صغيرة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
يقول مسؤولو أمن أمريكيون وأوروبيون إن جبهة النصرة تحصل على التمويل من العائلات الثرية في السعودية وقطر. ويقول مقاتلون إسلاميون سوريون إن المقاتلين الأجانب يجلبون المال وأن المغتربين السوريين ومواطنين يقيمون في الخليج يريدون الإطاحة بالأسد يمدون لهم يد العون.
وأبلغ أعضاء من حركة أحرار الشام التي تضم عدداً أقل من المقاتلين الأجانب مقارنة بجبهة النصرة "رويترز" أنهم يكسبون المال من إقامة مشروعات استثمارية والاستيلاء على البنوك.
* ما لم تعرفه عن النصرة
وحتى الآن اكتسب الإسلاميون تعاطف كثير من سكان الرقة – ومن بينهم من يعارضون آراءهم الأخلاقية المتزمتة ومسألة الخلافة الإسلامية – نظراً لما يظهرونه من ضبط النفس.
وتصور إعلانات وضعتها جبهة النصرة شخصية ترتدي النقاب وتقول للنساء "مثل اللؤلؤة في احتشامك." ورغم ذلك يمكن للسافرات السير بحرية في شوارع الرقة وقال أحد السكان إنه لا يواجه أي مشكلة في الحصول على الويسكي مادام يتعاطاه خفية.
وفي إحدى ليلات شهر يونيو حزيران نظم السكان معرضاً لبيع المشغولات اليدوية لجمع المال للأسر الفقيرة. واختلط النساء والرجال بينما كانت الموسيقى تنبعث من جهاز ستريو.
قالت ريما عجاجي وهي امرأة محجبة شاركت في تنظيم المعرض أن وسائل الإعلام تفتري ظلماً على جبهة النصرة "يوصفون بأنهم إرهابيون ونحن لا نقبل ذلك.. إنهم أولادنا نحن وهم شيء واحد يدافعون عنا وندافع عنهم".
وقالت وهي تلوح في أنحاء الغرفة مشيرة إلى نساء يرتدين أغطية رأس وثياباً زاهية اللون وبعضهن سافرات "نلبس ما نشاء. هل ترى هؤلاء الفتيات؟ الجميع أحرار في الاختيار." وأضافت عجاجي أنه إذا كانت جبهة النصرة تريد فرض قانونها على الناس لكانوا أغلقوا هذا المعرض.
وأشار سكان آخرون إلى الجامعة التي أغلقت أبوابها نحو الشهر بعد أن استولى المقاتلون على المدينة لكنها تعمل الآن بشكل طبيعي إلى حد ما. وداخل الحرم الجامعي يتجاذب شبان وشابات أطراف الحديث في الممرات ويتناولون الوجبات معاً في الكافتيريا المزدحمة. ولا يسمح للجماعات المسلحة بالدخول.
يقول أحمد جابر (22 عاماً) طالب الكيمياء وعضو اتحاد الطلبة إن نحو 80 في المئة من الطلبة ينتظمون في المحاضرات والاختبارات تمضي قدماً. وأضاف أن الحياة تحسنت في الرقة خلال الشهور القليلة الماضي رغم وجود خلافات بين الكتائب الإسلامية والوحدات العلمانية.
وقال جابر "من مصلحة الجميع حل خلافاتهم". وبعد أن استولى المقاتلون على الرقة نظم بعض السكان مظاهرات للمطالبة بدولة مدنية. ودعا آخرون يأخذون جانب الجبهة لتشكيل حكومة إسلامية. لكن منذ ذلك الحين اتفقوا على تنظيم احتجاجات لا تنادي إلا بسقوط الأسد.
يقول جابر "بعد جحيم النظام نعتبر هذا وضعا ممتازاً.. نعم هناك فراغ أمني وفوضى وأحياناً نزاعات لكن الوضع أفضل كثيراً عن ذي قبل".
وأشارت الطالبة المحجبة سلوى الجنابي (27 عاماً) إلى أن ايديولوجية الإسلاميين ليست مهمة على الأقل في الوقت الراهن.
تقول "ما يقلقني أمور تتجاوز الحجاب والنقاب" وأن الشيء الأهم الآن هو "التحرر والحرية. الحرية الحقيقية".
وقال محمد الشايب (26 عاماً) وهو عضو في جماعة علمانية إنه يتشكك في الإسلاميين لكن ليس أمامه من بديل آخر حالياً "في الوقت الراهن نعمل وفق مبدأ عدو عدوي صديقي".
وعند توجيه سؤال لأي شخص في الرقة عن المسؤول عن إدارة المدينة عادة ما يكون الرد إنهم أحرار الشام وهي جماعة فضفاضة من فصائل إسلامية محافظة تولي اهتماماً كبيراً بمشكلات الإدارة المدنية مقارنة بالفصائل المقاتلة الأخرى.
والحركة التي تتعاون عن كثب مع جبهة النصرة تفضل أن تطلق على نفسها اسم حركة وليس لواء أو كتيبة، ويقول أعضاؤها إن الهدف هو توضيح أن الصراع من أجل سوريا لا يتعلق بشن الحرب وحسب.
يقول أبو محمد الحسيني (30 عاماً) الذي يرأس المكتب السياسي لأحرار الشام في الرقة "منذ اللحظة الأولى كنا نريد تحقيق العدالة والأمن وأشياء مثل توزيع الخبز. هذه فكرة أساسية".
وتساعد الحركة في توفير الكهرباء والمياه ويحرس مقاتلوها صوامع الحبوب بينما يتولى آخرون حماية سلاسل التوريد من حقول القمح إلى المخابز لضمان سلاسة عملها.
ولا يزال معظم أجزاء البلدة يدار بنفس الطريقة التي كان يدار بها قبل أن يهيمن عليها المقاتلون وقال الحسيني "هناك بعض الجماعات لا تهتم سوى بالقتال لكن لدينا أهدافاً أخرى" من بينها ضمان توفير الخدمات "جنباً إلى جنب مع الكفاح المسلح ضد بشار".
وأردف أنه ليس هناك من خلافات كبيرة بين أحرار الشام وجبهة النصرة التي تختلف معها أكثر في "تفاصيل العمليات". ورفض مناقشة ما يمكن أن يكون عليه شكل الحكومة السورية في المستقبل لكنه قال إن الإسلام "له رؤية في بناء المجتمع".
*تعليق الحدود
تأتي على رأس الخدمات العامة التي أقامها المقاتلون الهيئات الشرعية التي تعمل كنظام قضائي بدائي. وتساعد في تقديم الخدمات الضرورية وهي أقرب ملمح من ملامح الحكومات في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
وقال بعض الأعضاء إنه يعمل في هذه الهيئات كبار السن من الرجال في المنطقة. ويجري الزعماء المحليون المناقشات ويعينون أعضاء من بين صفوفهم. وترسل أكبر الكتائب الكبرى في المنطقة ممثلين يعملون غالباً كمدنيين في الهيئة. وتميل الكتائب الإسلامية إلى أن يكون لها تأثير أكبر من الجماعات العلمانية بسبب ثقلها النسبي وقدراتها ولأنها من بين أول من شارك في إقامة هذه الهيئات.
وبالنسبة لكثير من الغربيين يمكن أن يحمل مصطلح "الشريعة" دلالات مثل اضطهاد الأقليات وكبح حقوق النساء وتطبيق الحدود مثل الرجم والجلد وقطع الرأس. لكن بالنسبة للسوريين في المناطق المحافظة التي يهيمن عليها المقاتلون يختلف التصور كثيراً.
وكانت المحاكم التي يديرها المقاتلون ناجحة نسبياً لأن كثيراً من الأمور التي تتعامل معها عادية إذ تتعامل مع النزاعات المالية وتوفر شكلا من أشكال تسجيل الأراضي وفي بعض الحالات تمنح تراخيص لتصدير واستيراد السلع من وإلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة.
وحتى مع الجرائم الخطرة لا تصدر معظم المحاكم عقوبات قاسية لوجود نص في الشريعة الإسلامية بتعليق معظم الحدود في فترات الحرب. وعادة ما تتم تسوية معظم القضايا عن طريق دفع غرامة للضحية أو بعقوبة سجن مخففة.
وأكد عضو في الهيئة الشرعية يطلق على نفسه أبو عمر أن الهيئة تفعل ما بوسعها لتحكم بالعدل ولا تطبق أحكام الشريعة بصورة صارمة وتتعاون مع الجماعات غير الإسلامية بشكل منتظم.
وقلب أبو عمر بين يديه ملفاً يضم سيراً ذاتية للمتقدمين للالتحاق بقوة الشرطة الناشئة مشيراً إلى أن معظمهم تقريباً من خريجي الجامعات وقال إن مسيحياً يرأس مكتب القمح في البلدة وأضاف "نستفيد من النقاش مع مختلف الجماعات".
ومع ذلك فتأثير الإسلاميين على المحاكم لا يمكن أن تخطئه عين.
وفي سلقين البلدة الواقعة في شمال غرب محافظة إدلب يقول سامر راجي نائب رئيس الشرطة إن الكتائب المقاتلة المحلية الرئيسية باستثناء جبهة النصرة أوفدت ضباطاً إلى العاملين في قوة الشرطة وقوامها 30 رجلاً، لكنه أضاف أن الشرطة أحياناً ما تلجأ إلى الجماعات الًسلامية "كملاذ أخير" لتنفيذ أحكامها.
وتابع قائلاً "مكالمة واحدة من أمير جبهة النصرة لقائد كتيبة تضم رجلاً مطلوباً للقبض عليه كفيلة بأن يمثل الرجل أمام المحكمة". وأشار إلى قضية لم تحل لسيارة فإن سرقت وقال إنه يمكن الاتصال بجبهة النصرة لإعادتها.
ويقول أعضاء الهيئات التي يديرها المقاتلون إن من اختصاصهم محاسبة الكتائب لكن أحياناً يطبق المقاتلون القانون بأيديهم وفي هذه الحالة تكون عقوبتهم رادعة.
*الهيئة الشرعية
وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو جماعة مناوئة للأسد، إنه في مدينة حلب أعدم مقاتلو دولة العراق الإسلامية في العاشر من يونيو حزيران صبياً يبلغ من العمر 15 عاماً أمام والديه لتلفظه بكلمات اعتبروها كفراً. ونقل المرصد عن شهود قولهم إن مسلحين جلدوا الصبي محمد قطاع قبل أن يطلقوا عليه النار في الوجه والعنق.
ونقل شهود عن عضو في دولة العراق الإسلامية قوله وفقاً لتقرير المرصد إن هذا سيكون جزاء من يقدم على مثل هذا التصرف.
ونفوذ الإسلاميين قوي بصورة ملحوظة في المناطق التي يسيطر عليها المقاتلون في حلب. ولجبهة النصرة مقر في مستشفى الأطفال القديم هناك ورفعت عليه رايتها السوداء التي تحمل الشهادتين بحروف بيضاء اللون.
وتتخذ الهيئة الشريعة التي يسميها أهالي حلب "الهيئة" من المستشفى الوطني القديم المجاور مقراً لها. وتقول لافتة في الخارج إنه غير مسموح بدخول غير المحجبات. وفي الداخل يسير رجال ونساء في ممرات مظلمة ضيقة يمسكون بأوراق.
وقال أبو البراء المقاتل في أحرار الشام (22 عاماً) الذي يعمل حالياً في تسجيل أسماء السجناء لرويترز إن المحكمة "مطلقة اليدين" ويمكنها اعتقال أي شخص يقترف إثماً. وهذه القرارات من سلطة مجلس تنفيذي يتكون من أعضاء من جميع الكتائب الأربع الرئيسية في المنطقة ومن بينها جبهة النصرة.
وأضاف أبو البراء أن الهيئة تعمل وفقاً "لأحكام الشريعة الإسلامية المتشددة" لكنها امتنعت حتى الآن عن تطبيق معظم العقوبات القاسية وعبر عن أمله في أن تصبح أكثر صرامة بعد الحرب. وذكر أنه في بعض الحالات صدرت أحكام بالجلد وسجن ثلاثة رجال لمدة يومين بعد ضبطهم وهم يشربون الخمر.
ورداً على سؤال عن قضايا الاغتصاب قال إنه لا يتذكر سوى قضية واحدة لم يتم البت فيها إذ أنكر الرجل التهمة والمحكمة لا تزال تحقق وتتحرى عن سمعة المرأة.
وأضاف بالانجليزية "لو كانت شخصاً صالحاً.. الفتاة لم تكن لتستسلم لرجل غريب".
وما يجري في هذا المبنى وطموحات أشخاص مثل أبو البراء يديرون الحكومة الوليدة يظهر ما يمكن أن يكون عليه شكل المستقبل في المناطق الخاضعة لهيمنة المقاتلين في سوريا.
وبدأت هيئة حلب العمل بنحو عشرة أشخاص "أرادوا إقامة العدل" كما يقول أبوالبراء. ويضيف انه يتبع الهيئة حالياً نحو 12 فرعاً في المدينة وأكثر من ذلك في أنحاء محافظة حلب. وفي نهاية المطاف يأمل أبو البراء في أن تكون نواة الدولة.
يقول "يجب أن يكون هناك شخص مسؤول.. كنا جميعاً ننتمي إلى أحرار الشام. ثم انضمت إلينا الكتائب الأخرى فزاد حجمنا أكثر وأكثر.. هذه هي الطريقة التي تجري بها الأمور. تبدأ صغيراً ثم تكبر أكثر فأكثر".