يقول أين سينا أن الله هو واجب الوجود , نعم فلا يمكن أن يكون موجوداً , فكل موجود لا بد أن يكون هناك من أوجده , هكذا أذن يجب أن يوصف الله , فكيف يجب ان نوصف نحن , فمن نحن ؟ من أنا ؟ من أنتم ؟ من أنت ؟ ومن نكون ؟ , هل من الممكن أن يكون الإنسان مجرد حيوان مفترس , مجرد آلة للتدمير لا تحيى سوى على لحوم ودماء البشرية , آلة تنبأ بأن البقاء للأقوى , للأكثر فتكاً وقهراً وإبادة , وكأن الحياة ليست حقاً للجميع , أو لنقل وكأن الموت هو سنة الحياة تحت سطوة الأقوياء .
هناك من يقول بأن الكون نشأ من مادة أولية أزلية , هنا يجب أن أسألهم من خلق هذه المادة أو كيف نشأة وتكونت , وهل من الممكن لكائن غير عاقل أن يخلق كائنات عاقلة بل وأن يخلق الكون على هذا النحو المنظم والمحكم , لا أعتقد ذلك , لذا لا بد وأن يكون لهذا الكون إله واحد , فعندما سؤل في ذلك الإمام أحمد أبن حنبل قال للسائل , ماذا بعد العدد أربعة قال ثلاثة قال وماذا بعد الثلاثة قال إثنان قال وماذا بعد الإثنان قال واحد قال وماذا بعد الواحد فقال له السائل صفر , وإذا نظرنا في هذه المحاورة سوف نجدها تتفق مع الفطرة العقلية البشرية التي تسير بمنطق محكم ( رياضي ) مهما أختلفة أنواعه ومجالاته , لكي تستطيع البشرية أن تصل إلى حقائق يقينية في الأمور المختلفة كما ذكرت في مقال سابق , فلا يمكن أن يكون هناك إلهين وإلا فمن خلقهما , كما أنه لا يمكن أن يكون هناك خالق لإله واحد , فالمنطق يقول أنه لا بد أن تكون هناك بداية لكل شيء , فقبل الواحد صفر , والصفر يساوي العدم , أي اللا شيء , كما انه لا يمكن تجزءة الواحد إلى النصف أو الربع لأنها أجزاء من الكل , كما انها ناقصة , ويجب على من خلق هذا الكون أن يكون كاملاً .
هل البشر يولدون أخياراً أم أشراراً , هكذا يجب أن تكون البداية , فلن نعلم ما يجب أن نفعله إلا إذا علمنا من نكون , أعتقد أن الإنسان يولد وفي فطرته الخير والشر , لكن سلوكه أي من المسلكين يعتمد على عاملين أثنين , الأول رغبته في أن يتبع فطرته السوية ( عقله وحدسه العقلي والقلبي ) لكي يكون ما يجب أن يكون عليه , لكي لا تتحول الأنا إلى حالة الإغتراب الإرادي وبالتبعية يتحول الآخر إلى مغترباً قهرياً , والثاني هو التربية التي من الممكن أن تسير في الإتجاه الطبيعي للنشأة السوية أو على العكس تماماً أن تسير عكس الطبيعة السوية للإنسان وما يجب أن يكون عليه فينشأ الإغتراب القهري للذات الذي يتحول في نهاية المطاف إلى إغتراب إرادي , فالفرق بين الإنسان والحيوان كما ذكرت في مقال سابق يكمن في أنه قادر على الإختيار بإستخدام عقله وقلبه , وبالتبعية عدم الركون إلى ذلك الجزء الحيواني بداخله النهم دائماً للفتك والسيطرة والإبادة والسرقة والإغتصاب .
أذن هل أنا مسير أم مخير , الجواب على هذا السؤال يكمن في السؤال التالي , كيف أكون حراً والله كتب من أنا ومن أكون ومن سأكون في المستقبل , أعتقد أن الجواب عند العلامة محمد عبده الذي قال بأن الله يعلم ذلك بعلمه المسبق , والعلم هنا كعلم القاضي الذي يعلم بأن الفرد إذا سلك هذا المسلك أو ذاك سينال الثواب أو العقاب , لكني سأتمادى قليلاً وأقول بأن الله يعلم بعلمه المسبق ما سأفعله وأختاره بكامل إرادتي فكتبه علي , وقد يسأل سائل لما أذن كتبه عليك ولم ينتظر حتى تفعله , أقول له بأن علم الله أزلي ومطلق ودقيق ولا يقبل الخطأ , وقد يسأل آخر كيف ذلك وهناك أمور تغير القدر مثل الدعاء , أقول له بأن الدعاء يكون لله \ المطلق أي أنه هو الوحيد القادر على مساعدة الإنسان وتغيير ماكتبه عليه , وهو أيضاً يعلم بعلمه الأزلي أن الإنسان سيدعوه في تلك اللحظة فيغير ماكتبه عليه , وقد يسأل آخر ولما كل هذا لما لم يكتبه عليه منذ البداية , أقول له لكي يعلم الإنسان أنه حر في الإختيار ما بين الحق والباطل وأنه حر في ان يسلك هذا الدرب أو ذاك حتى وأن كُتب عليه غير ذلك في القدر في باديء الأمر , لكنه غير قادر على أن يفعل ذلك بمفرده لأنه ناقص ونسبي , لذا يحتاج إلى الله \ المطلق فهو الوحيد القادر على أن يغير ما كتبه عليه , وهنا يجب أن أنوه إلى نقطتين فرعيتين لكنهما مرتبطتين إرتباطاً وثيقاً بقضية المطلق والنسبي , فالإنسان يدرك الأمور عن طريق الحواس التي هي بطبيعة الحال ناقصة ونسبية في تكوينها , هذا مع الأخذ في الإعتبار عاملي الزمان والمكان , وهذا لا يعني أنني أويد النزعة اللاإدرية , وذلك لأن للإنسان قدرات عقلية وقلبية تعتمد على التفكير والحدس الذين لا يختلفان في آلياتهما مابين إنسان وآخر , كما أن هذه الآليات تجعل الإنسان يستطيع أن يعي ما هو خلف المادي والملموس , أي أن يعي المطلق , لكنه مع ذلك لا يصبح مطلقاً بأي حال من الأحوال , النقطة الثانية متعلقة بالتمييز بين كل من العقيدة والشريعة والمعجزات , فالإنسان كما قال محمد عبده يجب أن يثبت بعقله أن الله هو واجب الوجود – لأن تلك قضية تتعلق بعمق وصدق الإيمان – وسأضيف إليه القلب أيضاً , لكنه لا يجب أن يسأل في الأمور المتعلقة بالشريعة , كلما أصلي العصر أربع ركعات مثلاً , فالشريعة على ما اعتقد في أمور العبادات مرتبطة بالطريقة التي يحب ويرضى الله أن يُعبد بها , أما فيما يتعلق بالمعاملات فهي قائمة بصورة تحفظ حقوق الإنسان وتبعد الضرر عنه وتحمي حقوق الآخرين كالربا ومضاره الإقتصادية على سبيل اللمثال , وهنا أختلف مع محمد عبده فحين يختلف العقل مع النقل يجب أن أرجح كفة النقل لا العقل كما قال محمد عبده فهو يرى أنه يجب ترجيح كفة العقل حتى أستطيع أن أعي بعقلي المقصد الحقيقي للنقل , وهذا لنفس السبب السابق الذي ذكرته في حديثي عن المطلق والنسبي والمعرفة المطلقة والمعرفة النسبية , ولكن لا يعني هذا بأن تصبح الضرورات لا تبيح المخظورات , أو عدم وقف تطبيق بعض الحدود في حالة عدم توفر الشروط اللازمة لتطبيقها , لأن هذه أمور شرعية أساساً ومستنبطة من الأصل ومرتبطة بحياة الناس الواقعية وما يعترضها من مشكلات , وهنا يجب أن أنتقل إلى نقطة أخرى في الشريعة وهي أن الإستنباط من الشريعة يكون بعد الإيمان بها , أي أنه إستنباط من أصولها , بعكس التفكير في العقيدة الذي هو تفكير في صحة الأصول من الأساس , أما فيما يتعلق بالمعجزات فإذا كنت أؤمن بأن الله هو المطلق الكامل فهو أذن قادر على أن يفعل ما لا أستطيع أنا أن أفعله فأنا ناقص ونسبي , وبذلك تكون المعجزة دليل عيني على قدرة الإله وعلى أنه هو واجب الوجود .
صحيح يجب على الإنسان أن يحقق الوجود الفعلي لماهيته بما يتناسب مع تلك الماهية " القدرات الوراثية ( الدنا ) والقدرات المكتسبة ( الحياة ) " وليس مع كل ماهو غير سوي يفرضه المجتمع عليه فهو ناتج عن فعل بشري مغترب إرادياً يؤدي في النهاية إلى الإغتراب القهري للذات , لذا لا بد أن تكون أحلام هذه الماهية أحلاماً غير مغتربة إرادياً من الأساس , وهنا تدخل الأخلاق إلى المعادلة بمشروعية هذه الأحلام المتوافقة مع الماهية ومشروعية السبيل إلى تحقيقها .
بالرغم من أن البشر يفكرون بطرق مختلفة وبطريقة تلقائية على حسب الموضوع الذي يفكرون فيه , سواء كان واقعياً أو علمياً أو ميتافيزيقياً أو شرعياً , إلا أن غاياتهم يجب أن تكون مشروعة , وكذلك الحال في السبيل إلى تحقيقها , فإذا كانت المشكلة واقعية على سبيل المثال , يجب عليهم أن يتبعوا المنطق البرجماتي بقاعدتيه المرتبطتين بالمعنى والصدق , ولكن هذا لا يعني أن يكون السبيل لحل المشكلة غير مشروع أخلاقياً , وإلا أصبحوا مغتربين إرادياً لا على مستوى إتباع المنطق السليم في قضية معينة ولكن على المستوى الأخلاقي الخاص بما يجب أن يؤمنوا به وأن يطبقوه في حياتهم الواقعية , بل ويصبح شغلهم الشاغل في هذه الحالة هو تحقيق أي غاية وبأي وسيلة كانت .
الحل أذن في الضبط الذاتي والإجتماعي , فقد فرق بعض الفلاسفة ومن بينهم برجسون بين القانون الطبعي والقانون الأخلاقي فالأول يقرر كما قال برجسون والثاني يأمر , الأول لا يمكن التخلص منه بينما الثاني يمكن أن ينفذه الفرد أو لا ينفذه , الأول يكون من الذات بينما الثاني يكون من المجتمع , لذا لا بد أن يكون هناك ضبطاً ذاتياً بمعنى أن يكون الإنسان متوافقاً مع فطرته السوية وألا يغترب عنها , كما يجب أن يكون الضبط الإجتماعي متوافقاً مع هذه الفطرة وإلا أصيب الإنسان بالإغتراب القهري , بل ويؤثر في هذه الحالة عدم الإنصياع إلى القانون الأخلاقي , وهنا أتفق مع برجسون في أن الدين يستطيع أن يسد تلك الثغرة بين القانون الطبعي \ الأخلاقي والقانون الأخلاقي \ المجتمعي كما أحب أن أسميهما , " لأن الدين يمثل النظام العلوي الذي يتسم بالكمال والإنسجام بطريقة ذاتية تلقائية " (1 ) .
( 1 ) نعمت حافظ , الفكر التربوي وتطبيقاته .